سؤال مُركَّب طرحه فرويد في ما مضى، وحاول تقديم الإجابة عليه. وعلى الرغم من اكتشافه لللاشعور ومساهمته الكبيرة في شرح العمليات النفسية بشكلَيْها الأوليّ والثانويّ، إضافةً إلى اكتشافه للكثير من الآليات النفسية مثل آلية الكبت، إلا أنه ظلَّ بعيداً عن المجازفة بإسقاط ما هو نفسيّ على مناطق طبوغرافيَّة في المخّ. حتى أن تقسيماته للذات، على غرار "الأنا" و"الأنا الأعلى" و"الهو"، كانت توضيحيّة أكثر من اعتباره لها مراكزَ عصبيةً.
الإنجاز تمَّ في مرحلة ما بعد فرويد، وتحديداً من خلال "علم النفس الفسيولوجي". فاليوم صار معروفاً لدى العِلم أن ما كان يُسمَّى باللاشعور هو المناطق الدماغية المهاديّة والتي تقع تحت قشرة المخّ، والتي تمثّل بدورها ما كان يُسمَّى بالشعور أو الوعي إضافةً إلى الإرادة.
وللتوضيح: تُسمَّى الأعصاب الصادرة عن الدماغ بالأعصاب الإرادية، كما تُسمَّى الأعصاب الناشئة عن العقد خارج الدماغ بالودّية أو الذاتيّة.
تنشأ الأعصاب الودّية هذه من محيط النخاع الشوكي الواقع ما بين الفقرة الصدرية الأولى والفقرة القطنية الثالثة، لذلك فإنَّ الجهاز العصبي الودّي ذو تدفق صدري قطني. وبالنتيجة فإن قشرة المخ تمثّل الوعي والسيطرة الإرادية، بينما يُمثّل المهاد التصوُّرات والرغبات اللاواعية.
الفرق ما بين اللاشعوريّ واللاإراديّ هو الفرق ما بين الذهنيّ والعمليّ.
وكل ما هو غيرُ إراديّ يقع تحت الدماغ، أي في النخاع الشوكي ومنظومة الأعصاب التي تُحيطُ بهِ وتُعصِّب كلَّ عضو في الجسم (مثل الكلية والبنكرياس والكظر وغيرها)، إضافةً إلى الجهود المُساعِدة لـ"النظام العصبي نظير الودّي" والمُرتبط بالنُخاع المستطيل وبعض أجزاء الدماغ والذي يُشكِّل، مع الجهاز الودّي، ما يُسمَّى بالجهاز العصبيّ الذاتيّ.
وتالياً، فإن الجملة العصبية الذاتيّة هي همزة الوصل ما بين أفكار وأوامر قشرة المخ وبين كلّ وحيد خلية في الجسم، إن صح التعبير، والعكس صحيح.
إنَّ التطوُّر الذي شهده التحليل النفسيّ، بعد استفادته من علم النفس الجسميّ، لم يتوقّف عند هذا الحدّ في تقريب المسافات بين كلّ ما هو محسوس وبين ما هو ملموس: فما كان يُعرف بالمرض النفسيّ أو بالعُصاب يتم إرجاعه اليوم إلى اضطرابٍ في وظائف الغُدَد. بينما نجد بأنَّ سبب المرض العقليّ، أي الذُّهانيّ، اضطرابٌ دماغيّ. أضف إلى ذلك اكتشاف المركز العصبيّ المسؤول عن الإحساس بالضمير (أي الأنا الأعلى). وغير ذلك الكثير الكثير.
وختاماً، فإن الإجابة عن سؤالنا الاستهلاليّ: أين ينتهي المعنويّ؟ وأين يبدأ الماديّ؟ أو أين يلتقيان؟ هي كامنةٌ في الجُملة العصبية الذاتيّة أو الإعاشيّة وبها، أو من خلالها يتمُّ ذلكَ التحويل الـمُذهل من ذهنيٍّ إلى خلويٍّ وبالعكس، وبسببها وعن طريقها يُصاب المريض عضويّاً بوهنٍ نفسيّ، بينما يُصاب كلُّ من أُرهِقَ نفسيّاً باعتلالٍ عضويّ.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.