قرر المجلس المحلي في قرية اسمها "الحالة", يبلغ تعدادها أقل بقليل من الفي نسمة, ان يلزم الجميع منازلهم في محاولة يائسة لمحاربة وباء كورونا. وأقفلت المحال والمطاعم والمكاتب ودور العبادة, باستثناء مخفر الشرطة, المتجر الكبير, وصيدلية واحدة.
تشير سجلات القرية, الى وجود مائة متجر, مركز صحي واحد, مدرستان, سبعة مساجد بين متوسطة وصغيرة الحجم, أربع كنائس بين صغيرة وكبيرة, ومعبد هندوسي يصلي فيه بضع هنود يعيشون هنا. ولا تشير السجلات الى أي كنيس يهودي, وإن أشارت الى وجود اربع عائلات يهودية تسكن القرية.
القرية, التي كانت عامرة بالتجارة والأحلام والمال, ما عاد شيء يتحرك فيها حتى الهواء. وعم الصمت الشوارع والأزقة. نباح كلاب هزيلة, او مواء قطط جائعة, هو كل ما يملأ فضاؤها.
لساعتين لا أكثر كل صباح, يمتد طابور صامت وضجر امام المتجر الوحيد. بعدها, يخيم الصمت الثقيل والعزلة.
بعد يومين, صدر قرار من المجلس المحلي بتقنين استخدام الكهرباء, فلا وقود يكفي لعمل المولدات اكثر من ثلاث ساعات في اليوم. حتى شبكتا الهواتف والأنترنت توقفتا. وراحت القرية تعيش عزلة جافة.
في صبيحة أحد الأيام, وبينما دورية للشرطة تجوب القرية, رأت دراجة نارية تقترب من وسطها. اقتادت الدورية السائق الذي اخترق حظر التجوال, دون ان تسأله من يكون. وفي مركز الشرطة بدأ التحقيق معه.
من أنت, ولماذا اخترقت حظر التجوال؟
سيدي, انا ساعي البريد, احضر من المدينة كل اسبوع الى قريتكم هذه.
لكنك تعلم ان معضم القرى المجاورة قد عزلت نفسها عن العالم, خوفا من تفشي الوباء, فكيف تتجول أنت؟
صدقت, وحتى الكهرباء هناك ما عادت موجودة, لذلك باتت الحاجة الى عملي اكثر من قبل. فأنا صلة المعزولين بالعالم.
سنرفع امرك الى المجلس المحلي, ونرى ما يقول.
تمت استضافة ساعي البريد في المخفر لعدة أيام, ينتظرون رأي المجس فيه.
في السجن...
ما جريمتك؟ سأله احد الموقوفين.
اخترقت الحظر. وأنت؟
السرقة.
قبل الوباء ام بعده؟
هههه.. بعد الوباء ما عاد شيء يسرق. لكن لماذا اخترقت انت حظر التجوال؟
لأني ساعي البريد.
وهل تخاطر بحياتك كي توصل البريد الى الناس؟
إن لم افعل, فسينقطعون عن العالم.
لا بد انهم يعطونك اجرا جيدا كي تفعل ذلك في هذه الظروف.
أبدا, حتى انهم قد توقفوا عن دفع مرتبي.
لماذا تعمل اذا؟
أخبرتك, كي يبقى الناس على تواصل مع بعضهم. ثم اني لا اطيق البقاء وحيدا في منزلي لا أفعل شيئا.
وعائلتك؟
لي إبنة واحدة تعيش مع امها بعد ان انفصلنا.
كيف تعيش اذا ان لم يعطوك راتبك كل شهر.
ادخر ما يكفي لطعامي القليل.
في صباح اليوم التالي, أتى قرار المجلس المحلي, بأن يضاف عامل البريد الى الأشياء الثلاثة المستثناه من الإغلاق. فأخرج من السجن, واعطي تصريحا بالحركة, مع وضع كمامة على الوجه ولبس قفازين.
انطلق على الفور يوزع البريد على البيوت. حتى إذا ما فرغ, عاد الى المدينة. بعد أسبوع آخر, أتى ثانية وفي جعبته البريد المعتاد. كانت الضائقة قد اشتدت, والمتجر الوحيد يكاد يفرغ من محتوياته. عرف ساعي البريد ذلك من اصحاب الرسائل التي يوصلها لهم. فما عاد عمله يقتصر على البريد وحده. فهذه سيدة تطلب أن يحضر لها من المدينة حليبا لطفلها, واخرى دواء لزوجها. لم يتردد لحظة. في المساء, كانت بين يديه قائمة طويلة بطلبات اوصاه بها كل من سلمه رسالة. ولم ينته الأمر عند حليب الأطفال أو الدواء, بل شملت القائمة: سجائر, صابون, معلبات متنوعة, وحبوب منع حمل.
اشترى من المدينة ما استطاع وعاد الى القرية في اليوم الثاني دون انتظار الاسبوع. وصار الأمر يتكرر, حتى اصبح يأتي الى القرية كل يوم. وبات جميع من فيها يترقبون صوت دراجته بابتهاج.
شكت الشرطة في أنه يستغل حاجة الناس, فقبضت عليه. وفي التحقيق اخبرهم انه يقوم بذلك خدمة للسكان لا أكثر, بل ان بعضهم لم يعطه ثمن ما اشتراه لهم. لم يصدقوه أول الأمر. لكنهم اطلقوا سراحه لاحقا بعد ان تأكد صدق نيته, وبعد أن طلب منه آمر الشرطة ان يحضر له من المدينة واق ذكري, وزجاجة وسكي.
هكذا اصبح ساعي البريد, هو شريان الحياة للقرية.
في إحدى الأمسيات, وبعد ان أوصل لأصحاب الحاجة ما طلبوه, تعطلت دراجته وهو يغادر عائدا الى المدينة. حاول اصلاحها وفشل. أطبق الليل وحلت العتمة. لم يتكدر من أجل الدراجة المعطوبة, بل من عجزه عن تلبية حاجات الناس. تحتم عليه ان يقضي ليلته حيث هو, ريثما يرى من يصلح دراجته صباحا. لكن أين سينام؟ كل شيء مقفل.
طرق الأبواب التي يعرفها كلها, لكن اصحابها اعتذروا عن استضافته, خوفا من ان يكون مصابا. تحير من أمر الإنسان, كيف يحب الأخذ وينكر العطاء. لم يبق امامه سوى آمر الشرطة, فذهب إليه, وطلب منه طائعا مختارا ان يسمح له بالنوم في السجن.
في صباح اليوم التالي, تجمع عدد من الأهالي امام مركز الشرطة. اعتقد ساعي البريد انهم قد اتوا من أجله اعتقادا منهم انه معتقل, أو إحساسا منهم بالذنب ان لم يستضيفوه. لم يكن الأمر كذلك, بل كان تجمعا غاضبا للأهالي ضد تقصير المجلس المحلي في خدماته الطبية, فقد بدأت بعض الحالات الوبائية تتفشى في القرية, ولم تكن الاستعدادات كافية لمواجهتها.
حاول آمر الشرطة تهدئة المحتجين, ووعد برفع الأمر الى المجلس المحلي. انصرف الناس, لكن اسئلتهم راحت تكبر وتكثر, خاصة وأن المساء قد حمل خبرا مشؤوما. فقد توفي راعي الكنيسة بالوباء. قال المسلمون ان الله قد انتقم من المسحيين في شخص راعيهم, وأن اعتقادهم الخاطئ بصلب المسيح هو السبب. لم يمض يوم آخر, حتى ثبتت اصابة امام المسجد الكبير بالوباء. فقال المسيحيون إن المسملين قد طالهم عقاب الله لعدم ايمانهم بالمسيح.
ازدادت أرقام المصابين, وبات النحيب معتادا صباح مساء. تيقن أهل القرية ان ما اصابهم هو عذاب من الله, وان دليل ذلك هو اصابة القسيس والإمام, الرمزان الدينيان الاساسيان في القرية, فكيف بالبقية إذا؟
قرر بعض رجالات القرية كتابة رسالة الى المجلس المحلي قالوا فيها: اشتد الحصار علينا, ولا فرج في الأفق بالخلاص من الوباء. وضاقت بنا بيوتنا, وما عدنا نرى من أمل سوى العودة الى الله, لذلك نسأل المجلس الموقر ان يتكرم علينا بفتح دور العبادة للصلاة.
تأخر رد المجلس. وقبل ان يتجمع الأهالي الغاضبون ثانية, أتى القرار بصيغة حازمة: نظرا لحاجتنا الى رحمة الله, مع الحرص على عدم نشىر العدوى, فقد قرر المجلس أن يفتح مركز عبادة واحد فقط لجميع الأديان لإقامة صلاتها فيه, مع الحرص على ترك مسافة آمنة بين المصلين.
لم يفهم اهل القرية مضمون الرسالة, هل يعني ان يفتح مسجدا واحدا للمسلمين, تقابله كنيسة واحدة للمسيحيين؟
رفعوا استفسارهم للمجلس ثانية, وليتهم ما فعلوا, فجاء الجواب الثاني أكثر حزما: مكان واحد تتفقون عليه, يصلي فيه الجميع, ولساعة واحدة فقط كل اسبوع.
كما الرسالة الأولى, احدثت الثانية اضطرابا بين الأهالي, وتسللت همساتهم من وراء النوافذ. هل سنختار كنيسة ام مسجدا ليكون موقع صلاة للجميع؟ وهل اليوم المصرح به سيكون يوم أحد أم جمعة؟
تجمع رجالات القرية امام المجلس المحلي, فلا بد من حسم الأمر. تم استقبالهم في حجرة كبيرة, تضمن مسافة كافية بين الحاضرين, ووضعت كمامة على كل وجه. اختلفت الآراء, هل يختارون مسجدا, ام كنيسة لتكون هي مقر عبادة الجميع. فإن كانت كنيسة, فلا بد من ازالة المقاعد وصور المسيح والصليب, وان كان مسجدا, فلا بد من وضع صليب ومقاعد ونجمة سداسية, وحتى تماثيل آلهة الهندوس.
كان يمكن اشتمام رائحة بارود بين وفد الأهالي. فلا بأس بالمرض, ولا بأس بالمجاعة القادمة, اما الدين, فلا يمكن التساهل فيه.
اقترح بعض العقلاء أن يتم اختيار مسجد للصلاة فيه يوم الأحد, او كنيسة تقام فيها الصلاة يوم الجمعة.
كان الاقتراح ذكيا, وخبيثا في الوقت ذاته, إذ كيف سيقرع جرس كنيسة في مسجد, وكيف سيعلوا الأذان من الكنيسة؟ رأى المجلس أيضا ان في ذلك تجاهلا للطوائف الأخرى في القرية. لذلك وبعد مداولات, وانتظار دام أياما, قرر المجلس ان يكون مقر العبادة هو قاعة الاجتماعات الكبرى في القرية. وفيها تنتصب مقاعد للمصلين المسيحيين, ويفرش السجاد للمسلمين, وتوضع رموز العبادة لكل الطوائف. وستكون الصلاة يوم الإثنين من كل اسبوع, لا الجمعة, ولا السبت, ولا الأحد, ولمدة ساعة واحدة فقط.
بقي سؤال: من يبدأ الصلاة اولا, المسيحيون, ام المسلمون, اليهود ام الهندوس, ام تراه من يصل أولا؟
اقترح أحدهم ان تكون العملية متوالية, فمن يبدأ الصلاة هذا الاسبوع, يكون هو الآخير في الاسبوع الذي يليه. وافق الجميع, لكن برز سؤال آخر: من سيكون خلفا للقسيس الذي مات, ومن سيكون اماما بدل الذي هو طريح الحجر في المستشفى؟
انشغل الناس بالتفكير في الأمر, من نقطة الى أخرى, ومن تفصيلة صغيرة الى اصغر منها, حتى ما عاد احد يذكر الوباء.
خشي المجلس المحلي ان يتحول النزاع الى صراع طائفي في هذا الوضع الحرج. فإن كسر الوباء كبرياء الإنسان, فهو أعجز من أن يكسر التطرف في نفسه. لذلك حسم الأمر بأن طلب من الأهالي اختيار رجل واحد, للقيام بطقوس الصلاة للجميع, فليس أمامهم اكثر من ساعة واحدة يصلوا فيها كلهم.
كيف ذلك؟
لثلاثة ايام كاملة, شغل الناس عن متابعة الأخبار, وأزمة الطعام التي تزداد شحا, الى العراك داخل البيت الواحد حول الشخص الذي عليهم اختياره. حتى الاطباء في المشفى الوحيد في القرية, والممرضون وعمال النظافة, انشغلوا عن رعاية المرضى بالأمر ذاته.
فمن سيقنع المسلمين برجل دين مسيحي يؤمهم, بل ويخطب فيهم, ومن سيقبل من المسيحيين بواعظ مسلم؟ المسيح نفسه سيعجز عن اقناعهم لو أتى.
لكن المجلس كان صارما: إما تختاروا رجلا واحدا, او يلغى مشروع الصلاة وتغلق القاعة الكبرى.
قضي الأمر. رجل واحد لا غير.
راح الأهالي يفكرون من سيكون الرجل؟
المسيحيون ينتقدون سلوك المسلمين, فكيف سيختارون احدهم, وبالمثل يفعل المسلمون؟ كل يذكر عيوب هذا ويضيف إليها.
تحولت الهمهمات الى اصوات مستنكرة, ومستهجنة للفكرة, لكن ليس من بديل في هذا الظرف الاستثنائي. وهم حتى لو اتفقوا من حيث المبدأ, فمن سيكون الرجل المختار؟
لم يصلوا الى نتيجة. لكن فوجئ الجميع, صبيحة أحد الأيام, ببيان من المجلس تم لصقه على اعمدة القرية: ساعي البريد هو من سيقيم الصلوات.

في البدء, اعترض الجميع. في اليوم الثاني, قل الاعتراض. في اليوم الثالث, اتفقوا كلهم على أن ساعي البريد رجل يفعل الخير مع الجميع بلا استثناء, وموضع ثقة.

لكن, أين ساعي البريد؟

إنه في السجن. فقد نسيه آمر الشرطة في غمره تهدئة الثائرين في القرية.

أخرجوه باحترام وتوقير, وقد طالت لحيته, فأصبحت له هيئة تشبه رجل دين بالفعل.

لكن, سأل احدهم فجأة, ما هو دين ساعي البريد؟

لم يصدر تعليق واحد. فهم لا يعرفون دين الرجل. ولعلهم ما ارادوا ان يعرفوا. وخافوا ان يلغي المجلس المشروع برمته. لذلك اقتنعوا بأن ساعي البريد رجل يصنع الخير, ولم يفرق في عمله بين مسلم او هندوسي, فتمت الموافقة عليه.
بالنسبة له, فقد صدم بالاختيار. قال لآمر الشرطة: لم اسجد لله مرة واحدة, ولا تناولت القربان في كنيسة. ولا عرفت الفرق يوما بين مسلم ومسيحي, بوذي او هندوسي.
أجابه: هذا افضل. حيادك هو ما نبحث عنه.
وتوزيع البريد؟ سأله
لا أحد يهتم بالبريد الآن. الناس خائفة من الوباء, ويرون الصلاة هي ملاذهم الوحيد.
لكن قضاء حاجة المحتاج أهم من الصلاة.
هذا ما تعتقده أنت, وليس ما يعتقده الأهالي.
صمت ساعي البريد يفكر, ثم قال: حسن, لكن لا منزل لي هنا.
لا بأس, حيث كنت في الأيام الماضية ستبقى, أي هنا, في السجن. وصدقني, إنه اكثر أمانا في هذا الظرف من مركز العبادة الذي ستكون فيه.
قضى ساعي البريد يومان في مكتبة القرية, يقرأ عن الاديان قدر ما استطاع, ويعود مساء الى السجن. اراد ان يكتب خطبة تناسب المسلمين, وموعظة تلائم المسيحيين, وبالمثل شيء لليهود والهندوس.
في يوم الإثنين, وفي الساعة المحددة, وداخل قاعة القرية, تجمع الأهالي متباعدين عن بعضهم. عندما اتى ساعي البريد, اخبرهم أن على المسيحيين الانتظار خارج القاعة إذ سيبدأ بالمسلمين اولا, مع وعد بأن يبدأ بالمسيحيين في الاسبوع الثاني, يليهم اليهود فالهندوس.
هلل المسملون وكبروا على النصر المبين, وغرس كل منهم نفسه داخل القاعة, وخرج الآخرون بامتعاض.
وقف ساعي البريد امام المسملين, وبدأ خطبته. حمد الله واثنى عليه, وصلى على الرسول الكريم, وأردف:
الحمد لله على سلامتنا جميعا, وندعوا الله ان يخصلنا من هذا الوباء. يقول اكثركم إن الصلاة هي منقذنا من هذا البلاء. وأنا اقول نعم. لكن عن أي صلاة تتحدثون؟ التكبير والركوع والسجود ليس صلاة, بل طقس عبادة لا أكثر. الصلاة لا تكون هكذا فقط, بل تكون في تنقية النفس من الخبث. ما عاد قلبنا يتسع للحب. وإن
سألني احدكم, ما علاقة الوباء بالحب, أقول, بأن الإنسان بلا حب, يكون ضعيفا, يهزمه مرض بسيط, كما يحدث الآن. الحب نفسه, أسمى انواع الصلاة. وهي ستنقذكم بالفعل, ان جعلتموها في كل افعالكم مع الجميع, وفي كل مكان, لا في المساجد فقط.
ساد القاعة صمت مقدس, حتى ختم ساعي البريد حديثه بالصلاة والسلام على الرسول, ثم ام المسلمين للصلاة, وانصرف الجميع, تملأهم الغبطة.
بعدها دخل المسيحيون.
وقف ساعي البريد امامهم, وبدأ موعظته: باسم الآب, والإبن والروح القدس. وقرأ من الكتاب المقدس: “أَنشِدوا للِرَّبِّ نشيدًا جَديدًا فإِنَّه صَنعً العَجائِب”. وانطلق: .
الحمد لله على سلامتنا جميعا, وندعوا الله ان يخصلنا جميعا من هذا الوباء. يقول اكثركم إن الصلاة هي منقذنا من هذا البلاء. وأنا اقول نعم. لكن عن أي صلاة تتحدثون؟ وراح يكرر ما قال في خطبته مع المسلمين, بالحرف الواحد, ثم ختم موعظته قائلا: ستنقذكم الصلاة, ان جعلتموها في كل افعالكم, دون ان تحصروها في الكنائس.
انهى عظته بما بدأ به, وانصرف المسيحيون مغتبطين. وفعل ما استطاع مع البقية.
تكرر الأمر في الاسابيع التي تلت. وراحت خطب ساعي البريد تتناول حتى العلاقات داخل البيت الواحد, وهي في مجملها تحض على المحبة. وما رسخ له مكانة اكثر تميزا, هو ان عمله في جلب البريد وحاجات الناس لم يتوقف طوال أيام الأسبوع. فكان يغيب ليوم او اثنين, ثم يعود محملا بكل ما طلب منه.
لم تهدأ جائحة الوباء في القرية, وتزايدت اعداد المصابين. ما اضطر المجلس المحلي, وخوفا من بلاء اكثر, ان يقصر وقت الصلاة الى نصف ساعة.
لكن كيف ذلك, وكيف سيكفي الوقت للجميع؟
اقترح ساعي البريد على المجلس ان يجعل الصلاة للجميع في وقت واحد. ونصف ساعة تكفي لخطبة واحدة فقط.
كيف؟ سأله احدهم.
اجابه: خطبة المسلمين, هي ذاتها عظة المسيحيين. فما كنت اقول لهؤلاء, اكرره للآخرين. فالإنسان واحد, والرب واحد. الله هو نفسه في جميع الأديان, لكن بأسماء مختلفة.
وافق المجلس على الاقتراح. ودون اخذ رأي الأهالي, تفاجأ الجميع بأنهم يقفون بجوار بعضهم في قاعة القرية وقت الصلاة, وفي مقدمتهم ساعي البريد. قطع همهمات الجميع بأن بدأ حديثه, بالصلاة على الرسول محمد, وبتمجيد المسيح, وموسى معه. ثم راح يتكلم عن التسامح والمحبة, وضرورة مواجهة الوباء بصلاة واحدة, فكلها لله, والله للجميع. لم يعترض احد, حتى ختم كلامه قائلا: الطمع الذي يعيش في داخلنا ويصرفنا عن أهلنا وأحبتنا, هو اخطر علينا من الوباء, لأن الوباء يقتل الجسد, لكن الطمع يقتل الروح.
الرب يا أخوتي المسيحيون, هو في قلبكم. الله يا اخوتي المسملون هو في قلبكم. وكما انتم لستم في حاجة الى جعل صلاتكم محصورة في مكان واحد, فأنتم لستم في حاجة الى قسيس, لستم في حاجة الى شيخ, كي يقدمكم الى الله. كل واحد فيكم هو إمام نفسه وعائلته, وقسيس نفسه وعائلته.
انتهت الصلاة, وانصرف الجميع بالغبطة ذاتها.
بعد يومين, انفجرت في سماء القرية اخبار مبهجة باكتشاف لقاح يحمي من الوباء. فتح الناس ابوابهم, وراحوا يتعانقون فيما بينهم, وهم يرددون ان صلاتهم المباركة قد قبلتها السماء. تعالت الزغاريد, واطلق بعضهم النار في الهواء, وعمرت الطرقات بالأطفال والمارة, وفتحت المحال التجارية.
مضىت أيام والقرية على ابتهاجها. رقص وغناء وفرح في كل مكان. وراح المجلس المحلي يصدر بيانا تلو آخر يشيد فيه بصمود الأهالي وعمق إيمانهم, وصدق صلاتهم, والأهالي بدورهم, يصفقون لأعضاء المجلس المحلي, كأبطال قوميين. لكن أحدا من هؤلاء او هؤلاء, لم يسأل عن ساعي البريد, ولا أين هو, ولا ظهر له أثر في الشوارع والأزقة. فقد نسيه الجميع, في غمرة افراحهم, في السجن, حيث كان يسكن.