أفتتح نهاري بما كتبه كافكا في يومياته بتاريخ 13 ديسمبر 1911:
لم أستطع أن أكتب لأنني كنت مُتْعبا، وقد ظللت ممدّدا على الكنبة في الغرفة الساخنة، ثم الباردة بساقين مُعْتلتين وأحلام مُنَفّرَة. وكان هناك كلب ينام فوقي، وقائمته قريبة من وجهي، لكن لوقت ليس بإمكاني تحديده، خفتُ أن أفتح عينيّ وأن أنظر إليه ...
البارحة شاهدت فيلم Deliverance الذي أخرجه جون بورمان عام 1972. وهو يروي قصة أربعة رجال أعمال يقرّرون القيام برحلة في مركب عبر نهر في طبيعة متوحشة بمنطقة جورجيا. وخلال تلك الرحلة القاسية والشاقة، يواجهون العديد من المخاطر، ويصطدمون ببعض سكان المنطقة المقطوعين عن الحضارة، وواحد منهم يتعرض للاغتصاب من قبل أحدهم بينما صديقه مربوط إلى شجرة، ومهدد بالاغتصاب هو أيضا... وقبل أيام شاهدت برنامجا على قناة فرنسية، يكشف عن البعض من الذين اقترفوا جرائم فظيعة بتأثير من هذا الفيلم البديع في إخراجه وفي تمثيله، والمرعب في مشاهده التي شدتني من البداية إلى النهاية...

أثناء النوم، حلمت الحلم التالي:

وجدت نفسي في قاعة فسيحة بها جمهور كثير العدد، وبجانبي امرأة شقراء في حوالي الأربعين من عمرها، شاحبة الوجه، قاسية الملامح، بنظارات طبية أنيقة. من دون أن تنظر إليّ ، قالت بالفرنسية:" مرحبا بكم ... سوف يحدثنا هذا الكاتب التونسي عن الجريمة في بلاده"... وفي الحين ارتكبت إذ انني كنت أعتقد أنني سوف أتحدث عن رحلات همنغواي في افريقيا، وتأثيراتها على كتاباته...رحت أقلب أوراقي وأنا أرجف، والعرق يتصبب مني بغزارة... وشيئا فشيئا ارتفعت جلبة احتجاج في القاعة، فهمست لي تلك السيدة بلهجة قاسية :" أنت تثير غضب القاعة وغضبي بهذا السلوك المشين"... قلت لها :" أنت اقترحت عليّ الحديث في موضوع مختلف تماما عن الموضوع الذي بحثت فيه"...ازرقّ وجهها من شدة الغضب، وصاحت فيّ مادّة رقبتها باتجاهي :" أنت رجل بلا وفاء...وقد أخطأنا في دعوتك"... قالت ذلك، ثم وضعت أوراقها في محفظة جلدية سوداء، وغادرت المنصة لأجد نفسي في قاعة فارغة وموحشة... وضعت أنا أيضا أوراقي في حقيبتي الجلدية السوداء التي اشتريتها من محل في ساحة "شتاخوس" بميونيخ نهاية العام الماضي، وخرجت من القاعة لأجد نفسي في شارع مدينة أوروبية، وكان الناس يركضون خائفين... اقترب مني رجل طويل، بأسنان كبيرة، وبوجه كأنه وجه حصان عجوز، وخاطبني بالعربية :"إلى أين انت ذاهب؟"... قلت له :"ولكن أنا لا أدري أين أنا "، فابتسم ابتسامة صفراء وردّ عليّ :" أنت في لندن..." ."آه صحيح" قلت أنا" فقال لي الرجل:" بما أنك عرفت أين أنت فعليك أن تخبرني عن وجهتك"... فقلت له :" لا أدري" فابتعد عني وهو يهمهم بكلام لم أتبينه ... لعله كان يلعنني ... سرت مسافة قصيرة لأجد نفسي أمام محطة ميترو شبيهة بمحطة "هولبورن" القريبة من مقر جريدة "الشرق الأوسط" التي كنت أتردد عليها في التسعينات من القرن الماضي...وأنا أنزل المدارج الكهربائية، وجدت أمامي صديقي المغربي محمد بوخزار فتعجبت من الأمر شديد التعجب إذ انني أعرف أن بوخزار لا يحب السفر، بل يخشاه، ويستهويه فقط أن يستمع إلى الآخرين يروون رحلاتهم، ويتحدثون عن مدن بعيدة ... سلّم عليّ بحرارة، وقال لي :" لم أكن أعلم انك في لندن"، فقلت له :"وأنا أيضا"، فقال لي:" ولكني أقيم هنا...ألا تعرف ذلك؟" قلت "لا ... لم أكن على علم بهذا... ثم سألته: "هل تعرف أين يقيم صديقنا صاموئيل" فأجابني:" نعم"...سألته :"وكيف يمكن أن أصل إليه؟ فأخرج من جيب معطفه الرمادي خريطة ميترو لندن، وراح يدقق فيها، ثم أعادها إلى جيبه ، وقال لي :" لقد أقرضت صامويل ألف جينيه قبل سنة لكنه لم يعدها إلي حد الآن ...وهذا أمر مؤسف للغاية ". لم أقتنع بكلامه، لكني قلت له:" سوف أخبره بذلك لكن كيف أصل إليه؟"، فابتعد عني وهو يقول ساخرا وممتعظا:" أنا لست دليلك في المدن في زمن الكورونا "... وفي الحين اختفى لأجد نفسي أنزل المدارج الكهربائية وحيدا فلكأنني أنزل إلى أعماق بئر مهجورة... ثم استيقظت...وكانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف صباحا...