رغم أنه لم يحظى بالشهرة العالمية التي حظي بها أمثال كواباتا، وتانيزاكي، وميشيما، فإن الكاتب نغاي كافو(1879-1959) يعتبر من المؤسسين الكبار للأدب الياباني الحديث. وهو ينتمي إلى عائلة غنية إذ أن والده الذي اشتهر بكتابة قصائد على الطريقة الصينية، كان موظفا ساميا في أحد البنوك. وفي سنوات شبابه، تعلم كافو اللغة الإنجليزية، واهتم بدراسة فترة "أيدو" الممتدة من عام1603 إلى1868 ، والتي سبقت غزو الحضارة الغربية لليابان. ومثل أبناء جيله، صدم بهذا الغزو الي دمر العديد من مظاهر الثقافة اليابانية، وقيمها الانسانية والجمالية. وبعد أن أكمل دراسته الجامعية، سافر كافو إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليمضر عنك خمس سنوات، مُتنقلا بين مختلف المدن، ومتعمقا في دراسة الأدب الأمريكي المتمثل بالخصوص في ادغار ألن بو، ومارك توين، ووالت ويتمن، وهاوثورن، وغيرهم. بعدا انتقل إلى فرنسا بعد أن تعلم لغتها ليقيم سنتين في ليون، وسنة في باريس. ومن شدة اعجابه بموباسان، زار قبره ليضع عليه باقة زهور. كما أنه كان معجبا بفلوبير، خصوصا بمجموعته القصصية " ثلاث حكايات".

بعد عودته إلى اليابان، عيّن أستاذا في جامعة طوكيو. إلاّ أن عمله الأكاديمي لم يمنعه من المساهة بقوة في الحياة الثقافية في بلاده، مصدرا مجلة طليعية تهتم بأدب المواهب الجديد، وباّلأدب الطلائعي في الغرب. ومن وحي اقامته في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فرنسا، اصدر كتابين هما: قصص أمريكية"، و"قصص فرنسية"، وفيهما روى العديد من تجاربه في البلدين المذكورين. وقد حظي الكتابان بشهرة واسعة في بلاده باعتباره وثيقة هامة ومثيرة عن الحضارة الغربية التي غزت اليابان، وانتشرت مظاهرها في العاصمة طوكيو، وفي جل المدن الكبيرة الأخرى. بعدها اهتم، كافو بعوالم "الغايشا"، أو الغانيات، ومن وحي حياتهن كتب العديد من القصص. لكن الرقابة منعت صدورها في كتاب، وهددت صاحبها بالمحاكمة. وعندما ضرب الزلزال طوكيو في عام 1923، شعر كافو أن ذلك الزلزال هو رد فعل على الغزو الغربي لبلاده. لذلك تشوهت طوكيو وباتت أشد قبحا من أكثر المظاهر قبحا في المدن الغربية الكبيرة. وعلى لسان بطل قصة "سيارة الليل"، كتب يقول :" في زمننا هذا، يمكن أن نقول بإن التربية، والمعرفة، والفنون، وكل هذا أصبح يشترى مثل كل السلع التجارية".

أما الحادث الآخر الذي كان له وقع على مسيرته الأدبية فهو موت خادمه الشاب بالأنفلونزا الاسبانية التي ضربت العالم في نهاية الحرب الكونية الأولى . وربما لهذا السبب، اختار كافو العزلة، والعيش في أحضان الطبيعة، بعيدا عن المدن الملوثة. وفي عزلته الطويلة، كتب أهم أعماله، مُستحضرا في أغلبها قيم الحضارة اليابانية القديمة. ومن أشهر هذه العمال، روايته القصيرة والمكثفة:" المطر من دون انقطاع". بطلها عجوز يعيش وحيدا. وأجمل الأوقات تلك التي يستمع فيها إلى قطرات المطر وهو تنزل هادئة وناعمة فتكون شبيهة بموسيقى روحية بديعة. موسيقى تغمر النفس بالسكينة والطمأنينة، وتعبد عنها فوضى الاضطرابات والهواجس والمخاوف وكل ما يعكر صفوها. ويزداد بطل الرواية سعادة وابتهاجا وهو يتابع من خلال النافذة السحب، وتحولاتها، ولمعان البروق، وألوان قوس قزح التي لا يمكن رؤيتها في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يجدون الفرصة للنظر إلى السماء من كثرة انشغالهم بهموم الأرض ... من حين لآخر، يعد بطل الرواية شايا، أو يشرب كأس نبيذ وهو يكتب رسالة إلى صديقه الوحيد ليصف له أحواله، ويخبره عن أفكاره وخواطره...