عاش الكتاب النرويجي كنوت هامسون)1859-1952) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1920 طفولة معذبة سوف تترك آثارها واضحة في جل أعماله. وفي سنوات شبابه سافر إلى الولايات المتحدة ليعود منها بعد بضع سنوات كارها للرأسمالية المتوحشة، ولاعنا شجع أصاحب الثروات الكبيرة. عنه كتب هنري يقول:”الحب، والمرارة، والكراهية، والإحتقار، والإغتيابات التي تطلق لنفسها العنان في أوقات الهيستيريا ، وكلّ هذا ليس عليه أن ينسينا أنّ هامسون هو قبل كلّ شيء عاشق للطبيعة ، متوحّد بنفسه. وهو شاعر اليأس. وهو قادر على أن يضحكنا حتى في الأوقات الأشدّ جديّة.، بل أحيانا في لحظة مضاجعة مُحْتدَمة”. ويضيف هنري ميللر قائلا بإن هامسون إنسان “يحبّ الحبّ”، ومحكوم عليه ألاّ يلتقي أبدا بمن تكون روحه منسجمة مع روحه. وهو”أرستقراطيّ الفكر”. وأظن أن هنري ميللر أحاط بهذه الكلمات القصيرة بعالم كنوت هامسون بشكل رائع، إذ أننا نجد روايته ملامح من كلّ هذا. كما نجد فيها ملامح وصورا من حياته التي ظلّت في إضطراب دائم حتى النهاية. وهذا ما تعكسه روايته الأولى:”الجوع” التي حققت له شهرة عالمية واسعة. والجوع في هذه الرواية هو البطل وليس الصحافي المعدم الذي يكابده في كلّ الأوقات، وفي كلّ الفصول من دون أن تثير عذاباته إنتباه أحد في مدينة كربستيانا(أوسلو اليوم )...نعم...الجوع هو البطل...الجوع الذي يقتل ضحيته ببطء، مُحَطّما قواه العقلية والجسدية واحدة بعد الأخرى بحسب الطريقة المعتمدة في التعذيب الصيني. شاعرا أن الجوع سيقتله في لحظة من اللحظات، يواصل الصحافي تجواله في مدينة قاسية، وسط جموع لا مبالية بأوجاعه...جموع مسكونة بالأنانية ، وبالأحقاد، لا تحركها ولا تعنيها سوى مصالحها المادية الضيقّة. يواصل تجواله ولا أمنية له سوى الحصول على قطعة خبز، أو على قطعة لحم، أو على قطعة جبن:”آه ..لو ثمة ما يمكن أن آكله في يوم جميل كهذا اليوم! الشعور بهذا الصباح السعيد هزّني فلم أعدْ قادرا على كبح جماح فرحي، وشرعت أدندن بلحن من دون سبب محدّد. أمام محلّ لبيع اللحوم، سيدة ماسكة بسلّتها ، توقفتْ عن السير وراحت تتأمل نقانق لغدائها. حين مررت بالقرب منها، نظرت إليّ. لم تكن لها غير سنّ أماميّة واحدة. متوتّرا وسهل الإنفعال كما هو حالي خلال الأيام الأخيرة، أحْدثتْ لي السيدة فجأة شعورا بالنفور والتقزز. سنّها الطويلة الصفراء بدت شبيهة بإصبع صغير خارج من فكّيها. وكانت نظراتها لا تزال مثقلة بالنقانق حين إستدارت إليّ. في اللحظة ذاتها فقدتّ الشهيّة، وشعرت برغبة في التقيء”.
يواصل الصحافي المشرد تجواله. حين بتعب يجلس على مقعد في حديقة ويفكر في الله الذي لا ينقطع عن تسليط عقابه عليه حارما إياه من حياة كريمة تنهي جوعه وتشرده. في لحظة ما يرفع نظره إلى السماء هناك حيث الملكوت الأعلى، ويشرع في البكاء بمزيج من الكبرياء والتحدي! يظل جالسا إلى أن يبدأ النهار في الرحيل...في الليل يهجره النوم. وها أ ن الظلمات تزداد حلكة وكثافة من حوله حتى أنه يشعر بأنها تضغط على صدره بقوة وقسوة كما لو أنها تريد أن تخمد أنفاسه. لكي ينسى تللك الظلمات المكوّمة على جسده الذي أجهده الجوع والتشرد، يسرح بذهنه مفكرا في الموانئ والبواخر. إلاّ أن الأشباح السوداء تحاصره من جديد ليصبح سجينها ورهينتها. وها هي تبحر به إلى ممالك مجهولة ، أو تطير به ليرى نفسه سابحا في السحب. حين يرغب في النزول إلى الأرض تأبى عليه ذلك فيطلق صرخة فزع، ويشدّ على السرير بكل قوة حتى لا تتواصل تلك الرحلة المرعبة في المجهول. ويزداد وضعه حدة حين يشعر أن الموت يتأهب لقبض روحه. عندئذ ينهض، ويجلس على السرير مواصلا هذيانه:” لكن من قال أنني سأموت؟ أنا الذي عثرت على هذه الكلمة، وإذن لي الحق في أن أقرر ماذا ترى تعني هذه الكلمة...وأتوصل إلى أنني أهذي. أتوصل إلى ذلك قبل أن أشرع في الكلام. جنوني هذيان مُتأتّ من الضعف والإرهاق إلاّ أنني لم أفقد الوعي. ثم فجأة اخترقتني فكرة . فكرة توحي بأنني مجنون. مرتعبا أقفز من الفراش. مترنّحا أمضي إلى الباب. أحاول أن أفتحه. أرتمي عليه ثلاث مرات لكي أخلعه ، ثم أضرب رأسي على الحائط، وأنا أنوح بصوت عال، وأعضّ على أصابعي وأبكي وأجدّف وأشتم”... في النهاية يودع الصحافي المدينة التي عذبته ، ويرحل إلى انجلترا آملا أن يعثر فيه على حياة أفضل :”في الزقاق البحريّ، إنتصبت للحظة وجسدي دبق بسبب الحمّى والإجهاد. نظرت إلى ناحية اليابسة وقلت وداعا هذه المرة للمدينة، هذه الكريستيانا التي تسطع فيها أضواء نوافد كلّ منازلها ومجمّعاتها السكنيّة”...
أ ما في رواية لكنوت هامسون”تحت نجمة الخريف فإن كنوت بديرسون محّمل بالكثير من أفكار كنوت هامسون نفسه. بل قد يكون صورة له في زمن الشباب حين كان مشردا يكره المدن، ولا يجد السكينة إلاّ وسط الطبيعة، في الغابات الشاسعة، وعلى ضفاف الأنهار، وفي الجزر التي تكاد تكون خالية من البشر. منذ الفقرات الأولى بشاعريتها العذبة :”أمس كان البحر مثل مرآة، واليوم هو يلمع مثل مرآة. إنه صيف “سان مارتين”، والطقس حارّ في الجزيرة-أوه! يا لها من وداعة ويا لها من حرارة!- لكن لا وجود للشمس. منذ سنوات لم أشعر بهذه السكينة، عشرون سنة، ثلاثون سنة، ربما في حياة سابقة. مع ذلك، لمرة واحدة، أتخيّل أنني تذوّقت هذه السكينة بما أنني أدندن بلحن الآن وأنا في غاية الإبتهاج، آخذا بعين الإعتبار كلّ حصاة، وكل عشبة. وحبّات الحصى والأعشاب تبدو كأنهما تأخذ وجودي بعين الإعتبار هي أيضا. كل واحد منّا يعرف الآخر منذ زمن بعيد"
يتوغّل كنوت بيدرسون في الغابة فيزداد إبتهاجا حتى أن الدموع تطفر من عينيه. وهاأنه هو يشعر أنه قد يكون زهرة في تلك الغابة، أو خنْفُس يسكن شجرة سنْط. بل ربما يكون طائرا جاء إلى هناك بعد رحلة طويلة، أو نواة ثمرة أرسلها تاجر فارسيّ . وقد إختار كنوت بيدرسون أن يهجر المدينة الكبيرة وضجيجها، وعنفها، وصحافتها، ليفرّ إلى الريف حيث الوحدة، “موطنه المفضل”، وحيث الهدوء والسكينة التي يحتاجها بعدأن أمضى في المدينة سنوات طويلة لم يعرف فيها سوى الشقاء والعذاب. ولكي يحصل على قوته اليومي، هو يقوم بأعمال مختلفة في المزارع والضيعات، واجدا في الطبيعة ما يسعده ويثري خياله. فمن كلّ شجرة “ينزل السلام السماوي”، و”عناقيد أشجار الغبيراء تتدلى ثقيلة وتتوارى في الزّبد”. في المساء يحب كنوت بيدرسون التجول في المقابر ليقرأ شواهد القبور من دون أن يفكر في الموت. في اليوم التالي، يواصل جولاته في الطبيعة:”أظل أمشي وأمشي. أشجار صنور وأشجار بتّول تتابع. في الغابات. حين أرى باقات عَرْعَر بتويجات رقيقة ومستقيمة ، أقطع غصنا، وأجلس عند حافة الغابة،وأشرع في جذْمه. لا تزال هنا وهناك ورقة مصفرّة، إلاّ أنّ أشجار البتّول مغطاة بهريرات منها تتدلى لآلئ من المطر. بين وقت وآخر، تسقط نصف دزّينة من العصافير على واحدة من أشجار البتّول وتشرع في نقْر الهريرات. بعدها تبحث عن صخرة أو عن جذع خشن لتنظف مناقيرها
وفي روايته فيكتوريا، يروي كنوت هامسون قصة حب بين يوهانس، وهو شاعر من الريف، عاشق للطبيعة مثل كنوت بيدرسون، وفتاة أرستقراطية تدعى فيكتوريا. لكن الحب في هذه الرواية “موشى بالزهور والدم” مثلما هو حاله في كل قصص الحب في الأساطير الإغريقية القديمة، ومثل ما هو حاله في تراجيديّات شكسبير:” واحد يسأل ما هو الحب؟ على سؤاله نجيب: الحب هو الريح التي تهمس في الواحات قبل أن تسكن. لكن قد يكون أيضا خَتْما يتعذّر إنتهاكه حتى الموت. الله خلق نماذج كثيرة من الحب:منها ما يستمرّ ومنها ما يذبل ويموت”... والحب بين يوهانس وفيكتوريا ذبل ومات...