كتابة - إيمان البستاني

بدأت (إيميلي فلوك 1874-1952) خياطة في بداية القرن الماضي في فيينا، حيث عملت في مدرسة خياطة تملكها شقيقتها الكبرى وقد فازا معاَ بمنافسة لفساتين السيدات في عام 1899 وتم تكليفهما بتصميم قطعة لمعرض مرموق ومن هناك تمكنوا من جعل أنفسهم كسيدات أعمال ناجحات، وفتحا صالون للأزياء الراقية أطلقوا عليه اسم ( الشقيقات فلوك ) ويقع في أحد الشوارع الرئيسية في فيينا
مع صعود نجم صالونها الخاص، اصبحت واحدة من عناوين الأزياء الرائدة للمجتمع الفييني، كان معاصروها في باريس مبدعين مثل (كوكو شانيل) و(كريستيان ديور) وكانت تزورهم لتتطلع لما وصوا اليه و تشاهدتهم عن كثب
خارج صالون الأزياء الراقية، كانت إميلي تتمتع بذوق أكثر تمردًا للأزياء السائدة والمتعارف عليها لم يكن المجتمع التقليدي يفهمه ولم يكن قادرًا على فهمه في ذلك الوقت، كانت بوهيمة بأمتياز، وافق ذلك مزاجية الرسام البوهيمي الشهير (غوستاف كليمت) ليرتبطا معاً بصداقة مميزة امتدت (27) عاماً، كان كليمت زير نساء حتى أذنيه، لم يتزوج في حياته بالرغم من انجابه اولاداً من علاقات عابرة
التقيا الأثنان عندما كانت (إيميلي) في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت شقيقتها الصغرى (هيلين) قد تزوجت من شقيق غوستاف إرنست كليمت) ولكنها توفيت بعد مرور عام على الزواج
تم تعيين غوستاف وصي على (هيلين) في غياب أخيه، وأصبح ضيفًا متكررًا في منزل عائلة (إيميلي) الصيفي في بحيرة أتيرسي، أصبحت (إيميلي) قريبة منه على الفور، يقول البعض إنهم اصبحا عاشقين، عشاق وأصدقاء، أصبحت رفيقة حياة للرسام، اختلطت في عالمه البوهيمي والمجتمع الراقي على حد سواء، وكان يرسل كلاهما للآخر الزبائن المترفة الثرية
كليمت كان معروف في أسلوبه الاستفزازي والمثير في الفن، كانت (إيميلي فلوك) ايضاَ تشعر بميلها لخلق شيء ثوري جديد غير سائد، كانت ترتدي فساتين دون مشد وفضفاض من الكتفين مع أكمام مريحة وعريضة عكس ذائقة النساء آنذاك، غالباً ما كان يتم تصويرهما معاً، يمكن أن تتخيلهما في جميع صورهما وكأنهما زوجين هيبيين أنيقين
الفساتين التي كانت تصممها حسب ذوقها الغريب لم تنل حظاً في بيعها، كانت ثورية جداً و قبل زمانها أيضا، في حين استمرت فساتينها التقليدية في تقديم أداء جيد بشكل معتدل في صالون الأزياء الراقية في فيينا، كما رسم (كليمت) بعض الملابس لصالون (إيميلي) في أسلوب عقلاني وهو أسلوب تعززه الحركة النسائية آنذاك
يرجح أنه جسّدها في لوحات كثيرة ولكن أشهرها كانت لوحة (القُبلة) التي أنجزها عام (1908) وتعتبر لوحة أيقونية للرسّام النمساوي، وإحدى أبرز لوحات الفترة الذهبية، وقد رسمها في سن الخامسة والأربعين، وهي أيضا أكثر أعماله شهرة
اللوحة عِناقٌ حميمي بين زوجين أو حبيبين يتعانقان و يقف الاثنان في مشهد رمزي يرتديان بعضهما البعض في تداخل حميمي وسط حقل من الذهب، هو المعتاد على رسم لوحاته برقائق الذهب مع أكثاره من الزخارف المنقوشة على لباسي الرجل والمرأة التي ارادها ان تُعبرعن المحتوى الجنسي الكامن وراء القُبلة، ثوبُ المرأة مليء بدوائر يقابله ثوب الرجل المليء بالمستطيلات، أما بقية الزخارف التي تملأ اللوحة فعكس تأثره الواضح بنقوش الفيسفساء الإيطالية والبيزنطية في السجادة المليئة بالزهور التي يقف عليها العاشقان
في اللوحة، تجسيد لأعلاء قيمة الذكورة المُتمثلة في حجم الرجل الأكبر من المرأة والثوب الأطول، علماً إن (إيميلي) كانت في الواقع أطول قامة منه، اراد ان يوصل للمتلقي بأن الذكورة هنا ليست تعبيرا عن ميل جنسي فقط، بل كحالة من حماية الرجل للمرأة والتي تظهر في تعلق المرأة في رقبة الرجل بيدها اليُمنى فيما تمد يدها اليسرى لتمسك يده اليُمنى
النقد الذي كان يوُجّه للقُبلة لم يكن هيناً، لكن كليمت استمات في الدفاع عن محتوى لوحاته، خاصة لوحات الفترة الذهبية التي تميزت بدلالاتها الجنسية الصريحة والتي اعتبرتها الأوساط الفنية جريئة للغاية في تلك الفترة، كان يدافع كليمت بقوله : كفى رقابة... أريد أن أتحرر
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقدت (إيميلي) معظم زبائنها بعد الغزو النازي للنمسا وأجبرت على إغلاق صالونها وعملت من الطابق العلوي من منزلها
على الرغم من ورثها نصف ملكية كليمت، التي ذهبت مع كل اعمالها في ذاك الحريق الا إن (إيميلي) قد فقدت مصدر إلهامها لمواصلة الابتكار والإبداع بعد وفاة كليمت عام (1918) عن عمر يناهز (56) عامًا بالسل الرئوي عندما صادف ذاك اجتياح اوربا بأنفلونزا اسبانية كانت كلماته الأخيرة تقول: احضروا لي إيميلي
بعد وفاة كليمت، جمعت(إيميلي) رسائله إليها في سلال الغسيل وقامت بحرقهم، لكنها لم تنسى أبدا حب بعضهم البعض، وبعد إغلاق عملها، إحتفظت بغرفة صغيرة تنظر إلى فناء في كازا بيكولا، محولة ذلك إلى متحف خاص وحميم يحتفظ فيه بأثاث أستوديو كليمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، دمر حريق مدمر كل المبنى، بما في ذلك مجموعاتها والأشياء الثمينة التي تعود إلى صديقها كليمت
لم تكتب (إيميلي) مذكراتها قط، ولكن على الرغم من ندرة المصادر، تمكن المؤرخون من إعادة بناء قصة نفوذها القوي كإستخدام لواحد من أعظم فناني القرن العشرين ومن بين آخر الناجين من عالم قد اختفى تماما، توفيت في فيينا في ٢٦ أيار ١٩٥٢