(2 – 2)

تظهر "مدونة غوما"، على نحو نادر(... ودقيق ايضاً!)، نوعية العلاقة ما بين الاسبان الحكام الكونولياليين الجدد للبلاد والمواطنيين الاصليين المحليين على مستوى اشكالية "الانا والآخر"، وتبين في الوقت ذاته، عن قيمة "استحقاقات الآخر"، وعن كثرة ضياع "الفرص المفقودة" ايضاً. من هنا تنبع اصالة تلك الوثيقة/ الشهادة، ومن هنا كذلك تتجلى قيمة تمظهراتها الفنية. نحن ، اذاً، ازاء وثيقة متعددة الخواص والسمات لا نظير لها، تستدعي ثيمتها استنطاق إشكالية حضور "الذات" والاعتراف باستحقاقاتها، ونزوعها نحو "الآخر" المختلف ..والمتتم لها والاشادة به وبقيمته وجدارته. لكنها ايضا تنطوي على حيرة ازاء سلوكية هذا "الآخر"، وتبنيه تصرفاً ينحو لجهة تعمد اضاعة وتشتيت الفرص المتاحة!

واود قبل الحديث عن فنية تخطيطات صفحات المدونة وقيمتها التشكيلية، ان أٌشير، ولو بعجالة، الى نوعية الذهنية السائدة والحاكمة لدى مجتمع الانكا، المبتدع لتلك المدونة المعروضة، وعلاقتها نحو "الآخر" المختلف، وهو يعاني، في الوقت نفسه، من فعل ابادة جماعية "اشتغل" عليها الغزاة الاسبان بدون رحمة وحتى من دون سبب. ذلك لان الرجل الابيض (الغزاة الاسبان هنا) حين وصل الى القارة الجديدة، على متن سفن كولومبوس، استقبل بالترحاب، على عكس ما كان يمكنه هو ان يتوقع. والباعث لهذا السلوك، كما يخبرنا عالم الإناسة "كلود ليفي –ستروس" (1908 – 2009) Claude Levi-Strauss، الذي اوردنا اقوله في الجزء الاول من هذا المقال، هو ان تفسير ذلك يقع ضمن تصورات من "..ان اهل البلاد الاصليين كانوا ينتظرون ذلك الوصول لانه مدرج في اساطيرهم". ويشيرفي مكان آخر من ان الهنود المحليين "استقبلوا المقبلين البيض باذرع مفتوحة، الى درجة ان كولومبوس نفسه ذهل لبشاشة ذلك الاستقبال، علماً ان موقف الغزاة كان على عكس ذلك"! (ابراهيم العريس: المصدر السابق).

عندما شاهدت معرض مخطوطات "مدونة بوما" في فضاء قاعة "المكتبة الملكية" في كوبنهاغن، دهُشت لناحية نوعية المعروضات ولاسلوب عرضها المتكون من لوحات/ منصات، مثبت عليها "ملصقات" تمثل بعض الاستنساخات المستلة من مخطوطة "المدونة" اياها، البالغة عدد صفحاتها حوالي 1200 صفحة/ مخطوطة، كما اشرنا قبل قليل. لقد بدت لي تلك "الملصقات" المعروضة والمشغولة يدوياً، وكأنها لوحات فنية متكاملة،.. وهي كذلك فعلاً. ان قيمتها الفنية تكمن باضافاتها المميزة للثقافة وللمعرفة في آن. وهي باسلوبها الفني مقارنة بتاريخانيتها، وبنمط تشكيلاتها المتفردة، اذ "تحكي" ومن خلال مضمون اللوحات المرسومة صنوف المعاناة والشقاء التى لقيها المواطنون المحليون على ايدي الاسبان الغزاة، فانها تبدو بخطوطها المتقشفة وكأنها "تتضرع" بذلك التقشف لتبيان نوعية الآسى والوجع وصنوف الالام النازلة، فجأة، على رؤس

اولئك الناس الطيبين! تحتوي المدونة اياها على 400 رسمة مشغولة باليد، كما هي بقية الصفحات الاخرى المكتوبة باليد ايضاً. وقد جزأت مجموعة صفحات الكتابة النصّية وكذلك اللوحات الفنية المرسومة الى أجزاء لمضامين فرعية عديدة ضمن القسمين الرئيسين اللذين يتألف منهما متن المخطوطة، وهما، " التاريخ الحديث" و "الحكم الرشيد". وعرضت لوحات "المخطوطة" تحت مسمى تلك المضامين الفرعية. احيانا، تنشر اجزاء استلالات من متون تلك المخطوطات، لتشير الى طبيعة اللوحات التخطيطية، فمثلا تم عرض سلسلة من رسومات تعبر عن معاناة "الانكا" وعذاباتهم واساليب قتلهم من قبل الغزاة الاسبان. فيكتب "صاحب المخطوطة" مخاطبا ملك اسبانيا (الذي كان يعتقد بان الملك سيطلع عليها شخصيا)، قائلا: "ان تسجيل امثال هذه الامور وكتابتها تجعل المرء يصرخ ويبكي. لا احد من حاشيتك ابلغك بها. انا سوف اقول الحقيقة لجلالتك!". وفي مكان اخر، حيث توثق لوحات المخطوطة صنوف الشقاء والالام والاوجاع التى انزلها الغزاة على شعب "الانكا" ثمة كلمات مستلة من المدونة ينبأ "الكاتب" ملك اسبانيا بها، فيقول " سيختفي شعب الانكا في هذة المملكة، سيختفون، يا صحب الجلالة، تماما. بعد فترة ربما تقدر بعشرين سنة، سوف لن تجد مواطنا هنديا يخدم التاج الملكي، ولا احد سيكون بمقدوره الدفاع عن عقيدتنا الكاثوليكية المقدسة!". كما توجد من ضمن معروضات المعرض رسوم تعبر عن "تقويم ديني مقدس" لدى الانكا. فمثلا اعتتبر الشهر الموافق الى كانون الثاني بانه شهر "التوبة والصيام" وما تطابق مع شهر شباط فهو شهر "تقديم القرابين" ولكن بالذهب والفضة! في حين شهر آذار فهو " شهر الاضاحي" بيد انها اضاحي حيوانات "اللاما"! اما شهرآب فهو يتزامن مع "شهر العمل في الحقول" وايلول هو شهر "عيد القمر"، وتشرين الثاني يتوافق مع شهر"يوم الميت"، الخ الخ..

من ضمن تخطيطات المدونة المعروضة بالمعرض ثمة لوحتان مثيرتان: موضوعا وتقنيةً؛ تتعلق احداهما بتخطيط للمدون " فيليب غومان بوما دي ايالا" شخصياً، وهو يمثل بين يدي ملك اسبانيا، والثانية لمشهد اعدام زعيم الانكا من قبل الجنود الاسبان امام انصاره! يتعين التذكير، ونحن نشاهد براعة خطوط الرسمتين والمقدرة العالية في توضيح مفرداتها وشخوصها باختزال رشيق، باننا لازلنا زمنياً في بدايات القرن السابع عشر وعند جغرافية ذات عوالم نائية!

تبين الرسمة الاولى المدون "دوما" ذاته، كما ذكرنا، وهو جاثِ على ركبتيه امام الملك في لقاء افتراضي (فهو بالواقع لم يقابل الملك ولم يزر مدريد مطلقا!). ويبدو في الرسمة وهو يتحدث الى الملك قارئا في كتاب مفتوح يمسك به، والملك يصغي له مهتماً. وعلى الرغم من تفاوت سلم شرف "التراتبية" المتوقع والمعتاد في هذة الحالة بين "دوما" والملك، فانهما في الرسمة يبدوان متساويين، بل ثمة اهتمام تفصيلي يضفيه الرسام على الرجل الجاثي. ويشي نمط نوعية كتابة الاحرف وحجمها في اعلى الرسمة ، بتوازن تكويني مع محتويات القسم الاسفل منها. ثمة خطوط مستقيمة، يسعى الفنان بها وراء تبيان وتثبيت اطار اللوحة المرسومة وتحديد مساحتها، تندمج بجزالة مع احرف كلمات القسم العلوي. تثير الرعب مضامين الرسمة الثانية وتبعث عن اسى عميق؛ فهي مكرسة لحادثة اعدام "توباك أمارو" زعيم الانكا من قبل الجنود الاسبان امام مناصريه المحليين. ينزع الرسام الى اظهار محتوى الرسمة التراجيدي في لحظة مؤثرة وحزينة وهي لحظة الاعدام بالسيف والمطرقة. واذ يقسّم الفنان مساحة سطح الرسمة الى اربعة اقسام فانه يولي نصفها الى "اجراءات" عملية الاعدام الاليمة، تعبيرا منه عن اهتمام زائد بها، جاعلا الربع الاعلى منها مخصصا لعنوان حروفي، في حين افرد الربع الاخير الاسفل لحضور مجموعة من نبلاء الانديز المضطربين وهم يرثون سيدهم البرئ.

تظهر خطوط الرسمتين (مثلما تظهر، بالمناسبة، غالبية خطوط الرسمات المعروضة) مهارة عالية لحساسية مفرطة في اناقتها وفي تعبيريتها المختزلة. وتعكس هذة الخطوط بصيغة مبدعة طبيعة الافكار والرؤى والحدوس التى تعود بمجملها الى ثقافة محددة، ثقافة آخرى. وهي ان بدت عفوية شديدة الرهافة، لكنها قادرة على تأثيث تلك العفوية بذائقة "رعوية" <باستوراليه>Pastoral مفعمة بالبراءة والبساطة مرتقية بفنيتها الى مصاف الانجاز المرموق، الذي يحمل في طياته تميزه وفرادته! وهذا التميز وهذة الفرادة اللذان وسما ذلك الانجاز الفني الذي تعرض نماذجه "المكتبة الملكية" كان بمقدوره ان يضيف المزيد الى الثقافة الاوربية، بدلا من التدمير والالغاء والتجاهل الذي مارسته تلك <الثقافة> لكل ما يمكن ان ينتمي الى "الآخر" المختلف. ولعل ذهاب الفنان المدون بعيداً في تحميل "رسمتيّه" الاثنتين (ونعني بهما "حادثة الاعدام " و"مثول المدون امام الملك") حمولة دلالية تشي برمزية عالية، يفسر لنا المغزي العميق المستتر وراء رسمهما: فالاعدام هنا، كناية عن "ذبح" وتدمير ثقافة آخرى، بينما تدلل لوحة "حضور المدون مع الملك" الى إستعارة تسعى وراء تبيان "الندية"والمساواة بين الشخصين المرسومين. وتبقى معروضات المكتبة اياها تدلل عن قيمة واهمية ما اجترح سابقا في ثنايا تلك الثقافة المحلية، في الوقت نفسه الذي تذكرنا عن واقعة تبديد و"ضياع" الفرص المتاحة للتثاقف وتبادل الخبر!

تصبو رسومات المعرض المقام في المكتبة الملكية فيما تصبو من اهداف، الى اثارة اشكالية فلسفية معقدة، تكمن في علاقة "الانا بالآخر"، وتتطلع من خلال "سرديتها" المصورة، في الوقت ذاته، إظهار ضياع الفرص المتاحة لامكانية التثاقف والقدرة على الاثراء المعرفي المتبادل. في هذا المعني، يمكن الرجوع مرة اخرى الى كتابات " كلود ليفي - ستروس" فهو يرى بان مراكز الحضارات الانسانية كانت عظيمة وكبيرة "ليس بفضل عبقرية ما، تمتع بها عرق من الاعراق، بل لان البشر الذين بنوا تلك الحضارات وعاشوا في داخلها قد عرفوا كيف يستفيدون من العناصر التى وفرتها لهم شتى الثقافات المختلفة، فعمدوا الى توليد توليفة في ما بينها" بمعنى "..ان الحضارات الكبرى هي تلك التى وجدت نفسها عند تلاقي تأثيرات شديدة التنوع، فعرفت تفتح أبوابها على مصاريعها وان تعرض ذاتها لتأثيراتها"! (نقلا عن "ابراهيم العريس" من ارشيف <الحياة> اللندنية). لكن الذي حصل، واقعاً، في لحظة التلاقي تلك: بين الاسبان والامريكيين المحليين، هو نوع من ابادة، من الغاء واجتثاث تام للآخر وأستأصاله من قبل الاوربيين! في هذا الاطار يذكرنا "ليفي- ستروس" بان " المدهش هو ان اوربا، التى تعلمت في قرون سابقة على عصر النهضة، كيف تنهل من الآخر، وتبنى من خلال ذلك كله ثقافتها وعقلانيتها، وقفت عاجزة عن استيعاب الدرس الهندي – الامريكي". معلوم ان تدمير الآخر حتى ولو كان ثقافياً فهو في النتيجة تدمير للذات نفسها.

يتساءل عالم الإناسة (الأنثروبولوجي) الكبير "ليفي- ستروس" في كتابه المهم "حكاية القط البري" The Story of Lynx (الذي اشرنا اليه في القسم الاول من هذا المقال)، "..ترى ما الذي سيحدث لو ان نوعاً من التحالف قام بين اسياد اسبانيا الغزاة واهل المكسيك والبيرو الاصليين في ذلك الحين، بدلاً من ذلك الدمار العظيم الذي مارسه البيض ضد الملونيين" لو حدث هذا "لكان من شأننا ان نعيش اليوم في عالم لا علاقة البتة له بالعالم الذي نعيش فيه بالفعل". ويقول "..اذ كان قبول الاخر والحاجة اليه منخرطين في الفكر الاسطوري للهنود الحمر، كما انخرط ماضياً في تصرفات أصحاب الحضارات القديمة، ما اغنى الحضارات وجعلها تتوالد من بعضها بعضاً، فان فعل تدمير الآخر ورفضه بدوَا على الدوام منخرطين في – بل يشكلان جزءاً اساسيا من – الحضارات الغربية، منذ العصور الوسطى في الاقل. لقد الغى الغرب الآخر: الغاه في

اسبانيا كما الغاه في اميركا. الغاه باختصار في كل مكان تمكن من ان يلغيه فيه" (ابراهيم العريس، الف عام من العمران ، ص. 136/ البحرين، 2018). وفي مكان آخر يشير ذلك العالم الجليل في معرض تأمله لسيروة "اكتشاف" اميركا، بانه لا يشعر بالظلم والاجحاف اللذين لحقا بالهنود الحمر أنفسهم، وانما يشعر بالخسارة الكبيرة التى طاولت الغرب نفسه. الخسارة بكل معنى الكلمة ولهذا، يقول "ليفي – ستروس"، تراني افضل ان استخدم تعبير غزو العالم الجديد على تعبير اكتشاف العالم الجديد!". والمعرض المقام في اروقة "المكتبة الملكية" في كوبنهاغن، الذي عرضنا له في هذا المقال، دليل اضافي عن تلك "الخسارة" التى تكبدتها الانسانية جراء تلك الافعال المشينة، مثلما يظهر المعرض، ايضا، استحقاقات الآخر المتأخرة والاعتراف به وبثقافته الرفيعة، وفي نفس الوقت يذكرنا بضياع الفرص المتاحة للتثاقف!

واود قبل ان اختم هذا المقال، وموضوعه الشيق في العلاقة بين الانا والآخر، أن انوه من ان احد اسباب رقي الثقافة الاسلامية في العصر الوسيط وتقدمها حينذاك، يرجع في الكثير منه الى تلك "التوليفة" التى تحدث عنها "ليفي – ستروس"، المتولدة عن قيم وعناصر تعود بمرجعيتها الى ثقافات متنوعة انضوت تحت ذلك المسمى. ولئن تحضر في هذا المقام مقولة "جلال الدين الرومي" (1207- 1273)، الشاعر الصوفي، واحد اعمدة الثقافة الاسلامية وابنها البار القائل: "أنا أشبه أنا … واحِدُنا يُشبِهُ الآخر"، فانها بذلك تختزل بشكل حصيف مفهوم "التوليفة" اياها وتذكرنا بحضورها الدائم في خطاب تلك الثقافة، التى نسينا مع الاسف (بل ونرفض بالوقت الراهن، وننكر وحتى... نستنكر<!>)، مثل تلك الذهنية المنفتحة وسلوكها الحضاري المتقدم! □□

معمار وأكاديمي

الصور:
1- مشهد من معرض مخطوطة "مدونة غوما" (1612 -1615) في المكتبة الملكية في كوبنهاغن.
2- لوحة "حادثة اعدام زعيم الانكا امام اعين انصاره" من مخطوطة "مدونة غوما"، (1612 -1615).
3- لوحة "مثول المدون امام الملك"، من مخطوطة "مدونة غوما"، (1612 -1615).
4- مشهد من معرض مخطوطة "مدونة غوما" (1612 -1615) في المكتبة الملكية في كوبنهاغن.
5- رسوم مستلة من مخطوطة "مدونة غوما" (1612 -1615) في المكتبة الملكية في كوبنهاغن.