المقالة تقديم لكتاب (فرانك لويد رايت جني بغداد) للمعماري القدير موفق جواد الطائي، الناشر دار المدى، الطبعة الأولى 2016
تقديم - إيمان البستاني
حين صادف عيد ميلاده التسعين يوم الخامس من حزيران سنة 1957م و كان قد احتفل به وسط عائلته وحشد ضم كثير من الأصدقاء والمعارف تجاوز عددهم (125) شخصاً في مدينة (سبرنك كرين) الأمريكية، وشأن كل حفلات الميلاد بتلقي المحتفى به هداياه، كانت تنتظر صاحبنا هديتين، الأولى كانت أمريكية بتصميم دار أوبرا مدينة نيويورك، حلم أي معماري والتي رفضها دون أن يرمش له جفن! والثانية كانت دعوة عراقية بتصميم دار أوبرا بغداد، التي قبِلها فوراً وقلبه يرقص فرحاً وعلق بكلمة شهيرة: هذه أجمل هدية عيد ميلاد في حياتي
حزم حقائبه، أكبر مجددي الهندسة المعمارية، المعماري الأمريكي (فرانك لويد رايت) و اصطحب عن يمينه زوجته (ولكفانا)، وعن يساره صهره (وليم وزلي)، واستقل أول طائرة متجهة الى (جنة عدن) مدينة بغداد كما يحلو له أن يسميها
من شباك الطائرة قبل أن تهبط رأى جزيرة أم الخنازير ومنطقة الجادرية، وفي انتظاره كان أحد أهم طلابه المعماري الإيراني (نظام أميري) الذي سيكون مسؤولاً عن المشروع وكان صاحب مكتب استشاري في طهران، وقد صمم قصور فخمة لعائلة الشاه، والآخر كان المعماري (نزار جودت الأيوبي) نجل رئيس الوزراء و زوجته (ألين) المعمارية الأمريكية الأصل
نزل ضيفاً في (فندق الخيام) المجاور لسينما الخيام و الذي كان قد افتتح تواً، تجوّل في بغداد و زار المتحف والتقى ب(ضياء جعفر) رئيس مجلس الإعمار الذي كلفه ما أن رآه بمشروع أخر هو (تصميم البناية المركزية للبرق والبريد) و في نفس الموقع الذي تحتله الآن (بناية البريد المركزية في السنك) المصممة من قبل المعماري (رفعت الجادرجي) رحمهم الله جميعاً
التقى بعدها بالمعماريين والفنانين العراقيين في النادي الأولمبي الذي أقامته جمعية التشكيلين العراقيين الذي كان يرأسها المعماري الرائد (محمد مكية) حيث التقى يومها بالفنان الرائد (جواد سليم) وقال مخاطباً المعماريين :إذا ما أردتم المعاصرة فعليكم دخولها عبر تاريخكم المجيد، وأنّب بعضهم لكونهم يتمادون في تقليد العمارة الغربية، مما أغضب المعماري (قحطان المدفعي) حيث قاطعه ولم يتجول معه شأن بقية الموجودين
ألقى محاضرة في جمعية المهندسين العراقيين وأثنى على جمالية المقر وحديقته الممتعة وقال لهم بأنه قارئ متحمس لقصص ألف ليلة وليلة منذ أن كان صبياً، ويرى نفسه أحد أتباع (هارون الرشيد) ! ويرى العراق كمركز للشرق، وأشار الى حاجة بغداد إلى قانون للبناء وأشاد بجهود مجلس الإعمار وأبدى اعجابه عما رآه في المتحف من حضارة سومرية تنّور منها كثيراً، وأكد على ضرورة الالتصاق بالأفكار والموروث قائلاً : الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب، وأبداً لا يلتقيان
حُظي (رايت) بلقائين مثيرين مع جلالة الملك فيصل الثاني، ناقش الموقع المقترح لدار الأوبرا وأعرب عن عدم صلاحيته و تمنى لو أقيم على جزيرة أم الخنارير، فاجأ الملك فيصل المعماري (رايت) في نهاية حديثه قائلاً : الجزيرة لك سيد رايت
الأن حصل على الموقع (جزيرة الأعراس في أم الخنازير) بقى التصميم الذي يجب أن يكون للعراقيين لتكريمهم لا لصفعهم على وجوههم حسب قوله
كانت مصادر (رايت) المعرفية تعتمد على رؤية أسطورية للحضارة في العراق متأتية من قصص ألف ليلة وليلة والتاريخ البابلي القديم المتمثل بالزقورة كنموذج لبناء فريد، وتتركز فكرته ان تكون هذه التصاميم للسائح وفي نفس الوقت للعيش العام و محددة بميزانية مليون ونصف دولار وكانت يومها تعد ميزانية ضخمة
بدأ (رايت) بعمل تصاميمه الأولية معتمداً على مخططات التصميم الأساسي لمدينة بغداد المعدة من قبل ( مينوبريو، سبنسمي وماكفارليف) من المملكة المتحدة
اختيار الجادرية جاء لأعتبارات طقسية أيضاً حيث تتمتع بفارق في درجات الحرارة عن كل بغداد مضاف لها جمالية الموقع فهي سهلة الوصول وتطويرها ذات جدوى اقتصادية عالية

تصاميم الأبنية كلها موجهة بأتجاه القبلة أحتراماً للدين الأسلامي الحنيف، هذا ما حرص عليه (رايت) في كل تفاصيل المشروع، جعل الجزيرة ترتبط بجسرين أحدهما واطئ وبأتجاه القبلة والذي يوصلها بالكرخ فوق الجزء الضيق من النهر المتفرع من دجلة والذي ينتهي بحدائق وممشى و شارع الملك فيصل، الذي يرقى الى ساحة (بيازة) وهو محور التصميم الأساسي وقلبه النابض، يتعامد عليه شارع رئيسي هو خط التوصيل الذي يربط بين تمثال (هارون الرشيد) في الشمال و دار الأوبرا في الجنوب وباتجاه هذا الشارع صمم (رايت) متحفاً و قاعة فن وأسواقاً مكونة محور البنى التحتية الاجتماعية للمشروع،اعتمد (رايت) في معالجة المتحف على الضوء المباشر بالنفاذ لإضاءة اللوحات بألوانها الطبيعية الحقيقية

الجسر الأكبر يعبر الجزء الواسع من نهر دجلة ويربط الجزيرة بالجادرية (الجانب الشرقي من بغداد) موقع جامعة بغداد، عزز (رايت) هذا المسار بجملة من الأكشاك لتأكيد الصفة التجارية السياحية لتصميمه، كانت دار الأوبرا تشكل الجزء الجنوبي من الجزيرة وتمثال (هارون الرشيد) يشكل الجانب الشمالي منها، اعتمد (رايت) الحدائق (جنة عدن) وأكد هذا المفهوم بتمثالين (لأدم و حواء) تحت نافورة تشكل قبة من الماء ليؤكد سمة الجزيرة بأنها جنة عدن، وأشجار حمضيات ربما كان يعتقد (رايت) بأن حواء قدمت لآدم برتقالة وليس تفاحة
كان من المخطط له أن تقوم الفرقة السمفونية العراقية بافتتاح المشروع والتي يتم تشكيلها من قبل أحد افراد العائلة المالكة ويكون قائد أوركسترتها (الشريف محي الدين حيدر) والتي تتسع ل 1600- 7000 مشاهد ببناء بشكل هلال شبه دائري فريد يجعل العلاقة بين المشاهد والعارض أكثر حميمية ومباشرة
أهم ما يميز المبنى من الداخل قوس كبير يحيط خشبة المسرح أسماه (رايت) ب(قوس قزح) يصور أحد مشاهد قصص ألف ليلة وليلة، يعلو المبنى تمثال لعلاء الدين وهو يحمل مصباحه السحري في يد والسيف في يد أخرى رمز لسيف النبي محمد(ص)، على أن تنفذ من قبل الفنانين العراقيين لقدرتهم العالية
كانت قيمة بغداد عند (رايت) لا تقل عن (نيويورك) لهذا صمم تمثال (هارون الرشيد) بحجم مقارب لتمثال الحرية بأرتفاع (300 قدم) وأعتمده كعنصر تصميمي لشمال الجزيرة و دلالة تُرى من مسافة بعيدة يواجه الشرق سمة كل التماثيل في الحضارات القديمة، يجلس التمثال على مدرج يشبه (الملوية) نُحت على سطحها جمال بهيئة قوافل إشارة الى التجارة العالمية وخطوطها التي كانت تنتهي ببغداد مثل (خط الحرير) وطريق التوابل، واقترح أن تكون (الملوية) مفرغة من الداخل لأجل استغلالها للأغراض السياحية والخدمية
كانت الحكومة تزمع بناء جامعة لمدينة بغداد في منطقة الجادرية ولم تكن من مهام (رايت) تصميمها ولكنه مع هذا قدم تصميم متكامل بها وكانت مقابلة لجزيرة عدن وإلى الجانب الغربي من ضفة النهر وتم ربطها بالجزيرة من خلال جسر عالٍ يبدأ بشارع الملك فيصل الثاني وينتهي بالحرم الجامعي
كما أشير سابقاً، عُهد الى (رايت) أيضاً تصميم وإعداد تصاميم لبناية البريد المركزي في منطقة السنك المكتظة بالسكان وتشكل قلب شارع الرشيد حيث الفنادق والمحلات التجارية، هدف (رايت) أن يكون البناء اقتصادي غير مكلف، اقترح أعمدة حديدية تملأ بالكونكريت لتشكيل هيكل البناء، أمّا التسقيف فقد اقترح أن يكون كونكريتي مزفت بشكل جيد يمنع تسرب ماء المطر
استغرق تصميم بناية البريد المركزي (8) أشهر، حمل (رايت) مخططاته جميعها بداية مايس 1958 إلى مجلس الإعمار وكان فرحاً فخوراً بها، تأخر مجلس الإعمار في الإجابة وجاءت ثورة تموز لتضع نهاية حزينة لهذا الجهد، اكتفت الجمهورية العراقية الشابة بتصميم عملي لجامعة بغداد كان مقدم من قبل المعمار الألماني الرائد (والتر كروبيس) ونُفذت بالفعل أجزاء مهمة منه
بعد شباط 1963 رُميت المخططات والرسوم فوق سطح وزارة الإعمار، وبهذا طارت جنة عدن و دار الأوبرا وطار جني بغداد إلى موطنه أمريكا، لم يتنازل عن حلمه و حُبهِ لبغداد وبعناده المعروف الذي يعزوه الكثير لأمه الألمانية، قرر تنفيذ أجزاء من المشروع في ولاية أريزونا بالذات للشبه الكبير بجو بغداد وبيئتها، كان هذا أخر تصميم ل(رايت) قبل وفاته في مايس 1959 لذا تم اعتباره من التراث الوطني ودوّن في عام 1985 في السجل الوطني للمواقع التاريخية