في احدى زياراتي "للمكتبة الرئيسية العامة" في كوبنهاغن (حيث اقيم)، لاحظت ان ادارة المكتبة (كعادتها بين الفينة والآخرى)، قد نظمت "عرضاً" من مجموعة كتبها، مكرساً لثقافة منطقة الشرق الاوسط، عارضة كتب تتناول الشأن الثقافي المتضمن مؤلفات بلغات متعددة معنية في آداب وفنون وعمارة وموسيقى وآثار تلك المنطقة. وعلى حين غرة، لمحت كتاباً مؤلفه اسم معروف ومألوف جدا لدي وهو "مروة الصابوني": تلك الفتاة السورية من حمص، التى راسلتني، اول مرة، قبل نيف وعشرسنوات، عندما كانت تعد لدراستها العليا في العمارة، وطلبت مني في حينها بعض المعلومات التى تهم إطروحتها، ثم اصبحنا بعد ذلك "اصدقاء" عن بعد، بعد ان اسست مع زوجها المعمار "غسان جانسيز" في 25 حزيران 2010 موقع "البوابة العربية للاخبار المعمارية". وهو موقع الكتروني عربي رائد ومهم ويحظى بانتشار واسع لدى المهتمين بالعمارة واخبارها. وقد نشرت فيه شخصيا عدة مقالات ودراسات طيلة سنين عديدة، لحين توقفه اثر نشوب الحرب التى شهدتها سوريا الحبيبة، وادت الى تعطيل كثير من الفعاليات الثقافية، بل ودمرت تلك الحرب المأساوية باستمراها الطويل، بُنى حضرية كاملة لمدن معروفة بارثها الثقافي والمعماري. لكن "البوابة" استعادت لاحقا حضورها في فضاء الخطاب الالكتروني، محققة متابعة جيدة من قبل كثر من متابعيها القدماء والجدد ومن المهتمين بالشأنين العمراني والمعماري. ومع علاقتي الودية التى اكنها لمؤسسي الموقع واعجابي الكبير بنشاطهما المهني والمعرفي ، فقد حالت انشغالاتي العديدة بالوقت الاخير الى عدم متابعة "البوابة"، وانقطعت عني، بذلك، اخبار "مروة" و"غسان". بيد ان الحدث السار الذي وفرته مكتبة كوبنهاغن لي، بالاطلاع على <مؤلف مروة>، كان باعثا من جديد الى إعادة "اللقاء"، مرة اخرى، باصدقائي العزيزين وتتبع عملهما المعرفي المفيد والضروري، عبر تصفح منصتهما الالكترونية في الشبكة العنكبوتية.
و<مؤلف مروة>، الذي اشرت اليه تواً، هو كتابها المعروض في المكتبة الكوبنهاغنية، وهو بعنوان "معركة من اجل الوطن: مذكرات معمار سوري" The Battle for Home: The Memoir of Syrian Architect مكتوب باللغة الانكليزية، ونشرته في سنة 2016 دار نشر "تايمس اند هيدسون" البريطانية المرموقة. وكان من ضمن "مفاجآت" الكتاب شخصية كاتب تمهيد الكتاب، وهو الفيلسوف البريطاني المعروف عالميا والذي فقدناه مؤخرا "روجر سكروتن" (1944 – 2020) Roger Scruton، الكاتب والمفكر في حقل الجماليات، وسبق وان نشر مؤلفات عديدة منها كتاب عن "الفن والخيال" (1972)، و"جماليات العمارة" (1979) و"جماليات الموسيقى" 1997، واكثر من 50 كتاب في ميادين الفلسفة والفن والسياسة والدين والآداب. قد لا تحوز اراء "سكروتن" الفلسفية على قبول واسع، نظرا لآرائه "المحافظة" التى يعتز بها ويعتبر نفسه منتميا الى تلك الشريحة "المحافظة" (الف كتابا سنة 2014 "كيف تكون محافظاُ")، الا ان حضوره الفاعل في الخطاب المعرفي، جعل منه مفكرا معتبراً حُظى باحترام شديد.
يكتب "روجر سكروتن" في تقديمه للكتاب، متذكرا < .. كانت ثمة.مفاجئة غير عادية بالنسبة لي، عندما استلمت رسالة بالبريد الالكتروني مرسلة من حمص في سوريا، قبل سنتين، تستفسر مني عن شيء ما ورد في كتابي "جماليات العمارة". كيف وصل ذلك الكتاب الى حمص، المدينة التى عرفت منها مأساة بلاد الشام التى شغلتني على مدى العشرين سنة الماضية؟ ومن هذا الشخص: غريب الاطوار، الذي يكرس وقته للبحث في قضايا جماليات المعمار، في الوقت الذي كل ما يحيط به وبمدينته القديمة من نسيج حضري يتحول الى انقاض وحطام؟ لقد اجبتها على الفور، وما لبثت بوقت قريب ان انشغلت في خضم مراسلة منتظمة مع شخص من اكثر الناس الرائعيين الذين قُدرّ لي ان اقابلهم في حياتي"! كما كتب، ايضاً، في سطور ختام تمهيده الهام والمثير للاعحاب مايلي: " هذا الكتاب هو سجل مؤثر لجهد شخص واحد بقى مخلصا لوطنه، في ذات الوقت الذي يعاني من محنة شخصية يلفها حزن عميق. والكتاب، حتى وان اخبرنا عن قصة موجعة، فانه ينطوي ايضا، على روح جميلة، نحس بها وتصلنا من بين حطام تلك المعارك المروعة والمحيرة، ويبعث لنا برسالة آمل!".
اشتمل كتاب "مروة الصابوني" على خمسة فصول، كل فصل منها يهتم "بمعركة" محددة، خاصة بموضوع معين من الصراعات التى تنوي المؤلفة "القيام" بها، في تعاطيها مع ثيمة كتابها والسعى وراء سردها وتفكيكها ثم اكتشاف حلول ناجعة لها، والوصول الى نتائج وتوصيات يمكن بها "ترميم" ما خربته تلك الحروب المدمرة، وكل ذلك بالطبع من وجة نظر المؤلفة. كما اردفت الكاتبة بكل العناويين الرئيسية عنوانا ثانويا آخرا لكل منها. وجاء عنوان <معركة> الفصل الاول مكرساً لـ: - "معركة من اجل الحرية"، في حين كان عنوان <معركة> الفصل الثاني: "معركة من اجل حمص القديمة"، والثالث: "معركة من اجل <بابا عمر>"، والرابع: "معركة من اجل الوطن"، والخامس الاخير: "معركة من اجل الديمومة". وتشير "مروة الصابوني" في كتابها بانها <.. في البحث عن اجابات لتلك الاسئلة التى اثرتها في كتابي، فاني عشت نوعا من حياة ، لم تكن حياة سهلة اطلاقا. وفي رواية قصة مدينتي، وقصة وطني، فانا ايضا اروي، بقدر ما يكون ذلك مناسباً، قصتي الشخصية. وآمل بان قارئ الكتاب سيتعلم شيئا ما من هذة القصص الثلاث التى ربما تساعده في تفادي تكرار حدوث كثير من الخراب في امكنة اخرى، مثلما ذلك التى عانيينا نحن مثله، هنا، في سوريا>.
يثير الكتاب، اذاً، موضوعاً غاية في الاهمية، وغاية في الراهنية: كيف يمكن ان يكون مستقبل مدننا المدمرة، الخارجة تواً، من اتون حروب اهلية ضروس، كانت بيئتها المبنية، يوما ما، مسرحاً لها؟ كيف بمقدورنا ان نستدعي "اميج" وصور تلك المدن في الخطط الحضرية المستقبلية، هي التى شكلت جزءاً من ذاكرة ناسها الذين عاشوا فيها واقترنت مصائرهم مع مصائر مدنهم العزيزة على قلوبهم ومعالمها اللافتة التى لا تنسى! بمعنى آخر، تقف المؤلفة عند صميم معضلة مهنية ومعرفية وحتى فلسفية جدّ هامة، تطمح لايجاد اجوبة مقنعة وناجعة لتلك الاسئلة التى استدعتها في فصول كتابها. يذكرنا "روجر سكروتن" في تمهيده لكتاب مروة الصابوني، من "... ان ثمة نموذجين تخطيطين فقط تم اقتراحهما، حتى الآن، الى مدن الشرق الاوسط؛ والتى يمكن بهما التواصل مع العالم المعاصر. اولهما مشروع لو كوربوزيه الى الجزائر <مشروع اوبوس Obus (1930) خ. س.>، المنطوي على هدم كل شئ وحصر السكان بكتل خرسانية تنهض على الطرق السريعة، والنموذج الآخر، هو "دبي"- الحديقة الترفيهية المادية للبترو دولار، المصممة بالكمبيوتر في لندن للموسرين الدوليين"!
والتساؤل التلقائي المستنبط من تلك الاطروحة "السكروتنوية"، هل، اولاً، يمكن، بسهولة، ان نقر بصوابية مثل هذا الطرح، وثانياً، هل نحن حقاً امام خيارين لا ثالث لهما: اما هذا، وإما تلك؟! نحن نرى بوجود خيارات ثالثة، ورابعة وخامسة الخ.. بيد ان جميع تلك الخيارات يتعين ان تستقي صدقيتها من امكانات "التثاقف" التى توفرها لحظة زمنية معينة، نجد انفسنا نعيش في خضمها. فالحضارة المهمة، والمجتهدة والمثابرة، تخلق "توليفة" خاصة بها، كما يدعوها عالم الانثروبولجي الفرنسي المعروف "كلود ليفي- ستروس"، متأتية من قراءات وادرك واستيعاب عميق للثقافات الاخرى التى "مرت" على تلك الارض. فمثلما يرى هذا العالم الجليل ".. بان مراكز الحضارات الانسانية كانت عظيمة وكبيرة "ليس بفضل عبقرية ما، تمتع بها عرق من الاعراق، بل لان البشر الذين بنوا تلك الحضارات وعاشوا في داخلها قد عرفوا كيف يستفيدون من العناصر التى وفرتها لهم شتى الثقافات المختلفة، فعمدوا الى توليد توليفة في ما بينها" ويشير "..ان الحضارات الكبرى هي تلك التى وجدت نفسها عند تلاقي تأثيرات شديدة التنوع، فعرفت تفتح أبوابها على مصاريعها وان تعرض ذاتها لتأثيراتها"! لكن الاهم في كل ذلك، في تلك الاشكالية التى تثيرها "مروة" في كتابها، يتعين ان تكون تقصياتنا موجهة نحو امرين: اولهما الاعلاء من شأن المهنية مع النأي بالنفس عن ثقافة الحلول الفلكلورية والنزعات الشعبوية، والامر الآخر، الابتعاد جهد الامكان عن "النظرات الاستشراقية" التى عادة ما يروج لها في الدوائر الغربية فيما يخص نوعية الحلول الجاهزة لقضايا منطقتنا.
لا يكفي "تحنيط" التاريخ والحفر عميقا في الماضي وتمجيد العادات القديمة بحجة الاهتمام بالهوية المحلية والتطلع لجعل كل ذلك بمثابة "مخزناً" لحلول جاهزة، تمنحنا لوحدها متعة الاحساس بالمكان، وبـ "روح" المكان! علينا اعادة التفكير بتلك "المسلمات"، مثلما يتعين اعادة قراءة ذلك الماضي ليكون "نبعاً" لاستجابات ذكية، عالية المهنية ومبدعة، تهتم بالانسان ومشاكله الحقيقية وتسعى وراء الرفع من قيمة بيئته المبنية لتتماشى مع متطلبات العصر الذي نعيش به وبتطلعاته المستقبلية. والفرق واضح ما بين "المستودع" الساكن، و"النبع" المتدفق بالافكار والرؤى. واذ ادرك، تماما، صعوبة الوصول بسلاسة الى حلول ناجعة لتلك القضايا التى يثيرها الكتاب، فانا اعي، ايضاً، طبيعة "المعارك" ونوعيتها التى تخوضها "مروة الصابوني" لتحقيق مبتغاها في رؤية مدينتها الجميلة والاثيرة لديها، مدينة حضارية معاصرة تتمتع بكل مزايا العصر ونجاحاته.
ارفقت المؤلفة كتابها بتخطيطات جميلة لمدينة حمص، مشغولة من قبل المؤلفة ومرسومة بخطوط انسابية متميزة، تمثل "نظرات" شخصية الى واقع المدينة وتعتبر، الآن، سجلا توثيقيا لها. متمنيا ان يترجم هذا الكتاب الى العربية، وان امكن، ان تقوم بهذة المهمة "مروة الصابوني" ذاتها، للحفاظ على روحية الكتاب واظهار مغزى اهدافه السامية.□□

معمار وأكاديمي

الصور
1- غلاف الكتاب
- من 2 – الى 5: تخطيطات كرافيكية مشغولة من قبل المؤلفة عن مشاهد مدينة حمص.