في هذه المرحلة العسيرة التي تعيشها تونس راهنا، والتي تعلو فيها أصوات مُحترفي الصخب والعنف السياسي والايديولوجي، وفيها أصبحت مظاهر الرداءة والبذاءة والقبح هي القاعدة وليست الاستثناء، نادرة هي الأحداث الثقافية والفنية التي تبهج الروح، وتُخَفّفُ من وطأة الهمّ والغمّ على القلوب والنفوس. ومن بين هذه الأحداث النادرة صدور موسوعة الفنانين التونسيين في طبعة أنيقة، وباللغة الفرنسية عن دار سيريس. وهي من انجاز كل من إلزا ديبيناي، وهي مؤرخة في مجال تاريخ الفن، وعارفة بالفنون في العالم العربي وفي القارة الافريقية، ورضا مومني، وهو مُختصّ في تاريخ الفن، وله اطلاع واسع على مختلف مراحل الفن التونسي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم. والآن هو يعمل في قسم تاريخ الفن بجامعة هارفارد الأمريكية.
أما الفضل في صدور هذه" التحفة الفنية" فيعود إلى المثقف ورجل الأعمال المرموق السيد كمال الأزعر المعروف بحبه للفن، وبكرمه وسخائه تجاه الفنانين التونسيين الذين أقام لهم في منطقة "البحر الأزرق" بضواحي العاصمة الشمالية فضاء بديعا فيه يبدعون، ويعرضون أعمالهم الفنية.
وفي التمهيد، أشارت السيدة لينا الأزعر أن تونس ذات التاريخ العريق الذي يمتدّ إلى ثلاثة آلاف سنة، تزخر بكنوز فنية عظيمة ، إلاّ أن هذه الكنوز تعاني من الإهمال والنسيان، ونادرا ما تتمتع بالعناية التي تستحقها عن جدارة من قبل المؤسسات الثقافية الرسمية. وفي حين تتنافس بعض الدول العربية راهنا على الاهتمام بالفنون، وببناء المتاحف الكبيرة، وبالتعريف بفنونها وبفنانيها، وبفتح آفاق على مختلف فنون العالم، تتعثر المحاولات في تونس في هذا الاتجاه، وتتم عرقلتها بمختلف الطرق والوسائل الإدارية والسياسية وغيرها. مع ذلك، يواصل الفنانون التونسيون عملهم، متحدين المصاعب المادية والمعنوية، ولا هدف لهم سوى مواصلة المغامرة الفنية التي شاركت فيها أجيال وأجيال.
وأضافت السيدة لينا الأزعر تقول بإن الهدف من موسوعة الفنانين التونسيين هو ملء فراغ هائل في مجال تاريخ الفن في تونس التي شهدت منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم تجارب مختلفة ومتعددة إلا" أن التعريف بها، وبأصحابها ظل شبه غائب. من ذلك مثلا أنه لا يوجد الآن في تونس متحف يعكس التجارب المذكورة، ويُذَكّرُ بخصائصها وبمميزاتها الفنية والتاريخية. كما تهدف الموسوعة بحسب السيدة لينا الأزعر إلى تجاوز " الفكر الواحد"، ذلك الفكر الذي يرفض الاختلاف، ويحارب النقد الخلاق، ليكون في النهاية فكرا اقصائيا يهيمن عليه الجمود والركود والأحادية.
وجاء في المقدمة أن المغامرة الفنية في تونس بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، أي بعد الزيارة التاريخية التي أداها أحمد باشا باي إلى فرنسا وذلك عام 1846. وخلال تلك الرحلة، زار الباي المعالم التاريخية الشهيرة في باريس مثل قصر "فارساي". كما حضر عرضا مسرحيا بدعوة من الامبراطور لويس بونابارت. وعند عودته بنى قصر "المحمدية" جنوب العاصمة راغبا أن يكون شبيها في الأبهة والفخامة بقصر "فارساي" إلا أنه أصبح الآن خربة ترتع فيها الفئران، وينعق فيه البوم. كما أنه سمح لفنانين فرنسيين وايطاليين بإنجاز أعمال فنية سيطر عليها فن "البورتريه". لذا نحن نجد ضمن المجموعة الفنية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر "بورتيريه" لأحمد باشا باي بزيّ ماريشال. كما نجد "بورتيرهات" لبايات آخرين ولمشاهير الوزراء والأعيان.
وبعد احتلال تونس من قبل فرنسا وذلك عام1882، توافد على تونس العديد من الفنانين القادمين من فرنسا، ومن إيطاليا لينجزوا أعمالا يمكن وصفها ب "الاستشراقية". وهي أعمال يسعى أصحابها إلى ابراز ما يمكن أن يكون "عجيبا"، و "غريبا"، و"بدائيا" بالنسبة للأوروبي في تقاليد وعادات التونسيين، وفي حياتهم اليومية. وعلينا أن ننتظر النصف الثاني من القرن العشرين لكي يولد فن حديث في البلاد التونسية بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويعود الفضل في ذلك إلى مجموعة من الفنانين الموهوبين والطلائعيين الذين كانوا على اطلاع واسع وعميق على مختلف المغامرات الفنية التي عرفتها أوروبا منذ عصر النهضة، وحتى القرن العشرين. وتلك المجموعة التي أطلقت على نفسها "مدرسة تونس" تمردت على الفن الاستشراقي، وأنجزت أعمالا فنية بديعة تبرز فيها خصائص وجماليات المعمار التونسي في مدينة تونس العتيقة التي تراكم تاريخا يمتد إلى قرون عدة. كما تبرز تبرز تلك اللوحات بساطة وشاعرية الحياة اليومية في تونس من خلال الأسواق والمقاهي والشوارع والساحات العامة. ومن بين رموز مجموعة" مدرسة تونس" يمكن أن نذكر نجيب بالخوجة، وعبد العزيز القرجي، والاخوة الثلاثة زبير، والهادي، ويحي التركي، وبيار بوشارل وهو من الطائفة اليهودية، وإبراهيم الضحاك، وعلي بن سالم. وجل هؤلاء درَسُوا وعاشوا في عواصم أوروبية مثل باريس وروما وستوكهولم. أمّا عمار فرحات القادم من ريف منطقة الشمال الغربي المتاخمة للجزائر، والذي كان هو أيضا من أبرز المجموعة المذكورة، فقد تعلم الرسم في الشارع وهو يراقب حركة الناس اليومية منجزا لوحات "ساذجةّ لكنها خالية من الفولكلورية التي تميزت بها اللوحات الاستشراقية.
وقد اكتفت الموسوعة بالتعريف ب 214 فنان وفنانة. وجميع هؤلاء تركوا بصماتهم واضحة على تاريخ الفن في تونس عبر مختلف مراحله وتجلياته. كما حرصت المجموعة على رسم صورة واضحة لكل واحد من هؤلاء، مبرزة خصائصه الفنية، ومعرفة بمسيرته من بدايتها إلى نهايتها. وهذا ما فعلته مثلا مع أحد المنسيين الكبار، أعني بذلك الجيلاني عبد الوهاب، الملقب ب"عبدول"(1890-1961). وهو شقيق المؤرخ التونسي الكبير حسن حسني عبد الوهاب الذي ستظل مؤلفاته الغزيرة والثمينة مصادر أساسية لكل راغب في التعرف على مختلف أطوار ومراحل التاريخ التونسي. وقد تخرج الجيلاني عبد الوهاب من مدرسة الصادقية التي دَرَسَ فيها رموز النخبة التونسية في الثقافة والفكر والسياسة. وبعدها سافر إلى باريس لعيش فيها فنانا "بوهيميا" مترددا على الحانات والصالونات الفنية والأدبية، ليتعرف فيها على العديد من مشاهير الفانين والفنانات مثل بيكاسو، وأوتريلّو، وخاصة موديلياني الذي كان صديقه الحميم، ومساعده في أوقات الشدة والضيق. وتقديرا له، أقامت له مدينة "فيلاّ دال ريو" الاسبانية عام1997، معرضا ضخما لأعماله. أما في بلاده، فلم يحظى الجيلاني عبد الوهاب بمثل هذا الاعتراف، وهذا التقدير...