من الجليّ أن حركة الشعر حركة استقصاء في الدرجة الأولى، ففن الشعر لا يتوقف عند منجز ما، سواء على مستوى تشكيل العمل الشعري وفيوضه المعنوية والتصويرية والدلالية، أم على مستوى أصغر الوحدات المشكلة للقصيدة من صور بلاغية ومشهدية وصور تعمل على مقارفة اليومي التداولي، فيما تذهب لأسطرة المطلق وعناصر الكون .
في سياق هذه الكلمات المبدئية وظلالها نقترب من ديوان الشاعرة لينا شكور:" حرائق الظل" ( دار العوّام للطباعة والنشر ، السويداء، سورية ، الطبعة الأولى 2019) الذي يتشكل من ( 51) نصًّا تحويها خمسة أقسام هي: نهر يرتدُّ إلى طفولة الغيم ( 9) نصوص/ صلصال كأنه بريق المهود ( 7 ) نصوص/ جهات تتهجى خرائط الريح ( 9) نصوص/ تراتيل الرماد في مواقد الحنين ( 13) نصا/ رماد الأسئلة المؤجلة (13) نصا .
وبدئيًّا فإن العنوان نفسه يحمل تضادا ما، يكمن في تغيير دلالة ما يهبه الظل من دعة أو سكون أو أريحية، إلى دال مضاد، يعني في تأويله البعيد أن لا استكانة ولا هدوء للذات فيما تراه من وقائع وما تعايشه من أحداث، وما يبدو من راحة ليس في جوهره إلا التعب والحرائق.
الشاعرة تشكل من دوائرها الخمس الواردة بالديوان جملة من العناصر التي تؤول إلى دلالات كونية ، إلى عناصر الكون الأربعة من وجهة فلسفية: الماء، والهواء، والنار، والتراب، فضلا على رؤيتها الذاتية هي التي تشكل العنصر الخامس بالديوان ، خاصة في نصوص :
سيلفي مع شهرزاد (ص 122) في العشاء الأخير (ص 124) فينيق الضوء ( ص129) معراج ( ص 97 ) شقوق مجاز في جدار اللغة( ص 85 ) أغنية للحب والحرب ( ص 55) مشاجب الحرب (ص 20 ) / أشلاء ( ص 22 ) .
ومن هنا فإن منطلق هذه الدوائر الخمس أو الأقسام الخمسة لديوانها تستقصي هذه العناصر، فيما تربطها برؤية نسوية جلية ، وبتعبيرات تتأمل في أيقونات الجسد .

طفولة الغيم:
في استقصاء بعيد تعيد الشاعرة النهر إلى غيماته، هي تنظر لهذا التدرج الأول الذي ينتج عنه بالنهاية : الماء، فتذهب من النهر إلى الغيم، في قسم أول: بعنوان:" نهر يرتدّ إلى طفولة الغيم" يتشكل من تسعة نصوص تستهلها بنص يخاطب الآخر الذي ينعكس ربما في مرآة الذات ليصبح أكثر قربا من هواجسها وأسئلتها، والنص بعنوان:" في مرآتك" :
قوس قزح لم يحترق بعد
ووجهك يحتلّ المدى
فيما الأرض كأس باخوسية الانهراق
أنا الشمعة واللهب
وحولي يتراقص الفراش
من نبض شعاع في القلب إلى آخر الاحتراق.

في هذا النص تجوس الشاعرة عبر مخاطبة الآخر في لا وعيها الحاضر بتجليه في صور النص وتعبيراته، تجوس في مرآتها ومرآة الآخر، عبر جملة من المقاطع المكثفة التي تنقل لقطات متنوعة ما بين الوجد والحب، والعناق الصوفي، وبين الأسطورة، والتاريخ والمقدس. على اليقين هي لا تفسر ولا تؤول ولكنها تشير وترمز حسب الكثافة التي تصبو إليها مقاطعها الشعرية من هنا نجد مثل هذه الإشارات: " كأس باخوسية/ يهفو فيكَ بعضي إلى كلي/ خبزا للعشاء الأخير" التي تتنقل فيها من الأسطورة الإغريقية المترعة بلذة الخمر الباخوسية إلى التصوف إلى المقدس المسيحي .
هي طريقة شعرية تستلهم ، على اليقين، روح الكثافة، والعمل على صياغة مشاهد مكثفة قصيرة الجمل واسعة النطاق الدلالي حيث تتكئ الشاعرة في تشكيل نصوصها على تجمّعات النصوص القصيرة المكثفة المتجاورة، كأنها شاهد أو لوحات متضامّة تشكل الأفق الكلي للنص، فنص :" في مرآتك" يتشكل من (12) مشهدا، تتوزع ما بين الأنا والآخر، والنص التالي:" على بابي يتكئ الصباح" من أربعة مشاهد متتالية، ومثله :" مشاجب الحرب" ويتشكل نص:" أشلاء" من خمسة مشاهد، وهكذا هي طريقة اتبعتها الشاعرة في جل نصوص ديوانها. وهي بهذا تحدث فراغات بيضاء طفيفة بين مشهد ومشهد، وهذه الفراغات تكسر آلية السرد الشعري أو الاستطراد والتداعي، حيث تقطع دلاليا بين مشهد ومشهد لتتراكم المعاني وتتسع المضامين. وهو ما يعطي للنصوص رحابتها وقدرتها على التشوف والاستقصاء في دلالات قد تكون لا منسجمة أو متضادة لكنها تطرز الوعي واللا وعي عبر الكلمات.
ولعل في التعبير التعريفي المباشر ما يكمل الصورة من طرفها الآخر، فإذا كانت مشاهد التعبيرات الأولية بالنصوص تومئ لما ذكرته من أفق تاريخي وأسطوري ومقدس، فإنها بتعبيرات أخرى تفك شفراتها النصية بشكل مباشر يوضح المشهد وينوره أكثر حيال القارئ:
الشعرُ محرابُ نُسكٍ
وأنا
صلاةُ الخمر
على شفاه الحروف
وأنتَ
داليةُ القصيدة . / ص 14

الجمل الشعرية هنا جمل تسمية، وجمل تعريف للشعر والأنا والأنت. والتسمية هنا جلية شفافة لا توارب الدلالات ولا تماهيها مع آلية التأويل والبحث عن المكامن الخبيئة.
إن الشاعرة تتبع هذه الطريقة على امتداد نصوص الديوان، وهي في نص: على بابي يتكئ الصباح، تعبّئ عالمها بالدلالات التي تشير الأبعاد الروحية والصوفية ولكن بنوع من الفرح ومزج بين الحسي والمعقول، بين دلالات الحضور اليومية ودلالات الطبيعة وبين دلالات الغياب والتأمل والترائي:
على بابي يتكئ الصباح
فاتحا أزرار قميصه الأزرق
في يمينه كمشة صيف
وفي الأخرى دولاب أغنيات

حقولُ قهوة على شفتيه
وبحيرات ماء مقدسة في عينيه
وكأي أنثى وحيدة
قدمتُ له قطعة
من لحن صوفي قديم
وبعض خبز
من مواسم الغياب
كباب يتكئ على باب . / ص.ص 18-19
إن البعد الاستعاري لم يغب عن جمل المشهد، والاستعارة التشخيصية آلية تقرب المشهد من حسيته ولذته ، فيما تبتعد به في الوقت نفسه إلى مساحات من الغياب ليظل عرضة للسؤال والتأويل.

يقين الروح:
وفي القسم الثاني تزاولُ استطراداتها التعبيرية ،في النطاقات الدلالية نفسها، لكنها توشح نصوصها بمسحة من الألم والمواجع الدفينة المضمرة والظاهرة، بسبب ما خلفته الحرب بسوريا من مآس وآلام، وهنا تلوذ بالروح، بيقينها الذي يسيل أكوانا على حد تعبير الشاعرة في نص:" سرير المدائح" ( ص 39) .
تمضي الشاعرة في هذا القسم صوب لغة التسمية أيضا، كما في نص " ميلاد" ( ص.ص 37-38) ومنه:
يقول الظلام: أنا سر النور
يقول الفراغ: أنا رحم الخطايا
يقولُ البحرُ: أنا شهوة الاحتمال
يقولُ الضوء: أنا سحر ما وراء الجاذبية
يقول الألم: أنا قارورة الأمل
تقول الدائرة: أنا خط الاستواء
تقول القصيدة: أنا مهد البداية والنهاية.
التسميات تتالى عبر هذا الإفضاء الدلالي للدول المختلفة من الظلام للنور للقصيدة، والشاعرة هنا تضعنا في إطار اختيارات أسمائها، بمعنى أن المسألة لا تتأدى اعتباطيا من وجهة الرؤية البنيوية أو الأسلوبية لكنها تتأدى باختيار ما من لدن الشاعرة هذا الاختيار هو الذي يحفز على قراءة الصورة المسماة بالشكل الذي جاءت به، ويحفزنا على ربط السياقات وتأويلها وفق ما تجود به الرؤى الفلسفية لعناصر الكون وأشيائه.

ولعل آثار الحرب بسوريا من المجالات التي كتبت بصخب وعنف وتأمل أحيانا في أغلب الدواوين الشعرية الصادرة خلال العقد الماضي، وما تزال آثارها الموجعة المأساوية تتجلى في الكتابة، وإن حولها البعض إلى رؤى ساخرة نظرا لقسوة الألم، والشاعرة لينا شكور قدمت بهذا الديوان جملة من النصوص لا تغيب دلالات الحرب عن أعماقها الدالة، كما في " مشاجب الحرب" ولنضع في الاعتبار أن مأساة الحرب والتعبير عنها لا يتم في هذه الصيغ المباشرة أو الإشارة للحرب، ولكن فيما يختزنه العمق الإنساني من أحزان، وفيما يغير النظرة الشعرية للوجود، ونظرة الذات الشاعرة للأشياء في مفارقاتها وفقدها وانكسار الروح، واعتبار هشاشة العالم والإنسان، من الدلالات البارزة شعريا .
في نص:" أغنية للحب والحرب" تقدم لينا شكور جملة من اللقطات المؤلمة والمفارقة معا:
في الحرب
تجف النساء كحبات الزبيب
ولا تعود صالحة حتى
لصناعة الحلوى

في الحرب
تجف السنوات .. نطحنها
نصنع منها عجينا
وخبزًا طازجًا لانتظار بارد
بطعم الموت
في الحرب
كل اللحظات طلقات
مسددة إلى الرأس
نتحول إلى جثث تتعفن
وذباب يحط على كفن / ص 56
تكرار تعبير: في الحرب من أجل مداومة الإضافة التعبيرية، وتقديم لقطات مختلفة لأثر الحرب، التي تجفف كل شيء، وتميت الروح وتجمدها حيث يتساوى الموتى والأحياء، فالكل ميت على حد سواء، لكن هذا يموت بالحياة فتتكلس الأشياء أمامه، وذاك يموت في كفن، فتتكلس جسده وروحه. الشاعرة قدمت لقطاتها بعبارات قصيرة مفارقة، بحيث تفضي نهاية الأمر إلى أن كل شيء يتحول إلى موت، وهذا الأثر الأول والكبير للحرب.

بنى تعبيرية:
تتمثل الشاعرة جملة من البنى التعبيرية في تشكيل نصوصها، منها: تقديم الرؤية الشعرية عبر جمل قصيرة مركزة، وعبر شذرات منشورة يضمها النص يمكن فصلها كأيقونات شعرية تعبيرية مركزة مثل:
- أنا الشمعة واللهب وحولي يتراقص الفراش
- يهفو فيك بعضي إلى كلي.
- كلماتك شموس تهطل بي.
- تلدني وأسميك الرحم والسلالة
- لا افتراض لي ولا اعتراض.
وهذه التعبيرات هي أيقونات فسفيفسائية وشذرات مبثوثة في جوانب النصوص ، قد تستقل بذاتها دلاليا بعيدا عن مرمى النص الدلالي، وقد تندمج به ولكن في إطارها التعبيري المستقل الذي يشكل حضورها مساحة تركيبية كولاجية مندمجة ومنفصلة معا.
وتعتمد الشاعرة على البنية القصيرة المركزة المكثفة في تقديم وعيها الشعري، كما أنها تنوع بين حضور الذات والآخر، وحضور قضايا الواقع والوجود ولكن بشكل غير مباشر، حيث يصبح التساؤل الدائم ركيزة من ركائز التعبير عندها.
كما تستثمر الشاعرة بجلاء بنية النفي، كأن النفي نوع من إنكار ما يحدث، ونوع من الرفض الخافت لتحولات الواقع وتغيره، وبحث عن نموذج مثالي أبعد ، حيث يتجلى ذلك في مشاهد كثيرة:
في نص " أشلاء" :
لا صوت لي في هذا الضجيج
لا قلب لي داخلك
لا أعداء لي
سوى من تركتهم يكبرون
تحت قفصي الصدري / ص 22
وفي نص :" نصف قرن من الحنين" :
هنا .. لا حرب
لا موتٌ
لا أوصياء . / ص 27

وفي :" خرائط لا تفضي إليّ " :
لا صوت تحت قميص القصيدة
في هذه البلاد البعيدة . / ص 28

وفي نص:" خدر" :
لم تترك لي سوى ركام من الصبر
وسلسلة تحملُ مخالب لغة
ستلاحظ تراكم العبارات على وجهي
وتساقط الكلمات من يدي
ولن تعرف أبدًا
أن الورود التي غمرتكَ بها
كانت يومًا، تنمو على قبري . / ص 34
وفي نص : مثل سمكة ميتة تقول:
ليست للريح أشرعة
لا غياب يكفي لصنع أجنحة
لا حب يكفي كي يقتلني
ولا احتضار لي كي يوقف هذياني / ص 46

وهكذا تتكرر بنية النفي في نصوص الديوان بشكل بين ، مما يعزز رؤية الشاعرة في الرفض والتمرد على قيم الواقع وقبحه، وعلى آثار الحرب الموجعة التي ستظل فترة طويلة لا تتحرك من عمق الذات الحزينة، لتصل التاريخ بالواقع بالمقدس بالمؤسطر، وتعيد الالتفات إلى الأشياء بوعي جديد ينهض من تحت الرماد باثا طيوره الفينيقية في أجواء العالم بحثا عن حرائق مختلفة سواء كانت حرائق الظل أم حرائق الذات الناهضة.