الى ديران ناصر وذكراه العطرة

في تقصياته عن "الجذور"، في امتلاك "نكهتها والاحساس بتأثيراتها، يذهب "مارتيروس ساريان" (1880 – 1972) Martiros Saryan، الفنان التشكيلي الروسي/ السوفيتي (من اصول ارمينية، ومؤسس مدرسة الفن الارمني الحديث)، يذهب بعيدا في سبر غور "ثيمتين" كانتا اساسيتيّن بالنسبة الى فنه، وهما: كثافة الضياء ونَصاعة الحضور اللوني. ولعل لوحة "النخلة" (1911) <المفتون بها شخصياً>، يمكن لها لوحدها ان تعبر بنجاح عن تينك الموضوعتين، وان تجسّد حضورهما في العمل التشكيلي الباهر. واود قبل الكلام عن قيمة لوحة "النخلة" واهميتها الفنية، ان اتحدث عن افتناني وولعي القديم بهذة اللوحة المميزة، التى ما انفكيت معجباً بها ومسحورا باسلوبها التشكيلي. ولطالما زرت "غاليري تريتيكوف" في موسكو، حيث تعرض، للاستمتاع بمشاهدتها. وهو امر افعله كلما سنحت الفرصة لي لزيارة موسكو، وهو ما "اديته" في زيارتي الاخيرة للعاصمة الروسية.
عندما شاهدت لوحة "النخلة" (71× 106 سم، كارتون/ تمبرا)، لاول مرة، في بداية الستينات، بالغاليري المشهور، بهرتني الوانها الحادة، وغزارة الضياء بها وشدة "الحرارة" فيها، بعد ان "اتخمت" (انا الاتي، تواً، من تلك البيئة المشمسة والحارة) بمناظر الثلوج وتمثلاتها في البيئة الروسية التقليدية المنعكسة في لوحات رساميين روس كثر تعج بهم وبلوحاتهم مقتنيات الغاليري القديم، وهم "يتغنون" بمزايا وسمات "اللاندسكيب" Landscape الروسي وبرودته القاسية التى لا تحتمل! كانت اللوحة، بالوانها الحادة، ليست فقط منبع دفء وحرارة افتقدهما في جوّ موسكو المثلج، ولكن مفرداتها المرسومة كانت قريبة اليّ ومعلومة جداً لديّ: النخلة بسعفاتها الطويلة الوارفة، والناس "ناسي!" المتعبون من وعثاء الطريق يستريحون على قارعته، و"العمارة" البسيطة حد السذاجة، التى خبرتها في مدينتي الريفية، إضافةً الى حضور الضياء والوهج الحراري المنبعث منها : من حدة الوانها وشدتها وتعارضها! ولن انسى، وقتها، وانا انجذب، بعفوية نحوها عندما شاهدتها، الى نشوء احساس ممتع شعرت به، وهو ينقلني الى امكنة دافئة امست نائية جدا عني تفصلني عنها الآن، مئات الكيلو مترات ان لم تكن.. آلاف منها!
وكما أشرت، فان "اللوحة" متواضعة بابعادها وليست ذات مقاسات كبيرة. بيد ان "ساريان" استطاع ان يلفت الانتباه لها من خلال وسائله الخاصة بالاهتمام بحدة وتعارض الالوان وغزارة الضياء، التى دأب على توظيفها بمهارة في لوحاته العديدة خصوصا بعد زيارته للشرق. فابتداءً من سنة 1910والى سنة 1913، قام بعدة رحلات الى تركيا ومصر وايران (على غرار ما كان يقوم به الفنانون الاوربيون وبضمنهم الروس، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، من زيارات فنية الى بلاد الشرق القريب للاستمتاع بدراسة الضياء، والتعلم من تأثيرات الالوان الحادة). وقد نتج عن زيارات ساريان
تلك، انتاج عدة روائع فنية، امست جزءا لا يتجزأ من سيرته الفنية المبدعة، كما باتت تمثل، ايضاً، شواهد لافتة عن طبيعة الفن في بداية القرن سواء في روسيا ام في اوربا.. معروف ان "مارتيروس ساريان" زار قبل ذلك موطن اجداده "ارمينيا" في السنوات ما بين 1901 – 1904، هو المولود في مدينة روسية على نهر الدون تدعى "ناخيتشفان" والتى تسمى الان "روستوف على الدون" <رستوف نا دانو> وذلك سنة 1880. وقد درس الفن في "مدرسة الرسم والنحت والعمارة" المرموقة في موسكو من 1897 وحتى تخرجه منها سنة 1904. وابتداءً من 1900 يشارك في معارض الجمعيات الفنية مثل "الوردة الزرقاء" ومعارض "اتحاد الفنانيين الروس" وعالم الفنون" و"جمعية الفنون الاربعة". كما وقع في تلك الاثناء تحت تأثير قوي لاسلوب الفناننين الفرنسيين "بول غوغان" و"هنري ماتيس".
وعودة الى لوحة "النخلة". فهي مرسومة تحت وقع انطباعات الرسام اثناء زيارته لمصر. وقد سعى "ساريان" فيها الى دمج التقاليد الفنية التاريخية لمصر القديمة، مع طاقة الالوان التى تتسم بها الاساليب الفنية المعاصرة، وقتذاك، بالاضافة الى تأثيرات مدرسة ماتيس عليه. في هذه اللوحة تغدو "التماثلية"، و"الايجاز" وكذلك "الاشكال المتكررة" فيها بمثابة رموز، مستقاة من درس الفن المصري القديم. في حين يحقق "ساريان" من خلال تضاد الالوان: الاصفر والبرتقالي والازرق توتراً بصرياً، ليس فقط ينحو للتعبير فيه عن الاحساس بالحر اللافح، وانما يجسد، ايضاً، الطاقة الرمزية لكل لون! ويشي حضور "النخلة" الضخمة في وسط اللوحة بعمودية مهيبة، مثلما تشكل سعفاتها الممتدة طويلا نوعا من قوس يتوج التكوين. وفي حين يخضع التشكيل المعماري الصارم ويمتثل الى بقية عناصر اللوحة، فان تشكيلات وضعية الافراد والحيوانات تتحدد في اللوحة بدوائر كاملة، تتسق اشكالها بايقاع موحد مع "عذوق" النخلة الدائرية المعلقة! ويدلل وجه الجمل، الذي يشبة "ابو الهول" المصري في الزاوية اليمنى من اللوحة الى فعل حركة، يراد به اعطاء حيوية ما الى سكون مفردات التكوين "المغتسلة" بلهيب اشعة الشمس الحارة. ينزع الفنان في هذا اللوحة الى تكريس ولعه الخاص بجعل القرار اللوني للمنظر المرسوم مبني على تركيبات متضادة مع حضور لافت لخاصيتي التناغم والكمال. وهو اذ يقدم على اختيار هذا الحل الابداعي، فانه يتوق الى تقديم البيئة المشرقية بكل تميزاتها وبكل الوانها المتلألة، انه ايضا في هذا يلحظ خصوصية ملامح حياة الناس، ناقلا لنا، في الوقت ذاته، مجرى الحياة المتمهلة وايقاعها البطئ!
معروف عن "مارتيروس ساريان" اهتمامه الفني برسم "بورتريهات" Portraits الشخصيات المؤثرة، كما انه مولع برسم لوحات "الحياة الجامدة" Still Life؛ لكن افتنانه برسم مناظر بيئة "ارمينيا" المميزة بجبالها ومزروعاتها والاهم بناسها وعمارتها اللافتة، يظل بالنسبة اليه احد الانواع الاسلوبية Genre القريبة الى فؤاده والى اشتغالاته الفنية. ولعل المشاهد "اللاندسكيبية" Landscape التى نفذها لبيئة ارمينيا، ذات الخصوصية المتفردة، تعد من انجازات هذا الفنان المبدع وتقصياته في "الجذور" لجهة توظيفها في اسلوب فنه المعبر. حظى "مارتيروس ساريان" باهتمام وتكريم عاليين سواء في بلده الاتحاد السوفياتي سابقاً، ام ما يناله الان من مجد وتكريم في وطنه الحالي "جمهورية ارميينا"، حيث اسس له بعد وفاته سنة 1972 مباشرة متحفا خاصا له ولنتاجه الفني في "يرفان" عاصمة البلاد. □□

معمار وأكاديمي

الصور:
1 - لوحة "النخلة" (1911)، الفنان "مارتيروس ساريان"، غاليري تريتيكوف – موسك
2- لوحة "النخلة" (1911)، الفنان "مارتيروس ساريان"، غاليري تريتيكوف – موسكو
3- لوحة "جبال" (1923)، الفنان "مارتيروس ساريان"، متحف ساريان – يرفان / ارمينيا
4- لوحة "ارمينيا" (1959)، الفنان "مارتيروس ساريان"، متحف ساريان – يرفان / ارمينيا
5- لوحة "ارمينيا" (1924)، الفنان "مارتيروس ساريان"، متحف ساريان – يرفان / ارمينيا