إبراهيم أزروال

التمهيد :
لا يمكن النفاذ إلى معنى وقصد روايات نجيب محفوظ ،دون اعتبار تناصها وتعالق عوالمها الفكرية والفلسفية والدلالية. ولذلك لا يمكن الغوص على دلالتها دون مقارنة النصوص ،واستقصاء أوجه التشابه والتباين ،الائتلاف والاختلاف ،المراوحة والتجاوز فيما بينها.ومهما كانت النقلات بين المراحل ،فثمة استمرارية عميقة،وسمت التجربة الروائية المحفوظية بميسمها، ومهرتها بطابعها.
إن رواية "حضرة المحترم"وثيقة الصلة ،فيما نظن ،بالثلاثية"و"اللص والكلاب" و"الطريق" و"الشحاذ"و"قلب الليل". فليست رواية عن قداسة الوظيفة والترقي الوظيفي،كما يعتقد بعض النقاد،بل هي رواية عن البحث عن القداسة والنبالة والترقي الفكري الفردي في عالم معتم طافح بالمفارقات والفواجع.
(فبطل "حضرة المحترم" يتدرج في مقامات الصوفية ،ويترقى في الوظيفة ،وكلما وقع في خطيئة فإنه يعتبرها خطايا السائر في الطريق الصوفي ،وكل مطالعاته ليست بهدف التغيير أو الصعود الاجتماعي وإنما من أجل "الوصول" بالمعنى الصوفي أيضا. ) 1-
ويوفر النص مفاتيح وشفرات التأويل منذ البداية ؛ويوجه القراءة وجهة تأويلية صريحة.وقد استعملت لغة وإيحاءات عرفانية ،في وصف مشاعر عثمان بيومي ،أثناء تقديم الموظفين الجدد لصاحب السعادة ،المدير العام.
إن ترقي الموظف في مساره المهني،ليس في الحقيقة ،إلا غلالة شفيفة ،وواجهة سردية ،لمسار وجودي –وجداني ،مترع بالأسئلة الحارقة عن معنى العيش في عالم تحفه التعاسة ،وعن إمكان "تجوهر" الفرد وتحقيقه الأصالة الكيانية بعيدا عن الجموع المنشغلة بنثريات الحياة اليومية،وجمود الحقائق السوسيولوجية والمنافسات الصغيرة.
إن القارئ مدفوع منذ البداية ،إلى تأويل المقروء ،وفهم الإشارات و التلميحات،والنفاذ إلى معنى تراجيديا عثمان بيومي ومأساته الوجودية –الاجتماعية الطاحنة.
ثمة تشابه ،في الواقع ،بين مسارات كمال عبد الجواد في "الثلاثية"وسعيد مهران في "اللص والكلاب" و عمر الحمزاوي "في الشحاذ " و صابر الرحيمي في "الطريق" و جعفر الراوي في "قلب الليل".
ولذلك فالرواية لا تعنى ،في الحقيقة ، بالمسار الوظيفي بل بالمسار الوجودي –الكياني ،لإنسان يتطلع للمعنى والنبالة،دون أي اعتبار للتاريخ أو للفعل التاريخي الجماعي .لقد آمن عثمان بيومي،بإمكان تجاوز حيرته الوجودية ومأساته الاجتماعية،اتكاء على مسار تكويني وارتقاءات فردية،معزولة ،كليا ،عن نبض الحياة ومآسي التاريخ وإرادة الجموع.
لقد أراد تخطي الهوة السحيقة بين المسار الحياتي –التاريخي والمعنى الكلي ، فرديا ، ودون اندراج في مدارج التاريخ ،ودون أدنى اعتبار لجدوى الفعل التاريخي.فأخفق في نيل الحياة المجيدة ، وتطوح في مهاوي البؤس الوجودي والاجتماعي (الزواج من مومس والإخفاق في الحب و معاناة العزلة والحرمان من الدفء العائلي والإنساني والعجز عن الإنجاب وعن تولي وظيفة المدير العام)،ولم يفلح إلا في بناء قبر خاص به.
والواقع أن التجربة الموصوفة تميزت بتغييب مقصود ومنهجي :للتاريخ والفعل الجماعي والحقائق الموضوعية واتكاء كلي عن المقدرات الذاتية والحقيقة الوجدانية.

مقامات العرفاني الحديث :
لتحقيق مبتغاه ،كان عليه التمرس بمقامات عويصة،و مكابدة مشاق الترقي.وفيما يواجه الآخرون تراجيديا العالم والحياة بالغفلة والكلف بالتملك والانقياد للأوهام الجماعية ،فإنه سيكابد وسيصارع بهمة لا تلين المثبطات والطمأنينة الميتافيزيقية والعطالة الوجدانية الخادعة.
(إنهم لا يحيون حياة حقيقية ويفرون من واجبهم المقدس.يجفلون من الاشتراك في السباق الرهيب مع الزمن والمجد والموت وتحقيق كلمة الله المضنون بها على غير أهلها.) 2-
إن عثمان بيومي ،أنموذج للإنسان العرفاني في زمن الحداثة ،للإنسان المسكون بأرق الزمن ،وفواجع التاريخ ،وقساوة الحياة ،وصعوبة التثبت من أي يقين.إن بين المسار الحياتي –التاريخي ،واليقين الأنطولوجي ،هوة لا تدرك ،ومسافة لا تعبر إلا بالاندراج في مقامات قاسية وشاقة ،وجدانيا ونفسانيا واجتماعيا.
تتجلى فرادة العرفاني الحديث،لا في تعاليه على الجموع،فحسب بل في تمسكه بكبريائه، رغم وعيه الحاد بضآلة المحتد. فهو لا يتدرج في المقامات، من خلال التخفف من الأنا، بل من خلال تأكيدها وتثبيتها، معرفيا وأنطولوجيا. ولذلك فهو لا يتمسك بفرديته حين الانتقال من درجة إلى درجة، من مقام إلى مقام ،فقط بل يتشبث ،خلافا للعارف القديم ،بكبريائه البشرية.
(وكان يقول إن حياته تيار غير منقطع ماض في مجرى النور والعرفان،يتكاثف بكل طريف،ويتشعب في مجالات الفكر ،تدفعه حرارة الإيمان والكبرياء البشري الشريف، ليصب في النهاية في الأعتاب الإلهية.) 3-
تتمثل تراجيدياه ،في تنكبه الدائم عن جادة المثال.ففيما يروم إنجاح مساره الوجودي، فرديا، فإنه يضطر إلى مراكمة العثرات، والعودة الدورية إلى أنماط متقادمة أو مذمومة اجتماعيا من الإدراك والممارسة والسلوك. (زيارة قارئة الفنجان والزواج غير المتكافئ).

هذا هو المثل الأعلى المتاح لأبناء الشعب ولا مطمح لهم وراء ذلك. تلك هي سدرة المنتهى حيث تتجلى الرحمة الإلهية والكبرياء البشري. )4-
اختار عثمان بيومي، طريق الشقاء الفكري والروحي، أي طريق الاستشكال ومساءلة البداهات واليقين الجمعي. ولئن ركن أصحاب العطالة الوجودية إلى التذلل والتسليم المريح بالمقررات التداولية، فإن عثمان بيومي، سيستنفر كل طاقاته الكامنة، و"إرادته اللامتناهية "، من أجل" التجوهر" واستحقاق كبريائه وكرامته الوجودية. فلا يمكن الركون إلى وعي فرح في عالم تكتنفه التعاسة والقساوة واللامعنى. ولذلك، كان من الطبيعي، أن يتدرج هذا التراجيدي، اللامنتمي ظاهرا، في مقامات الحيرة، ومدارج التيه الوجودي، ويعيش أقصى درجات الشقاء.
(وقال لنفسه إن الحياة لو تقيم بحظها من السرور فان حياته تعتبر ضياعا وهباء. لم يقتضينا الجلال هذا الشقاء كله؟!)5-

عوائق الترقي:
تحول دون تحقيق "الحياة المجيدة"، حوائل وعوائق عديدة، عمل عثمان بيومي ب"إرادة شامخة" على تذليلها. فدون تذليل هذه العوائق، لا يمكن تحقيق "الواجب المقدس"و"الثمل بخمر الحياة"و"معرفة حكمة الحياة". ويمكن إجمال تلك العوائق فيما يلي :
1-الأصل :
يجتاز عثمان بيومي تجربته الوجودية، مجردا من أي إرث أو مؤهل مادي أو رمزي داعم. إن سوء المحتد والفقر، من معوقات تشخصنه وترقيه في درب النبل واليقين. ورغم حرصه على إخفاء تاريخه الموروث و صنع مسار جديد، فإنه لا يفلح، دوما، في تفادي العثرات والصدمات والخضات الناتجة عن إبراز متعمد، لتاريخ ممهور بالفقر والضآلة.
(مأساة الآدمية أنها تبدأ من الطين، و أن عليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم. ) 6-
وفيما يداري تاريخه غير المشرف، اجتماعيا، والمعيق، وظيفيا، فإنه يلابس، في مخاضه الوجودي المتعثر، تاريخا بدائيا أنكى من تاريخه(تاريخ قدرية). وهكذا، يلابس التسفل الترقي، درجة درجة، مقاما، حالا حالا.


2-الحب :
الحب من معوقات "التشخصن" والترقي الوجودي ؛ولذلك، برع عثمان بيومي، رغم رهافته العاطفية، في التحلل من العواطف والأشواق. إذ. يقود الانقياد للعواطف الجياشة، والأحاسيس الفياضة، في اعتباره، إلى إطفاء وهج النباهة والتوقد الوجوديين والوجدانيين.
لا يجتمع في اعتباره الحب والترقي ؛ففيما يفضي الحب إلى الذوبان في الآخر النسبي والمتقلب، فإن الترقي يفضي إلى امتلاك المعرفة وفك المستغلقات وفهم الغاز التراجيديا الإنسانية.
يروم عثمان بيومي فهم مأساة الإنسان بمعزل عن التاريخ ؛والحال أنه لا يمكن إدراك تلك التراجيديا بحصافة، دون أي اعتبار للتاريخ ولمفاعيله، وللفعل الجماعي وآثاره ونتائجه اللامتناهية.
وتتمثل المفارقة هنا، في ارتكانه إلى برودة جنس بدائي ( قدرية )، كلما فر من دفء حب مشبوب (أنسية رمضان ). ففيما ينأى عن الحب وأشواقه، صونا للنفس وشحذا للعزيمة، فإنه يغوص في جنس بدائي بائس. وهكذا يندفع، في مساره المساري، مدفوعا بالأمل، وهو يطرح العاطفة(حب أنسية رمضان ) ليقنع بالغريزة(معاشرة قدرية والناظرة أصيلة حجازي). والحال أن الحب أي الانفتاح العاطفي والوجداني على ممكنات الآخر وحقيقته، هو مفتاح كل مسارة وجودية ناجحة.

3-الإنجاب :
فكما يهاب أسر العواطف، وشرنقة الحب، فإنه يهاب الزواج وإنجاب الذرية، مخافة التعثر في مساره المساري. إن العزلة شرط شارط للتحقق و"التجوهر" ؛والانقياد للحب والإنجاب، أمارة بينة على الخور وضعف العزيمة.


4-السياسة :
السياسة من موانع التحقق الوجودي ومن موجبات الغفلة والانقياد للغفلية. ولذلك فهو متوجس، دوما، من الانشغال بالسياسة و الاهتمام بالأفكار أو الحركات الاجتماعية.
(ويؤمن بأن للإنسان طريقا واحدة، و أن عليه أن يشقها وحيدا مصمما بلا أحزاب ولا مظاهرات، وأن الإنسان الوحيد هو الخليق بالشعور بربه وبما يطالبه به في هذه الحياة، وأن مجده يتحقق في تخبطه الواعي بين الخير والشر، ومقاومة الموت حتى اللحظة الأخيرة. ) 7-
فبوصفه منتميا منعزلا، وعرفانيا مهجوسا باليقين الوجودي ، فإنه يناوئ الأفكار الثورية، والحركات الاجتماعية، النافية لأصالة الفرد وقدرته على التسامي والتطهر من الحيرة والقصور المعرفي والغفلة الوجودية.
فإذا غزت السياسة روح جعفر الراوي، في "قلب الليل "وأفسدت عقله ودفعت به إلى التطوح في الجريمة، فإن عثمان بيومي، لا يعول إلا على عزيمته ولا ينتظر العون أو الجود من الآخرين. وفيما قدم جعفر الراوي تأليفا بين الإيمان والاشتراكية والديمقراطية، فإن عثمان بيومي نأى كليا عن الفكريات وعن التأليف بينها.
(واليوم يعرف لنفسه هدفا دنيويا وإلهيا في آن لا علاقة له في تصوره بالأحداث العجيبة التي تجري باسم السياسة. قال إن حياة الإنسان الحقيقية هي حياته الخاصة، التي ينبض بها قلبه في كل لحظة، التي تستأديه الجهود والإخلاص والإبداع. إنها مقدسة ودينية. ) 8-
وبناء على هذا الافتراض، فإن نيل الحياة المجيدة، رهين بالانكباب على استكشاف البواطن، وترويض النفوس، ومعاناة أعطاب الحياة والعالم، دون ارتهان ولو يسير إلى ذكاء الآخرين وخبراتهم الوجودية وتجاربهم في بناء التاريخ والمعنى والأمل.


5-التعاطف :
قاوم عثمان بيومي العواطف بضراوة، باعتبارها مانعا من موانع الترقي الفكري والتحقق الوجودي. فالتعاطف مع الأغيار، يمنع من" التجوهر" و"التشخصن"، ويعيق النقلة النوعية في درب تأصيل الكيان. فإذا كان التعاطف أمارة على التواصل مع الأنا الجماعي والسيكولوجيا الجماعية، فإن "التجوهر" يستلزم، الانقطاع عن كل رخاوة عاطفية.
وقد رفض مساعدة سعفان بسيوني، رئيسه السابق في المحفوظات، وقرضه مبلغا من المال للعلاج.
(-الطريق طويلة جدا، عزائي أنني أقدس الحياة-نعمة الله –ولا أستهين بها!). 9-
تستدعي مشاق الطريق، النأي عن رخاوة وميوعة العواطف الإنسانية، والانصراف إلى قداسة الحياة. ولذلك يتخلى –في مفارقة لافتة -عن إنسان على مشارف الموت، باسم قداسة الحياة!.

إستراتجية العرفاني :
لنجاح مساره المساري، وضع عثمان برنامجا مدققا لا يحيد عنه، مهما كانت صعوبة الطريق والمسير.
وقد وضع شعارا للعمل والحياة ضمنه ثمان مواد. فبما أن تحقيق معنى الوجود لا يتم إلا" بالعرق والدم"، فلا مناص، من التفاني في التخطيط واستيفاء شروط الاستحقاق. ومادامت تجربة الحياة جليلة، فلا بد من إرهاق النفس، وكشف الحجب، وإضاءة عتمات الوجود.


1-العمل :
إن العمل ركن ركين في إستراتيجية عثمان بيومي العرفانية. فلما كان المبتغى جليلا، صار الدأب ديدن السالك، والجلد مسلكه وشغفه. والواقع أن فك المستغلقات الوجودية، وردم الهوة الميتافيزيقية بين المسار التاريخي الطافح بالقساوة والمأساوية، والفرض التداولي، القائم على اليقين، يقتضيان الاستماتة في كشف المحجوب، والنفاذ إلى المعنى الأكبر. إن الولع باللوائح الإدارية والقانونية والترجمة، ما هو في الواقع إلا ولع بدلالات المستندات الثقافية والقوانين الاجتماعية وتأويل للأمارات والعلامات وإدراك عميق للإشارات والتنبيهات.
إن عثمان بيومي، متمرس باللوائح القانونية والإدارية ؛أي عارف بالظاهر. كما أنه مترجم، ينقل المعنى من لسان إلى لسان، من وضع معرفي وتداولي إلى وضع معرفي وتداولي مغاير. والترجمة كناية عن التأويل ؛أي عن كشف الدلالات والمعاني المحجوبة. لقد انحاز عثمان بيومي إلى العمل الفكري إلى مجاهدة المجهول والمستغلقات بهمة عالية، ولم يركن، رغم المشاق، إلى التغافل والتراخي.


2-التقشف والادخار:
لا يتحقق " التجوهر"، دون امتلاك زمام الذات، والتقلل من المقتنيات ومن الرغبة الحارقة في التملك والاحتجان. فلا يمكن التدرج والتخطي، دون التحكم في الذات وإدارة الرغبة.
(العزاء الباقي هو العمل، والثقافة، والادخار، وكلما ضاق بتقشفه قال لنفسه :
-هكذا عاش الخلفاء الراشدون!. )10-
وعملا بهذا المبدإ، التزم عثمان بيومي، التقشف وتجنب الانئسار للأشياء أو للمتع والشهوات.


3-الوحدة والانعزال :
لا يمكن تحقيق المبتغى الوجودي، في اعتباره، دون اعتزال الأغيار. فالاختلاط، يفضي، إلى الغفلية واللاتمايز وتبديد الطاقة في قضايا وإشكاليات ومعضلات غير جوهرية، في حساب العرفاني المنتمي. يتطلب الانتماء الوجودي، الانقطاع عن الأغيار، وعن مساراتهم الحياتية، وانشغالاتهم وهمومهم وعوالمهم الإدراكية وحقائقهم الموروثة.
(.. ولكن لا صديق له، الوحيد الذي يجالسه أحيانا، في صفاء خادم في جامع الحسين، والهبة الرومانسية في حياته الجافة حجرة عارية وبغي نصف زنجية. ) 11-
وهكذا تقوده العزلة المختارة، إلى الإيغال في التطوح والتيه والتنكب عن جادة الطريق السالك.
إن مجاهدة المنعزل منذورة للإخفاق، مهما كانت صادقة، لأنها تنفي التاريخ والفعل الجماعي ؛وهذا ما يفسر كذلك إخفاق عمر الحمزاوي في "الشحاذ" وصابر الرحيمي في "الطريق ".
(.. وطالما شعر بأنه بلا صديق حقيقي في هذه الدنيا، وبأنه وحيد متعال عن الضعف البشري!. )12-
تمتزج عزلة المنتمي بالقسوة على الذات والآخرين. فبما أن الاستئناس بالآخرين، والإقبال على عاداتهم وسلوكياتهم ومطامحهم، يمنعان من" التجوهر" والخروج من الغفلية، فإنه سيسير في طرق المجد والنبل والمعنى، وحيدا، فريدا.
ومهما أخلص واجتهد في المجاهدة، فإنه يخطئ القصد، و لا يتسامى إلا ليكتشف بعد كل تجربة وجودية، وعورة الطريق، ووطأة الشرط البشري الثقيلة.
(وهو كرس نفسه حقا لطريق الله المجيد ولكنه يغوص في الآثام، ويتلوث ساعة بعد أخرى، ويبدو أنه لا يقاوم الموت بما فيه الكفاية من قوة. ) 13-


الخلاص الفردي والتاريخ الحي :
إن رواية "حضرة المحترم"هي رواية عن استحالة الترقي الفكري الفردي، مهما كانت مقدرات وكفاءات ومواهب الفرد.
لقد سعى عثمان بيومي، بكل إخلاص، إلى الترقي الفكري –الروحي، اعتمادا على طاقاته وقدراته وإرادته وأشواقه الفياضة. لقد اعتقد، بإمكان فهم التباسات وغوامض ومجاهل العالم والناس والحياة، استنادا إلى إرادته وعزيمته، و سلم بإمكان" التشخصن" في عالم موغل في البؤس والقسوة والقتامة. وقد بنى مساره المساري، على نقلات متدرجة بين المقامات، اعتمادا على برنامج تدريبي فكري وروحي صارم.
إن عثمان أنموذج للمعتزل، الباحث عن النجاة، دون أدنى تماس مع التاريخ الحي، والناس المنهكين وجوديا واجتماعيا وسياسيا. وانتهى إلى العطالة الكلية والدنو من الموت.
(.. أجل إنه منغمس دواما في الداخل، في أفكار محدودة وخيالات تنفثها الغرائز، في الله ومجده الدنيوي المقدس وصراع الخير والشر والفساد، عدا ذلك فهو لا يرى من الدنيا شيئا. ) 14-
يشبه عثمان بيوميي عمر الحمزاوي في " الشحاذ"؛فهما مشغولان بمعنى الحياة والوجود ومغزى الشر والتعاسة. وبما أنهما يتبعان مسارين فرديين، فإنهما لا يظفران بطائل، رغم انبهار عمر الحمزاوي بانخطاف وجداني عابر في الخلاء، وترقي عثمان بيومي وتنقله الصعب بين المقامات. وأيا كانت أحوال الحمزاوي ومقامات بيومي، فإنها لا تمنحهما النبل والمجد المرغوبين، ولا تقربهما، مطلقا، من "التجوهر" الحقيقي :أي الفعل في التاريخ وبممكنات التاريخ. وهذا ما أشار إليه عثمان خليل في محاورته مع عمر الحمزاوي في "الشحاذ".
(-عندما نعى مسؤوليتنا حيال الملايين فإننا لا نجد معنى للبحث عن معنى ذواتنا ؟
-فتساءل عمر مضجرا :
ترى هل تموت الأسئلة إذا قامت دولة الملايين ؟. )15-

الهوامش :
1-(رجاء النقاش،صفحات من مذكرات نجيب محفوظ ،دار الشروق،القاهرة،الطبعة الأولى 2011،ص.49.)
2-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم،دار القلم ،بيروت ،لبنان ،الطبعة الأولى 1977،ص.85.)
3-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم،ص.23-24.)
4-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم ،،ص.10.)
5-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم،ص.103.)
6-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم،ص.55.)
7-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم ،ص.49.)
8-(نجيب محفوظ، حضرة المحترم،ص.22)
9-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم ،ص.73).
10-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم،ص.72.)
11-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم،ص.77.)
12-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم ،ص.119.)
13-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم، ،ص.77.)
14-(نجيب محفوظ،حضرة المحترم ،ص.146.)
15-(نجيب محفوظ ،الشحاذ،مكتبة مصر،القاهرة،ص.145.)


اكادير –المغرب