على الرغم من أن قطاع الثقافة في كثير من البلدان أصابه ما أصاب عدة قطاعات أخرى من جراء تفشي جائحة كورونا "كوفيد 19"، وعلى الرغم من أن مملكة البحرين لم تكن بعيدة عن هذه التداعيات التي فرضت التباعد الاجتماعي والحد من البرامج والفعاليات الثقافية، إلا انها وبالرغم من ذلك استطاعت إيجاد مساحة جديدة تواصل بها حراكها الثقافي المعروف والمميز والوصول إلى الجمهور عبر الفضاء والمنصات الإلكترونية الجديدة والمتنوعة.
وعبرت عن هذا المعنى الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، التي أشارت في تصريحات متعددة إلى نجاح المملكة في إطلاق العديد من المبادرات والأنشطة عبر منصاتها الإلكترونية المختلفة، وذلك لإثراء التواصل مع الشغوفين ببرامجها الثقافية المتنوعة من شعر وفن وتصوير وغيرها، إيمانا منها بأن العمل الثقافي "فعل دائم ومستمر" ولا يتوقف عند حدود معينة أو سقف بعينه.
في هذا الشأن، برزت خلال الفترة الأخيرة عدة جهود قامت بها هيئة الثقافة والآثار لتأكيد حضورها عبر الفضاء الإلكتروني الواسع، من ذلك: تدشين الزيارات الافتراضية ثلاثية الأبعاد لعدد من المواقع الثقافية بالمملكة، وإعادة بث الحفلات الموسيقية والفنية التي استضافتها البحرين في المواسم الثقافية السابقة، فضلا عن توفير أوراق العمل التعليمية لبعض أنشطة الهيئة، وبما يضمن الوصول للطلاب في مراحل سنية مختلفة وبمشاركة من ذويهم.
والمطلع على محتوى موقع الهيئة وحساباتها الإلكترونية عبر المنصات المختلفة بشكل يومي، يستطيع أن يجد العديد من العروض والنشاطات الجديدة التي تناسب الشرائح والتوجهات كافة، و يأتي على رأس هذه الفعاليات الافتراضية أفلام "التاريخ الشفهي" و"الفن عامنا" التوثيقية التي أنتجتها الهيئة لحفظ الإرث الثقافي غير المادي ومسارات حركة الفن التشكيلي بالبلاد، فضلا عن آخر إصدارات ومطبوعات مكتبتها الإلكترونية، والأنشطة التفاعلية الأخرى.
واستندت الهيئة في رؤيتها وتحركها ذاك على عدة أسس، فإضافة إلى المساحة التي وفرتها التقنيات الحديثة للعمل الثقافي، التي يجب توظيفها بشكل افضل مع استمرار انتشار تداعيات الجائحة، فإن هذه التقنيات وما تتيحه من برامج ومنصات متنوعة تسمح بحماية الكثير من الأصول والمكتسبات الفنية والثقافية،عبر تقنيات الحفظ والاسترجاع والأرشفة، كما أنها تتيح الوصول لقاعدة أكبر من الجماهير لم تعد الوسائل التكنولوجية بالنسبة لهم تمثل عائقا.
وكان من أبرز الأنشطة الثقافية التي أطلقتها البحرين عبر موقعها ومنصاتها الإلكترونية، المعرضان الفنيان: "من وحي الثقافة" و"من المحرق نستوحي"، اللذين انطلقا منتصف شهر تموز 2020 الحالي، واستهدفا الترويج للمتاحف والسياحة الثقافية بالمملكة، وحظيا بتفاعل واسع من الجمهور المتعطش للفنون والعمل الثقافي، واشتملا على عدة أعمال متنوعة تعكس الملامح العمرانية والتاريخية والحضارية عموما في البلاد.
واعُتبر المعرضان بادرة جديدة تؤكد ليس فقط على إصرار هيئة الثقافة على الوصول لشرائح جديدة من الجمهور برغم الظروف الراهنة، خاصة أنهما فتحا الباب، ولأول مرة للراغبين من هواة ومحترفين بالمشاركة بإنتاجهم المتميز، والذي بلغ أكثر من 80 عملا متنوعا استقطب الكثيرين من محبي الفنون والثقافة، وإنما أيضا إثراء محتوى موقع الهيئة وحساباتها الإلكترونية من الأعمال الفنية المبدعة كالرسم والتصوير والكولاج والفنون الجرافيكية وغيرها.
ولتأكيد أهمية التفاعل الحيوي مع جمهور المثقفين وإقامة قنوات اتصال حديثة مع عاشقي الفن والتصميم، ولاسيما من الشباب الذي يولون أهمية قصوى للمواقع الإلكترونية وبرامج التصميم الحديثة، وفي إطار جهود إثراء الحركة الفنية والثقافية بالبلاد، والاقتراب أكثر من الناس في ظل ظروف التباعد، جاءت عدة مسابقات كمسابقة "طاولة وكرسي" التي أطلقتها هيئة الثقافة والآثار مطلع يونيو 2020 وتستمر حتى نهاية أيلول (سبتمبر) المقبل.
وتبدو أهمية هذه المسابقة وغيرها من أنها وُجهت بالأساس لفئات ومراحل سنية عدة، واستخدمت فيها المنصات الإلكترونية الحديثة، وذلك بهدف التفاعل مع الجمهور من جهة، واستقطاب مشاركات عدة من جهة أخرى، في إعادة تصميم هاتين القطعتين اللتين تحملان عنوان المسابقة، وبما يتوافق مع عدة شروط ومعايير تضمن إطلاق خيال المبدعين والمصممين من الشباب، وإبراز صفات القطعتين الجمالية، وفي الوقت ذاته التواصل مع فئات جديدة من المصممين والمبدعين.
ولم يقتصر الحضور البحريني الثقافي على مثل هذه البرامج والفعاليات الافتراضية فحسب، وإنما امتد هذا النشاط لعدة أنشطة واجتماعات ثقافية أخرى استهدفت التعاطي مع التداعيات التي فرضتها الجائحة، وتمت جميعها عبر تقنيات التواصل عن بعد، كالمشاركة في الاجتماع الاستثنائي لوزراء ثقافة الدول الإسلامية "إيسيسكو" بعنوان "استدامة العمل الثقافي في مواجهة الأزمات"، وفي جلسة نقاش بعنوان "صمود الفن" استضافها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) منتصف حزيران (يونيو) 2020 الماضي.
وكذلك المشاركة في الاجتماع الأول لشبكة مدن اليونيسكو للتصميم منتصف تموز(يوليو) 2020، الذي جاء انطلاقا من عضوية البحرين الحالية بلجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو، واستهدف التأكيد، ضمن أمور أخرى، على أهمية الجهود التي تبذلها الجهات المعنية بالمملكة، لاسيما الثقافية منها، للترويج للنموذج الحضاري والثقافي لمدينة المحرق بما تضمه من مقتنيات أثرية عظيمة، وحماية هويتها التاريخية، والحفاظ على ملامحها العمرانية.
والمعروف أن مدينة المحرق كانت قد اُختيرت آواخر 2019 ضمن قائمة المدن المبدعة في مجال التصميم من جانب اليونسكو، والتي تضم نحو 250 مدينة عالمية، وهو ما يضاف إلى سجل طويل من مكتسبات المدينة التاريخية والثقافية الأخرى، خاصة بعد أن سُجل طريق اللؤلؤ على قائمة التراث العالمي عام 2012، وفوزها في شهر ايلول (سبتمبر) من عام 2019 بجائزة الأغا خان للعمارة لما قامت به هيئة الثقافة ومركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث الأهلي من إحياء للمدينة وعمرانها، واختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2018.
وشاركت الهيئة أواخر حزيران(يونيو) 2020 في الاجتماع الاستثنائي للمسؤولين عن التراث الثقافي غير المادي في الدول العربية، الذي نظمته عبر تقنية الاتصال المرئي المنظمة العربية للعلوم والثقافة "ألكسو"، وذلك بهدف التعاطي مع تداعيات جائحة كورونا "كوفيد 19" وتأثيرها على المناشط والمحافل الفنية والثقافية، حيث ابرز الاجتماع طبيعة الجهود التي تبذلها المملكة للحفاظ على التراث الثقافي غير المادي العربي كفنون الخطوط العربية وزراعة النخيل و"لفجري"، إذ تعمل الهيئة على هذا الملف الأخير لتسجيله على قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، باعتباره من أكثر فنون الأداء الشعبي شهرة في مملكة البحرين، ما يضاف إلى جهودها الأخرى أمام المنظمة ذاتها لتسجيل يوم عالمي للفن الإسلامي، الذي قُدم بمبادرة من جانب المملكة عام 2018، واعتمدته اليونسكو عام 2019 ليوافق 18 من تشرين الثاني(نوفمبر) من كل عام. (بترا)