(1)
طرقع مداس الشيخ عبد الغفور في صمت الزقاق الذي لم يصله بعد نور الفجر الا بالحد الذي يسمح برؤية معالمه بشكل مغبش. وكانت ابواب الدور الخشبية العاتمة تبان كاشباح تحاول ان تخترق جدرانها لتقفز الى الزقاق الضيق الملتوي .. جذل عميق ناعم يلف الشيخ وهو يتنصت الى ترجيع مكتوم " والقوهُ في غيابةِ الجب .." ..كم كانت جدته ، تعيد في طفولته البعيدة عليه تلاوة صورة يوسف التي يحبها حين يطلب منها اعادة تلاوتها قبل افطار الفجر ، فيختلط صوتها الوادع بوشوشة السماور السحرية ..
كان الشيخ قد اتم صلاة الفجر في مرقد الامام بعد ان اكمل استحمامه في حمّام ( باب الطوسي ) وختمه بدخول (الخزانة).. خزان ماء الحمام الذي يكاد يغلي ، اكمالا لنظافة العرس اللازمة ..لم يكن يجرؤ على هذا الطقس الا القلة النادرة من المستحمين في المدينة ..
لم يستطع دخولها حين زفت اليه بهدوء يكاد يكون سريا ، احتراما لمشاعر ام علي ، رفيقة ثلاثين سنة من دربه المتخم بالاحداث والمصاعب ، و أم حفنة من الاولاد والبنات ، " هم الشباب والشابات.. حمدا لله كلهم خِلفة صالحة.."
.." حقا كانت عروسة فزعة..طفلة مرعوبة حين كنت اتقدم صوبها بهدوء بابتسامة مشجعة ، وارفع عني عمتي و انزع قفطاني ..شيء لا ادري امضحك كان ذاك ام مؤسف..لا بل لعل فيه شيء من الشفقة وانا اراها ترتد على الفراش الكبيرالى الخلف ، ساحبة اللحاف ، باغطيته الحريرية ، لتتكيء بنصف جسمها الاعلى على جدار الغرفة وتنظر بصمت وهلع بعينين مبحلقتين الى اقترابي ..ابتسمت..كدت اضحك ، وانا اطمإنها بإشارة من يدي وهزة من رأسي ومتراجعا ببطء وهدوء .. طفلة!؟ ..صبية؟..صبية طفلة؟! .. احد عشر عاما.. اكيد لها اكثر من عشرة اعوام .. انه حلال الشرع ..لا ..لست ممن يقدم على اغتصاب ..لن اقدم على ذلك ابدا ..
صوت ابيها يرن في سمعي " هي منذورة لك ..هدية للشيخ ..والهدية لا ترد يا
مولانا آية الله ، وقد اتينا بها من الجنوب ..احلف بحق الامام الذي قدمنا لزيارة مرقده بعد مسيرة يومين كاملين انها عروسك نزفها اليك .. والهدية لا ترد ، والرسول صلوات الله عليه قبل الهدية يا مولانا .. جزاءنا منك ذريتكما الصالحة .. لا لن اشرب فنجان القهوة قبل ان ابارك لك بالرفاه والبنين واسمع منك "على بركة الله ".. وكررتُ عبارته بعد تردد لم يطل " على بركة الله " .."
"..كانت حلوة كزهرة برية وهي تقف ممشوقة بعباءتها الملفوفة واطراقة وجهها المتورد وعينيها المسبلتين خجلا ووجلا ، وما احلى الخزامة الذهبية الصغيرة عليها وهي تلتمع مهتزة من ارنبة انفها الرقيق فوق شفتيها المضمومتين باصرار ..حلوة حقا..حلال !! ..حلال شرعا "
".. ستفرح هذا الصباح بعلبة ( حلاوة الهندي ) ، لم تذق مثلها في الجنوب .. والوشاح الحريري ساضعه قرب رأسها ، سادعها تنام بهدوء .. سانتظر !..لمن حكمتك وصبرك ياشيخ إلّم تكن لذلك !..لابد ان ام علي ستأتي بصينية الافطار حين تحس بعودتي من صلاة الفجر .."
دلف الى البراني مجتازا مدخلا مشتركا يشبه النفق بينه وبين الحوش الكبير وتناهى الى سمعه صوت أم علي تهيب بابنتها الكبيرة (زهرة) ، ان تعد صينية إفطار الشيخ وعروسه قبل ان تعد افطار بقية من في الدار .
.. كانت الصبية الصغيرة التي نسي حتى أن يسأل عن إسمها ، مقرفصة تحت اللحاف العريض ، ولا يبان منها غير احدى جديلتيها ..صهباء بشريط براق احمر وكماشة شعر صغيرة زرقاء منمنمة ..
..وقف ابوعلي الى جانب الفراش سارحا ببصره في التفاصيل الصغيرة ، وكانه امام حديقة باهرة الالوان فسيحة ..
..انحنى ببطء وحذر
.. وضع برفق بالغ الوشاح الملون وعلبة حلاوة الهندي قرب حافة الفراش منسحبا الى ركنه من الغرفة ، حيث رفوف كتب الفقه العديدة والقران الكريم مفتوحا تحتها امام سجّـادة تبريزية ..
..تردد في الغرفة ترجيع الشيخ لايات قرانية بخفوت يكاد يكون همسا .

(2)
رغم باب البيت المشرعة والرواق شبه الاظلم بالنسمات الرطبة الاتية من فوهة البئر، متشعب القعر بممرات السن الباردة ، ورغم كثرة الابواب المشرعة للغرفة الطويلة بخشبها الهندي المزخرف والمزججة تيجانها ، والتي لا تصلها الشمس الا لساعة وبعضها عند المساء ، فقد كان الجو خانقا والحر متعبا للجالسين على الفرش الممدود على طول واجهة الغرفة ..
-خبرني يا خليل كيف كان اسبوعك الاول وانت تعود للتدريس من جديد ،سألت ام خليل .
-آه لو تعلمين كم انا سعيد بهذه العودة..لقد كنت صادقا تماما حين كتبت من ميشغان اليكم قبل ان اعود وقلت إن " مراحيض النجف عندي احلى من كل امريكا "
- والمستقبل والمطامح وانت تسعى قبلها بكل مالديك من عزم للحصول على هذه البعثة الدراسية التي لم تتح لغيرك ؟!
- ومن يعلم المقدر والمرسوم يا امي ..نزق ..نزق الشباب ..وهل الطموح الا نزق لا نحسب عواقبه .
- دعنا يا خليل ..لا القدر ولا المرسوم ولا شين ولامين ، انها المحروسة (صديقة) ..لا تجادل في ذلك يا خليل ، هذا هو الذي انت تسميه نزق الشباب لا البعثة العلمية التي رفستها بقدمك وكان الف الف من يتمناها ..
- يا امي .. يا حبيبتي ! الا تريدين سعادتي .. وها انا سعيد بعودتي ..سعيد بالحر والغبار والازقة الضيقة القديمة ، بالعمائم والادعية والمباخر .. بل حتى باصوات المنادين امام مواكب الجنائز المتتالية التي تمر عبر زقاقنا وهي تردد " لا الله الا الله وحده لا شريك له " .. ثم انسيتِ منظر اضوية قبة الامام وانا ارقبها في الليالي من على سطحنا فتنزاح عني هموم الدنيا .
- وكاني لا اراك في الليل وانت تدير رأسك تجاه السطوح المعاكسة لقبة الامام حيث معشوقة الروح التي جذبتك اليها كما المغناطيس من ميشغان عبر البحار والقارات .
- وهل في المحبة من عيب ؟
- عيب حين تظهر للعلن فينفضح الناس
- لكني اريدها عل سنة الله ورسوله
- الكل يعرف ذلك ويعرف سبب عودتك وهذا اكثر من كاف لابيها المتجبر كي يكون سبب رفضك .. قصة العشق مرفوضة عند الكثيرين هنا ..وانت بتصرفاتك وبعودتك ايضا فضحتها وفضحت اباها وفضحت نفسك ..العشق فضيحة هنا .
- هذا ظلم .. لقد فشل في محاولات تزويجها للعديدين ممن تقدموا لطلب يدها وهو يعرف سبب رفضها ..انه الظلم بعينه ..انه ظالم قاس ..
- ولكنه من تريده نسيبك وعمك القادم لا غير .. اصح يا ولدي ..كفى تعذيبا لنفسك ولنا بل ولها ايضا ..
- ابدا والله حتى لو اقضي وانا احاول ذلك .. هذا قدري يا امي ، يا ام خليل الحبيبة .


( 3)
حين يصل ابو ربيع من الشامية الى دار ابن عمه ابي أسامة ، وهو شخصية سياسية واجتماعية مرموقة في بغداد ، ينزع عنه عقاله وعباءته الجز ويستريح لا في غرفة الضيوف ، بل في غرفة جلوس العائلة .. نساء الدارلا يلبسن حجابا في حضوره .. يسارع الجميع في اعداد دلة القهوة التي تكاد تكون خاصة به ثم بترتيب الطعام للضيف العزيز على الجميع ، وعلى الاخص ابو أسامة صديق طفولته .
..غالبا ما يكون بصحبة ربيع ، ابنه الشاب اليافع او ابنته اديبة ، صبية الثامنة عشرة الجميلة المرحة .. كان يصحبها رفيقة سفر مؤنسة والاهم من ذلك ، ان يعرضها على اخصائي القلب في العاصمة لعل احدهم يأمله في امكانية شفاءها .
يتربع الجميع حوله في مجلسهم في الغرفة منصتين الى اخباره عن الاقارب او عن ذكرياتهم وهم في ضيافته في مزارعه في الرملة ، وهي اجمل ما أطل على جدول الشامية ، بنخيلها الباسق ، واشجارها المثمرة العامرة ، ودار ضيافتها الفره الواسع على منحدر الشاطيء الرملي .
لم يكن هذا البستان وحده هو مقر ضيوفه من عشائر الفرات الاوسط بل كان ( البراني ) الوسيع الملحق بداره ، بغرفه العديدة وشناشيلها ، هو المكان الآخر الذي ما خلا يوما من ضيف او عشيرة من الضيوف تحفل به .
كان حين تعوزه مصاريف مستلزمات الضيافة التي يقوم بها ، يعمد الى بيع قطعة من احد بساتينه او بستانا باكمله ليسدد ما عليه.
لا يظل احد من مئات اقاربه من آل جويران القاطنين في الحي الذي يسكنه او الاحياء القريبة دون عشاء او مأوى ، اذ يحرص ابو ربيع ، قبل غيره من الاقارب على كثرة المتنادين منهم لهذا الامر ، ألا يحصل ذلك .
يستمر اهل ابي اسامة بالعناية بالضيف العزيز ومن معه والاستمتاع بمجلسه وحديثه وتكرار دلال القهوة التي تقدم له ، حتى يحضر ابو أسامة من عمله في مركز بغداد محملا بالفاكهة والحلوى ، بعد ان وصله نبأ وصول ابن عمه .
حين خلا الجو لهما بعد ان آوى الآخرون الى مضاجعهم ساله ابو أسامة
-متى موعدك مع اخصائي القلبية
- بعد غد
-هل تحتاج الى توصية مني ، فلي به معرفة وثيقة
- لابد انك نسيت .. انك من اشار علي به ، وانك من اوصيت بي خيرا في مراجعتي
الاولى معه قبل سنتين .
- وساكرر التوصية
- لا فائدة يا اخي ، فلقد آمنت بالمقدر المكتوب ، لقد شرح لي وبوضوح مهذب انها لن تعيش لاكثر من سنة في اغلب الاحوال ..إن نجاح اية عملية جراحية لا يزيد في وضعها الحالي على عشرين بالمئة ..وهي ترفض رفضا باتا مثل هذه العملية ..لقد ادركت المسكينة قدرها واستسلمت اليه بشجاعة وايمان ..انها وكما احسها في الفترة الاخيرة متعطشة لأن تنال ما باستطاعتها مما تبقى من حياتها ، وليس هنالك الكثير مما استطيع توفيره ..شابة جميلة مفرطة الحس والعواطف ، يتقدم اليها الخاطبون فترفض بالم واباء لانها تدرك مصيرها المحتوم ..وافقتُ انا حتى على ذلك المتصعلك نصف الشحاذ ابراهيم ، الذي اعرف انها كانت راغبة في القرب منه ،
.. اتعرف يا ابا أسامة انه كاتب في دائرة البريد ببغداد ويسكن في احد ازقة علاوي الحله الفقيرة القذرة غير بعيد عنكم.. إلا انها وبعد تأكدها من مصيرها ، عادت ورفضت الزواج منه حين قدم اهله قبل اشهر يطلبون القرب منا ، بل عدتُ انا الذي احاول اقناعها بذلك دون جدوى .
- لا حول ولا قوة الا بالله ..اعجب يا ابا ربيع ، اهي مشيئة الله الغفور الرحيم ان يعاني الابرياء والضعفاء أم انه إلآه غيره ذلك الذي يحكم مصائرهم .
- حسبي الله .. حسبي الله ..ونعـــممــهــهـ الوكيــ..واختنق صوته بالنحيب المكتوم وتهدل رأسه على صدره المهتز
ثم ساد رنين صمت لف الرجلين بصداه واقفرت باحة البيت وضاعت معالمه في ظلمة الليل البهيم الموحش .


( 4)
لم يسعف الشيخ راضي الحظ هذا اليوم وهو يذرع لواوين وصحن المرقد العلوي
جيئة وذهابا لساعات ليعقب ذلك وقوفه عند ( باب المدينة ) قرب مدخل سوقها الكبير حتى المساء لاستقبال الجنازات القادمة .. لم يفلح في ان يحظى بتابوت او جثة ملفوفة باعواد السعف ، ليقرا عليها ايات الله البينات ، حين يلقونها في احدى حفر ( الوادي الكبير ) ، او مزرعة البصل كما يسميها شباب النجف العابث .
لا اهل المرحوم ان كان يصحبه اهل، في مساره القصير المتبقي بين ( بَسات ) النقل الخشبية الكبيرة والوادي المقفر يجودون ، بدرهم او درهمين ، لقراءة الشيخ ، صورة قرآنية او صورتين على قبر المرحوم ، ولا المرحوم ذاته بالطبع ، حين يأتي وحيدا على ظهر الحافلة الخشبية ، بعد ان القى اهله به فوق سطحها في رحلته الى النجف
يُمنح سائق المركبة خمسة دراهم، ثلاثة له ، واثنان ليعطيها لمن يحمل الجثت المشحونة ، ليلقوا بها في اية حفرة من حفر وادي الموت الكبير ’..غالبا ما يحتفظ سائق الحافلة باحد الدرهمين حين يجد حمالا للجثث يتوسل حتى لدرهم واحد ليحمل المرحوم فوق رأسه ..قد يوفق الحمال الجائع فيتفق مع السائق على حمل جثتين او حتى ثلاث مما قد تنقله الشاحنة ليحملها جميعا فوق راسه مرة واحدة ، وليركض في الازقة صوب الوادي الكبير وهو يحشرج بصوته " لا إله الا الله..لا إلاه إلا .." ، لا تباركا باالله ، ولكن لتحذير المارة من الارتطام بالحمل الثقيل .
عاد الشيخ راضي بوجهه المدهمج الشاحب الكالح ولحيته التي بدأت خيوط الشيب تزحف بين شعيراتها المغبرة السواد مهموما ، يجرجر نعليه المهترئين وعباءته المهترئة ، التي تمسح غبار الارض وراءه ، صوب بيت ابي عباس الكبير ، حيث يجد مأواه نزيلا ضمن نزلاء فقراء آخرين ..
..عرج على ( باب الطوسي ) إذ ذكّره الجوع الذي كان قد تناساه في تجواله ، بان عليه ان يلحق ليأخذ قسمته من خبز ابي الحسن ( هبة اية الله ابو الحسن الموسوي الى فقراء النجف ) قبل ان يغلق الخباز بابه .
"..لابد ان تجود عليه اصيلة زوجة الشيخ الكبير ببعض البصل او الكراث .." اشرق وجهه وهو يحمل اربعة ارغفة كبيرة متخيلا طعم الكراث والخبز الدافيء حين يتناوله في ركنه الصغير من البيت الكبير ..
.. قد تأخذ زوجة الشيخ اصيلة الرأفة فتمنحه فوق ذلك من بعض طبيخها المعد للشيخ واولاده .."
_ حمدا لله ، لاتزال الدنيا بخير دمدم الشيخ وهو يقترب من البوابة الكبيرة المشرعة ابدا .


( 5 )
- سأحرق البيت ..ساحرقه ..نعم احرقه ! ايتها العجوز اللعينة إلّم تعطيني الدينارين ، إنه حقي من الصندوق الهندي الكبير الذي بعتيه امس ..أحرقه
..احرق هذا البيت اللعين ..ها هي تنكة النفط !! اصبها على البيت العتيق.. سيحترق كعود كبريت في ومضة عين ، فكلّه اعمدة وابواب وشناشيل خشبية متقادمة ..انظري اسكب النفط هنا.. وهنا .. وهنا ، والعن البيت كله واهله .
كان يدور كالثور الهائج بقامته الطويلة النحيفة ورداءه الملموم الى سرواله وقد القى طاقيته جانبا ليظهر شعره الفاحم المبعثر .. عيناه الجاحظتان تقدحان باحمرارهما شررا ، ويكاد لسانه يندلق من فمه وهويفّح و يزأر بالشتائم ، ساكبا هنا وهناك دفقات النفط على عتبات الابواب الخشبية العديدة للغرف المحيطة بباحة البيت الوسيع وعلى قواعد اعمدته الخشبية الطويلة ..
_ يا يمّه !!.. يايمّه !!.. استهدي برحمنك ..خلي شوية رحمة بقلبك ..كل يوم وعندنا مصيبة وفضيحة .. وين الله وتحرقني وتخليني اموت واخلص ..بعتْ الصنوق الهندي الكبير اللي احفظ بيه هدومي حتى ناكل منه ..بعد ما ظل احد ينطيني بالدين ..ماكو دكان لا بالسوق الكبير ولابالسوق الصغير ولا بسوق العمارة يقبل ..واخوك من بغداد يوصلي كل شهر عشر دنانير واني اعرف ظروف ابو اسامة الصعبة..
كل ماعندي هي اربعة دنانير ..نصه للديانة والباقي يا دوب تكفي خبز لهذا الشهر ..بعت الاكو والماكو ..هاشمياتي ، عْصاباتي..حتى عبايتي الجديدة ما بقتْ الا الجِرود ..تعال اُخذ وامري لله ..هاك !! هذي كل حيلتنا واكلنا وشربنا ..
ورمتْ العجوز التي احنت رأسها بمذلة وسقطت عنها عصابة راسها لتبان شيباتها السبلة والجديلتين القصيرتين الرماديتين المرميتين الى الخلف ..رمت بكيس قماش اسود صغير صوب الرجل الهائج وانهارت واضعة راسها بين كفيها وركبتيها وهي تقرفص على حصيرة صغيرة في زاوية الباحة .
وضع حمزة تنكة النفط جانبا ..ارخى جلبابه المحشور في سرواله ..انتصبت قامته النحيفة الطويلة ..رفع رأسه للأعلى وكانه يتملى نوافذ ( الاورسي ) المطل من الدور الثاني بخشبه المزخرف وشبابيكه الطويلة بتيجان زجاجها الملون ..
.. بعد لحظات صمت لم يكن يقطعه غير انين العجوزالمنتحبة الخافت المكتوم ، تقدم ورفع الكيس الاسود الضغير من على الارض .. استل من داخله ورقتين زرقاوين ودسهما في الجيب الجانبي لرداءه ..
..تقدم برأس مرفوع وتعبير رضا بالغ على وجهه ، وكانه انجز للتو مهمة شاقة عظيمة .. انحنى بهدوء ووضع الكيس الاسود الصغير على طرف الحصيرة التي تقعي عليها والدته بارديتها السود منكمشة كصرصار اسود كبير.
..حين ارتدى صايته ووضع عباءته الجز على كتفيه واعتمر طاقيته ووضع عقاله فوق رأسه راميا ذؤابتيه الى الخلف وهو ينظر بزهو الى هيئته في مرآة غرفته ، خرج الى باحة الدار..
..تريث في موقعه لبرهة .. بدت على وجهه معالم حيرة حزينة وهو ينظر الى العجوز المنكمشة الغارقة في ارديتها الفضفاضة السوداء في الزاوية البعيدة من الباحة .
_ ساعيد لك هذا المبلغ اول ما احصل على الوظيفة التي توسط لي فيها الشيخ ابو ربيع ..
كانت خطوات حمزة في الزقاق وعبر صحن الحضرة العلوية وفي ( السوق الكبير ) المزدحم ، سريعة وهادفة .. كان ذهنه منشغلا للحد الذي لم ينتبه فيه الى تحيات بعض معارفه في السوق .
.. قرب نهاية السوق التفّ ليدخل احد ازقته الجانبية الضيقة حيث بعض صناع سبح السندلوس وحلي الزجاج الملون والنمنم والاحجار الرخيصة ، وبعض دكاكين صغار العطارين ..وصل الى مدخل نصف اظلم يشبه النفق ، ينتهي بباب خشبي عريض عال متهالك تزينه مطرقة نحاسية ضخمة صدئة ..
..طرق الباب فاطل من فتحته المواربة وجه كهل ملتح ..
_اهلا حمزة ..تفضل.. وينْ هلْ الغيبة ، صارلك زمان ؟
_ مشاغل والله حاج سعيد..مشاغل ومشاكل
_ أحظـّرْ لكْ شاي ..قهوة ؟
_ لا شكرا .. خبرني وصلتك البضاعة ؟
_ البضاعتين ..( ابو الكلبجة ) و( الاسمر ) و الاخير هذا نوعية همدانية مفتخرة ، منْ ( المشتي ) اللي فاتحتك بقصته ، صدقني ياحمزة ما راح يدوخك دوم وحده ، لا زوجة ولا خلف ولا سلف ، لا عِرفْ ولا وِلفْ ، والنجف عنده زيارة ومقام ولا الجنة ، يوفّي تكاليفها بـ(الاسمر) اللي يجيبه وياه وما يجيب اكثر من حاجته ومصروفه .. والله شلون اسمر يكَـعد الكيفْ والمزاج ! من احسن الانواع !
..والله صدقني خويه حمزه وربي ، المشتي فقير الله وخوش انسان .. ما عنده
غير سجادته وابريقه وحضرة الامام اللي مْعابدهَ ليل نهار ..وزيارة كربلا مرات ..لا ( ابو الكلبجة ) ولا ( الاسمر ) اثنيهم ما يقربهم .. صدقني ما راح يدوخك ، يدفع إلك اللي تريده برهنية البراني مال البيت ..شْوَكِتْ ما توفّي الرهنية وتريده يطلع يطلع ..ورقة بيناتكم لا محامي ولا كاتب عدل وآني الشاهد على العقد وبس ..
_ خلينا بالأهم حجي فاضل..وين ابو الكلبجة واريد وياه فص واحد لو اثنين من الاسمر ..ما عندي اكثر حتى ادفع اليوم ..
_ لا تشغل بالك بالفلوس .. تنكة ابو الكلبجة جاهزة ومو فص واحد ، كيس من الاسمر بيه عشرين فص ، اكثر من ميه وخمسين غرام ..لا تشيل همْ اعتبرهم عربون العقد بينك وبين مشتي عباس .. المشتي وفلوسه جاهزة من اليوم وبعهدتي ! ..معقولة انكت بصديقي العزيز حمزة ؟! ، توكل على االله وخلينا نكتب العقد اليوم ، ماكو غير المشتي يحط رجله على عتبة درج البراني حتى تنفك زنقتك.. رهنية تكفيك زواج من احله مرة تريدهاَ ..حتى مو مرة وحدة نسوان اثنين تكدر ..توكل على الله حمزة وتعال العصر نكتب وياه ورقة العقد ..
دعى الحاج سعيد بعد ساعة احد الحمالين ليحمل تكنة ( ابو الكلبجة ) المغطاة بورق ملون كتب عليه ( دبس تمور مارينا الشهير ) ..خرج حمزه خلفه و
عريضة تعلو وجهه ..تلمس جيب الصاية الجانبي ليطمأن على استقرار كيس فصوص الاسمر في قعره ..
" هذا المساء في سرداب السن ونسمات البئر الباردة قنينة من تنكة ( ابو الكلبجة ) مع قطع الثلج ومزة الموالح والخس ؟؟.. ام تعمير النارجيلة ووضع فص من ( الاسمر) فوق مجمرتها ؟؟ .. "
تكرر هذا التساؤل طوال الطريق المزدحم بالسابلة والمتسوقين وزوار الامام ..

( 6 )
عندما فتح سامر عينيه ولا يزال الوقت مبكرا على النهوض من السرير ، لمعت في ذهنه صور احداث البارحة كشريط فلم متقطع ..
ضياع فردة حذاء عدنان في خنزيرة ماكنة الماء في البستان والتي كانت السبب في اكتشاف هروبه مع عصابة رفاقه الاربعة في الصف الاول ..وجه المعلمة السمين المحمر الغاضب وهي تسحبه من اذنه من رحلته ، عبر ساحة المدرسة المائج بتراكض وتدافع وصخب صغار طلبة التمهيدي والصف الاول وهم ينتظرون خارج صفوفهم توزيع نتائج الامتحان في آخر يوم من المدرسة ..اغلبهم يصك بكفه على عشرة الفلوس المعدّة لفراش المدرسة الذي يقف منتظرا قرب غرفة المديرة .
..لم يتذكر خلال استعراضه للشريط ، انه احس بألم صيوان اذنه الذي تورم من السحب عبر المسافة التي احسها طويلة ، كفترة هجعة القيلولة الارغامية في غرفة القبو المظلمة في الدار .. ثم تلك اللقطة الرهيبة في الوقوف امام المديرة المخيفة بمسطرتها التي تحملها كالسيف وتلسع بها اكف الطلبة المشاكسين او الهاربين من الصفوف قبل انتهاء الدوام أوالغائبين دون عذر من اهاليهم ..
..جاءت ام عدنان صارخة شاتمة كل ادارة المدرسة التي تفسح المجال لهروب الصغار .. والاهم السماح بضياع فردة حذاء جديد ، تم شراءه في العيد الاضحى قبل اسابيع معدودة ..
..لكنه مع تورم صيوان اذنه اليمنى ، وكفه الايمن من لسعات مسطرة المديرة الحارقة ، فقد كسب عشرة الفلوس المعدة للفراش والتي بقيت في جيب بنطاله القصير ، حين سحبته معلمته السمينة زكية ، ذات اللباس الحريري الاخضر ، الذي يبان من فرجة فخذيها حين تجلس امام الصغار ليرددوا من وراءها ، زيز..زيزي..زير..زيرى .زيران ..ن ، والذي لا يعرف ما الذي تعنيه لا زيز ولا زير ولا حتى ما معنى أن تصرخ المعلمة السمينة اخيرا ( إن ) وهو مكنوب ن (نون ) .. ، سحبته ذات اللباس الحريري الاخضر من اذنه مرة اخرى بعد أن انتهى العقاب وخمد صراخه وعويله اثناء لسع المسطرة ليديه " مو آني اللي ضيّع القندرة والله مو آني .." ، سحبته عبر باب المديرة حيث يقف فراش الـ( العشرة فلوس ) الى باب المدرسة ، حيث سوق الخضار والعطارين ، ودفعته بقوة في ظهره خارج الباب فسقط على وجهه قرب بائع اللبن وهي تصرخ خلفه
_ لا تجي للمدرسة على النتيجة إلا واهلك وياك .
وهو لا يزال منبطحا في قاذورات الزقاق امام باب المدرسة دارت في ذهنه :
" الله كم هو حلو الخلاص من مسطرة المديرة اللاسعة..والخلاص من زكية ذات الفخذين السمينين واللباس الحريري الاخضر ..ومن حبسة المدرسة من الصبحية للعصرية .."
حين نهض منفضا الاوساخ العالقة بملابسه تجهم وجهه للحظات .. " وعقوبة البيت المنتظرة ؟! .."
لم يطل تجهم سامر لما ينتظره في البيت ، بل سرعان ما اخذ يتهادى بمشيته بحرية وسط سوق الخضار وعبر الزقاق الطويل الذي يليه ..لحظات يقطع المسافة
ببطء وسرحان ، واخرى راكضا بفرح مسافة قصيرة مرددا " هيه! هيه! عطلة ..هيه ! هيه ! .. "
.." ابويَهْ بالشغل لليل ، وامي هي اللي راح تجي وياي للمدرسة .. ساقول لها ..هو اللي ضيع فردة قندرته واحلف إلهَ بالحسين والعباس ابو راس الحار ..كلهَ كفخةْ لو كفختين ، وايد امي مو قوية مثل ايد ابويه ..وهي ما تعرف تستعمل الخيزرانة مثله..آخ آخ هي مرة واحدة ! .. بس لليوم كلما اتذكرها يلسعني ظهري "
..تحولت صور سامر من فوق مخدة سريره الى وجه اديبة الجميل المبتسم وشعرها الطويل الفاحم ..اشرق وجهه بابتسامة عريضة وهو يتخيلها منحنية عليه تداعب شعره وتقبله على خده قبل ان تسحبه من ذراعه لينهض من فراشه كما في كل مرة تأتي فيها الى بغداد سواء اكانت مع ابيها الشيخ ابو ربيع لمراجعة اطباء القلب ، ام تقدم لوحدها للتسوق والنزهة .. وسينعم برفقتها في تجوالها اثناء بقاءها كالمرات السابقة .. وتذكر ما تغمره اثناء التجوال بالهدايا والحلوى..
..لقد وصلت من الشامية امس مساءا و كم ضحكتْ على قصة الهروب من المدرسة مع عصابة من الصغار وعلى اكتشاف الجريمة بضياع فردة حذاء عدنان .. ثم كانت الوسيطة في ان يكتفي الوالد – امامها – بعقاب التهديد و التوبيخ الشديد وقطع عشرة فلوس الغد ( يوميته النظامية ) .
جهّـزت اديبة ( بقجة ) ملابسها والمناشف اللازمة ، اما الصابون والامشاط وعدد اخرى فقد وضعتها في ( البطيخة ) النحاسية مع بعض الفاكهة .. سامر جهزت له والدته بقجة صغيرة لملابسه الداخلية ومنشفة صغيرة .
_ ها خلي نروح للحمام !
_ ننتظر جيرانتنه انيسه ونروح سوية اجابت اديبة سامر المتلهف على اجواء حمام النسوان الذي سبق ان صحبته اديبة اليه في المرة السابقة .
.. لم يكن ( حمام سوق حماده) بعيدا عن زقاقهم ، ولم تكن صالة استحمامه المضببة بالبخار الكثيف والرائحة اللزجة الشبيهة برائحة المطابخ العتيقة مكتظا بالمستحمات ..امرأتان سمينتان احدهما يندلق كرشها البض من فوق مئزرها والثانية تجلس على صخرة مربعة فتتهدل اطراف من عجيزتها على حواشي

الصخرة المسوّدة ..صبية نحيفة تقف قرب احد الاحواض دون مئزر تدلق ماء الحوض على شعرها المنسدل ..امرأة تدلّك ظهر صاحبتها المنبطحة على وجهها بكيس اسود ..

القتا مئزريهما حال دخول الصالة المضببة الحارة ..تهدل شعرهما

.." اديبة شعرها فاحم سبل طويل يصل الى عجيزتها وله لمعان بهيج ..انيسة شعرها كستنائي داكن وهو اقصر من شعر اديبة واخشن .. وجه اديبة اكثر وداعة وجمالا من وجه انيسة ..ابتسامة اديبة طفولية مرحة .، ضحكة انيسة بين الحين والحين صاخبة وخشنة بعض الشيء ,,جسد اديبة ونهداها المرفوعان وخصرها وفخذاها الملفوفان اجمل من جسد انيسة الممتليء واشياء اخرى يصعب وصفها تجعل اديبة هي الاحلى .."
.." اديبة ..اديبتي أجمل " ..فرح سامر وهو يتوصل الى نتيجة مقارنته تلك .
انهيا استحمامهما بعد ان خرجا من تلك الغرفة الصغيرة في جانب الصالة والتي مُنع سامر من دخولها -( رغم صغره )- ظهرا عند خروجهما من الغرفة بتغير شدّ انتباهه ..اكثر بريقا؟ اقل شوائب؟ .. لم يعرف سبب ذلك التغير إلا بعد حين .
اصطحبته في المساء الى سينما الحمراء الشتوي ..جلسا في الالواج الخاصة في الطابق الاوسط ..كان اسم الفلم (اسماعيل ياسين ..) .. حالما اطفأت الانارة نهضتْ من مكانها في المقعد الامامي المجاور لتجلس في احد المقعدين الخلفيين ..بدأت تداعب شعر راسه من هناك .. بعد دقائق على اطفاء الانواراحسّ بانضمام شخص جلس الى جانبها في الخلف ..دار همس متقطع ..واصل سامر متابعته للفلم وحركات الممثل المضحكة ، ولم يعد ينتبه الى ما يدور خلفه ..قبل ان تعود الانارة قبل نهاية الفلم بقليل ، سمع صوت زائر اللوج في الخلف ..
_ باجر العصر ..انتِ تعرفين العنوان
_ بالطبع عيوني ابراهيم .. كان همسها خافتا وهي تجيبه
في الطريق الى البيت، اشترت له بعض الهدايا وملئت جيوبه بالحلوى التي يحبها
في صبيحة اليوم التالي سار معها يدا بيد في سوق المغايز ..
..اشترت اوشحة وعطورا ، ومن محلات شارع الرشيد الكبيرة ، قمصانا رجالية واربطة عنق وملابس رجالية داخلية وحقيبة جلدية صغيرة انيقة وضعت فيها الهدايا ودست بين صفوف الالبسة رزمة من الاوراق النقدية الحمراء .
وكما في طريق العودة من السينما قبل يوم ، كانت هنالك اقلاما ملونة وكراريس رسم وحلوى تملأ الجيوب .
بعد قيلولة الظهيرة ، اكملت اديبة زينتها واستعدادها للذهاب الى الخياطة بعد أن اخبرت اهل ابي ربيع بذلك .. نظر سامر اليها مشدوها ببهاء مظهرها واحس بفرح واعجاب لم يحسه تجاه اي شخص ممن حوله من قبل .. ودّ لو انها كانت مقام امه او أخته الكبيرة لتبقى ابدا في دارهم ليراها كل يوم وليعيش جنة النزهات والسينمات والهدايا وقبلة الصباح المنشطة قبل التهوض من السرير .
اشارت اليه براسها وطارف عينها الى الباب ..خرج مسرعا جذلا ..
..ما ان خرجت الى الزقاق حتى وضع يده في يدها للسير سويا ..اوقفت عربة حنطور ، راعتْ ان تكون نظيفة وانيقة واشارت الى الحوذي بتفاصيل العنوان والانتظار المطلوب لحين العودة .
لم تكن المسافة التي قطعها الحنطور قصيرة ..عَـبر شوارع عريضة ..إلتف الى ازقة احياء سكنية نظيفة ..اجتاز مناطق مزدحمة بالاسواق الشعبية وعربات بائعي الخضر والمأكولات الجاهزة الرخيصة ، ثم انحرف الى زقاق قذر تفوح من جدرانه رائحة البول المتقادم ويصخب فيها اطفال وصبية بملابس متسخة شبه بالية ، يتوسط الزقاق خارور المياه القذرة للبيوت المرصوفة الى بعضها كما ترصف العلب الفارغة ..طلبت منه التوقف .
كان باب البيت الذي وقف الخوذي الى جانبه مواربا ..
نزلت من العربة وبيدها الحقيبة الجلدية التي اشترتها أمس وطلبت من سامر الانتظار حتى تكمل الخياطة عملها ..اخرجت من جيبها علبة نستلة كبيرة وسلمتها ، ليستمتع بها اثناء الانتظار..
..دلفت الى الدار دون ان تطرق الباب واغلقته وراءها .
لم يرتح للانتظار خارج الدار ، رغم الهدية اللذيذة .. كان ذلك احساسا جديدا غريبا عليه رغم انه قد مر بحالات انتظار مماثلة سابقة لآخرين .
حين مر وقت ، احسه طويلا ، ضاق بجلسته في العربة فنزل عنها ذارعا الزقاق الطويل الملتوي جيئة وذهابا مرات عديدة ولم يكن مرتاحا لكثرة الصبية ممن يصادفهم بالزقاق وهم في ملابسهم الرثة ، ينظرون اليه.. ينظرون بقرف الى الصبي النظيف ببنطاله القصير المكوي وحذاءه غير المتسخ وغير المرقّع وشعره الذي لا تلطخه بقع الطين ..
عاد وجلس بعض الوقت في العربة التي استغل الحوذي فيها الوقت ليخرج كيس
علف من تحت قدميه ويضعه في رأس الحصان ثم ليذهب بدلو فارغ فيملأه بالماء ليسقي حصانه ..
.. الحصان ضاق ذرعا بدوره من الانتظار فأخذ يدك بقوائمه الارض وهو يحاول ان يزحزح العربة عن مكانها ..
..لم يحس برغبة في ان يتذوق علبة النستلة التي ظل ممسكا بها طوال الوقت دون وعي منه ، حتى اصبحت عجينة رخوة ملفوفة في الورق اللماع الملون ..رماها جانبا بانزعاج الى زاوية من الزقاق .
لاح له من مكانه في العربة شباك الدار الذي لم يكن مغلقا ، وكانت تغطيه ستارة من قماش قديم مورّد تهتز بنسمات الزقاق القليلة ..قاوم فكرة تكرار النظر اليها ..لم يستطع ذلك بل عاد فأمعن النظر فيها .. تسلل من العربة ببطء وكانه مقدم على عمل محذور ..اقترب بحذر من ستارة النافذة .. بيد مرتجفة ازاح ببطء جانبا منها .. تلصص النظر الى ما وراءها ..
.. لم يكتشف شيئا غريبا او مفزعا مما توقعه من حذره وخشيته ..
..شاب نحيف طويل القامة لا يرتدي غير سرواله الداخلي ..تقف الى جانبه اديبه في ( أتكها ) الحريري الازرق دون اي شيء آخر فوق جسدها المتراءي من خلاله ..يبدو وكانها تساعده في المطبخ بذراعيها البضتين العاريتين في وضع ابريق الشاي على النار ..
لا شيء غريب فكم من مرة رأى اباه واخاه الاكبر يدوران بسرواليهما في البيت ..وكذا نساء اخريات يدرن بملابسهن الداخلية .. واية غرابة في ذلك ؟! .. بل شاهدهن عاريات كما حصل في الحمام و كما شاهدها هي كذلك ، بل وامعن واستمتع بالنظر الى ذلك امس..
ولكن ورغم كل هذا اللاغريب ، لفّـته حيرة شديدة غامضة ، حارَ ! لمَّ قام بردّ حاشية الستارة على عجل وكأنه اقترف ذنبا ؟!، .. لمّ احس فورا بعدها بألم يخزُ صدره وتضيق به روحه ؟! ..لمّ شعر بذلك الحزن العميق القاسي الذي لم يشعر به من قبل ابدا ؟! ..