تشكل ضاحية "كريستيانس هاون"، وهي احدى احياء العاصمة الدانمركية <كوبنهاغن>، حدثاً عمرانياً لافتاً في تاريخ المدينة المعروفة عالميا بكونها احدى اهم مدن الشمال. والضاحية اياها (بالدانمركية Christianshavn)، التى تعني <مرفأ "الملك" كريستيان>، بدأ في تشييدها سنة 1618، بامر من قبل الملك كريستيان الرابع (1577 -1648)، هو الذي كان وقتها ملكا للدانمرك والنرويج، كما امسى ملكا سنة (1588) بعمر 11 سنة، وظل في الحكم حتى مماته. اقترن اسمه ببناء عدة معالم حضرية مهمة، لا تزال معظمها باق لحين الوقت الحاضر. وقادته طموحاته الى تشييد استحكامات منيعة لعاصمته التى بدأها في ضاحية كريستيانس هاون بجزيرة "آما" Amager، وكانت وقتها منطقة "اهوار" ومستنقعات ضحلة. كما كان الهدف الرئيسي من وجود تلك المدينة الجديدة، ايواء المهاجرين الهولنديين، لكنها اضحت مدينة للتجار وموئلاً لحرفيين. وقد ساهم احد مخططيها وكان هولنديا باعداد مخطط حضري لها معتمدا على تقسيمات الارض باشكال هندسية منتظمة ومتماثلةـ اعتماداً على النموذج الهولندي. وتم حفر قنوات عديدة بضمنها قناة رئيسية تصب في البرزخ الفاصل بين كوبنهاغن وجزيرة "آما" بزاوية قائمة. كما تم ربط المدينة الجديدة مع كوبنهاغن بجسر سمى "جسر آما الكبير" ولاحقاً بـ "الجسر الطويل" وفي سنة 1641 امسى "هانس كنيب" Hans Knip "ناظرا" و"متوليا" Caretaker للجسر، وبعد ذلك سُمي الجسر بـ "كنيبنسبغو" Knippensbro (اي جسر كنيب). وفي القرن التاسع عشرـ اصبح اسمه الجديد "كنيبلسبغو" Knippelsbro. وحصلت مدينة "كريستيانس هاون" بعد مرور عقود عديدة على انشائها، على امتيازات خاصة، فيما بين 1639 – 1674؛ كما تم منح حكومتها المحلية صلاحيات ادارية هامة. وظل ينظر الى كريستيانس هاون طيلة القرن التاسع عشر بكونها مدينة داخل مدينة، رغم انها دمجت اداريا مع كوبنهاغن منذ زمن قديم.

تعتبر اليوم ضاحية "كريستيانس هاون" مكانا محببا من قبل كثيرين يفضلون السكن فيها. فهى فضلا على ما تحتويه من قطاعات سكنية، فانها زاخرة بالانشطة الفنية وبوجود المؤسسات الثقافية. وتعد قناتها الرئيسية "كريستيان كنال"، التى تخترق الضاحية من الشمال نحو الجنوب، من المواقع المفضلة من قبل زوار الضاحية وضيوفها بالقيام بجولات في زوارق بحرية، تمخر مياهها ومياه برزخ كوبنهاغن المطلة عليه. وتبقى كنيسة "مخلّصنا" <Our Saviour> (بالدنماركية Vores Frelsers Kirke ) من الاحداث المعمارية اللافتة في "كريستيانس هاون" وحتى في عموم مدينة كوبنهاغن. فالمعلم التاريخي يعد من الامثلة المعمارية الكنسية الاولى "للبورك" الدانمركي مع تأثيرات واضحة عليها من العمارة الهولندية المتمثلة في اشكال النوافذ الطولية، واستخدام الطابوق الاحمر الغامق، بالاضافة لوجود الطنف Cornice الثقيل المعمول من الحجر الرملي. وقد لاقي تشييدها الذي بدأ سنة 1682 صعوبات جمة. ففي سنة 1695 توفي معمارها "لامببيرت فان هافين" Lambert van Haven ، وعند افتتاحها سنة 1696 ، كان الكثير من مفردات

اثاثها الداخلي غير مكتمل. اما الجزء الاعلى منها Spire، وهي "القمة المستدقة الحلزونية" التى وسمت عمارة الكنيسة بطابع خاص جعلها لتكون من الكنائس المميزة في المشهد المعماري الدانمركي، ، فقد اضيفت سنة 1752، من قبل معمار آخر، هو "لاويتز دي تورا" Lauritz de Thurah . وقد بلغ ارتفاع الكنيسة بعد تلك الاضافة نحو 90 مترا. ويظن كثر من العرب الساكنيين في كوبنهاغن (ولاسيما العراقيين منهم)، بان معمار الكنيسة استوحى "فورم" برجه المستدق من شكل "ملوية جامع المتوكل في سامراء (848 – 852)، لتشابه اسلوب تنطيق مسار الحركة الحلزونية، وحضورها الواضح في الشكل المختار للجزء العلوي من القمة. والحقيقة انه لا يمكن له، للمعمار الدانمركي (وحتى لغيره!)، حينذاك، ان يتأثر بالمنجز السامرائي، وذلك لسبب بسيط هو ان "العالم" وقتها لم يعرف "بعد" بوجود تلك التحفة المعمارية؛ التى اعدها، شخصياً، من روائع المنجز المعماري العالمي التى اهدته العمارة الاسلامية للانسانية، من خلال منتج عمارة سامراء. (تلك العمارة التى تشكل الآن بالنسبة الي، موضوعا لبحث مهني اعترف باني الان "غارقاُ" فيه وبتقصياته!). بيد ان ثيمة "الالهام" في تشكيل القمة الحلزونية، ما فتئت تبقى حاضرة في "قصة" تاريخ الكنيسة اياها. فالمعار يعترف بانه فعلا استلهم "قمته" تلك من مصدر معماري معروف. وتؤكد الدراسات التى تبحث في شأن عمارة الكنيسة وتاريخها، بان ثمة "مرجعية" تصميمية واقعية شكلت الهاما للمعمار وهذة المرجعية تمثلت في شكل قمة كنيسة "سان ايفو ديللا سابينسا" San Ivo della Sapienza (1642 -1660) في روما بايطاليا، للمعمار "فرانجيسكو بوروميني" (1599 – 1667) F. Borromini ، الذي يعد واحدا مع قلة من معماريين اسسوا اسلوبا معماريا عُرف بـ "بورك روما" الذي انتشر ما بين 1600 الي القرن الثامن عشر. وتعد كنيسته الرومانية تلك، وقتها، من اكثر الكنائس جرأة في تغيير اساليب عمارة الكنائس وتبديل الذائقة الفنية لادراكها! لكن التساؤل ذاته ما انفك قائما، كيف تسنى للمعمار الروماني "الباروكي" ان يتقصى معرفة ما تم انجازه في احد مواقع ذلك المكان النائي الذي دعي يوما ما بـ "سر من رأى"، وان يجتهد (بعد تأويل واضح) في توظيف ما اجترحه، سابقاُ، زميله المعمار السامرائي؟ بيد ان ذلك... قصة آخرى!

ينقسم حي "كريستيانس هاون" الى قسمين رئيسين: اعلى واسفل (شمال- جنوب)، يفصلهما شارع "تويغيذا" Torvegade، وهو مسار مهم في اتجاه شرق –غرب، يربط الحي وكل "جزيرة آما" مع مركز كوبنهاغن عبر جسر "كنيبلسبغو" الذي ورد ذكره في اعلاه. ويعد القسم الجنوبي، بالوفت الحاضر، الاكثر ثراءً بنماذج العمارة الحديثة. وقد اشتغل المعمار "هيننغ لارسين" <1925 -2013> (وهو من اهم المعماريين الدانمركيين، سبق وان تحدثت عن نتاجه المعماري في كتابي "العمارة بصفتها قبولا للآخر" الذي صدر 2012 بالانكليزية عن دار نشر مدرسة العمارة في كوبنهاغن، وهو، ايضاً، مصمم مبنى وزارة الخارجية في الرياض <1980 - 1984> بالسعودية)، اشتغل مع معماريين آخرين في تحويل هذا القسم الى حي عصري بتصاميمهم المتعددة واللافتة، سواء عند الساحل المطل على البرزخ البحري أم في داخل هذا القسم منه.

ويبقى القسم الشمالي من "كريستيانس هاون"، القسم الحضري الاكثر اثارة معمارياً، والاغلب تنوعا في الانشطة المختلفة بوجود الابنية السكنية والادارية والثقافية ..وطبعا السياحية والترفيهية. فهو كما ينطوي على وجود نماذج عديدة لإبنية تراثية قديمة، فانه يتمتع بثراء لعديد الابنية ذات العمارة المدهشة والمعاصرة في آن. بالاضافة طبعا على ما يسم اجواء "كريستيانس هاون" من حيوية وابتهاج نابعة من "غرابة" طريقة سلوك بعض سكانه، ووجود مقاطعة "كريستيانيا" Christiania في القسم الشرقي منه، او مايعرف بالدانمركية "بالمدينة الحرة" Fristaden، وهو موقع مثير للجدل، ظهر سنة 1971، ابان موجات تمرد

الشباب والطلبة التى اجتاحت اوربا حينذاك. وكانت "كريستيانيا"، التى شغلت مساحة قدرت بـ 34 هكتار، ومنذ انشائها في اوئل السبعينات في موقع كانت تشغله ثكنات عسكرية ومخازن للذخيرة، مصدراً لجدل واسع في اوساط الدانمركيين. اذ وافقت السلطات الحكومية في البدء بان تسري فيها قوانين وانظمة خاصة بها وحدها بمعزل عن تلك القوانين السائدة في مملكة الدانمرك، ما وفر امكانية لها ان تكون، ايضاً، مكانا آمنا لتجارة المخدرات والحشيشة وكذلك موئلاً للجريمة المنظمة. بيد ان الحال قد تغير في الفترة الاخيرة، اذ سن البرلمان الدانمركي في صيف سنة 2013 قانونا يبطل ما كان ساريا في كريستيانيا من شرائع. ومع انها اغلقت لفترة ،الا انها اعيد فتحها مجددا وما زالت النقاشات والخلافات حولها مستمرة مع الحكومة الدانمركية. وتعتبر "كريستيانيا" رابع اكثر الامكنة السياحية جذبا للسياح في كوبنهاغن، حيث يزورها حوالي نصف مليون زائر سنويا!.

من بين الابنية التى اضافت "نسمة" متميزة الى "مناخ" سياق البيئة المبنية، هنا في القسم الشمالي من حي "كريستيانس هاون" هي "مدينة الاطفال" (بالدانمركية Børnebyen)، التى افتتحت سنة 2017، وهو موقع مخصص بالكامل للاطفال الصغار، يأوي قرابة 700 طفلا طيلة اوقات النهار، لحين وصول أَوْلِيَآئِهِمْ لاستلامهم بعد انتهاء ساعات عملهم في مؤسساتهم المختلفة. وقد تمكن المعمار (المصممون مكتب "كوب" Cobe، الذي تعجبني كثيرا اعمالهم واسلوب مقارباتهم الجريئة وغير المتوقعة في التعاطي مع المواضيع التصميمية)، تمكنوا ان يخلقوا بيئة ملائمة جدا للاطفال من خلال هيئات مباني الاجنحة التى استطاعوا ان يبثونها ضمن مخطط زاخر بالمفردات الحضرية تماما كما هي مدينة كوبنهاغن، مثل الساحات والحدائق والابنية العامة، وحتى .. دائرة اطفاء! وكل ذلك جاء بعمارة مميزة، تختلف اشكالها من مبنٍ للآخر ومشغولة بمواد انشائية متباينة، لكنها مع هذا تظل تحتفظ بـ "وحدتها" وانسجامها كمدينة حيوية طافحة بالتناقضات!

تضيف كثرة نماذج المباني التاريخية نكهة معمارية خاصة ايضا الى "كريستيانس هاون" وتجعل منه حياً لافتا وممتعا في آن. ويعد وجودها الوافر بمنزلة "خزين" كوبنهاغن من النماذج التراثية. فثمة اعداد كثيرة منها لاتزال احيازها تستخدم لوظائف متعددة، كسكن او مبان تخدم النواحي الترفهية والسياحية واحيانا الثقافية كمقرات لمتاحف متنوعة العناويين. وعندما يسير المرء في ازقة الحي ودروبه ذات الطابع المميز، يشعر بانه "رجع" الى ماض قديم وزمن آخر بسبب نوعية العمارة المحيطة وما تتسم به الوانها الصارخة التى كانت جزءا من سلوك لـ "عادات" بيئة مبنية سابقة، فضلا على تنوع مفردات اثاث الشارع ، التى تستدعي باشكالها المميزة هيئات التصاميم الاولى لها. وسيشعر بان عبق التاريخ القديم يمكن له ان يسكنه بسهولة، مثلما هو قادر ان "يستنشقه" بحرية ..مع انه ينتمي ويعيش في زمن معاصر! بالنسبة اليّ، يظل حي "كريستيانس هاون"، المكان الاليف، والجذاب وحتى ..الحميمي الذي لطالما ابتهجت بالتجوال في دروبه، والتمتع برؤية امثلته المعمارية اللافتة في جمالها وفي الوانها والتلذذ بالسير طويلا بمحاذاة قنواته العديدة، بعد انهي عملي في "مدرسة العمارة" حيث كنت اعمل فيها لسنوات "باحثا زائراً"، هي الواقعة في حي "هولمن" Holmen المحاذي لـ "كريستيانس هاون" من جهة الشمال. وما انفكيت اشعر بذات الشعور كلما تعنيت زيارة، او وطئت رجلي ذلك الحي المثير والمحبب .. والمدهش بعمارته وببيئته المبنية وبانشطته المتعدةة!

معمار وأكاديمي

الصور:
1- حيّ "كريستيانس هاون"، منظر عام.
2- حيّ "كريستيانس هاون"، كنيسة "مُخلصنا" (1682 -1696)، منظر عام.
3- حيّ ة "كريستيانس هاون"، كنيسة "مُخلصنا" الجزء العلوي (1752).
4- حيّ "كريستيانس هاون"، <مدينة الاطفال> (2017)، المعمار "مكتب كوب Cobe"، المدخل الرئيس.
5- حيّ "كريستيانس هاون"، احد شوارع الحيّ.