انشغل الروائي المصري جمال الغيطاني،طيلة مساره الروائي والإبداعي الطويل ،بالتجريب و إبداع نصوص سردية ذات أصول تراثية –محلية وامتدادات وتداعيات عالمية.ولما كان مقتنعا باجتراح ممكنات تعبيرية جديدة،وتجاوز المسالك السردية المطروقة والارتهان الأحادي إلى الأنماط الحكائية الأوروبية ،فإنه استوحى الأجناس التعبيرية التراثية،ونهل من معارف وسرود وحكايات ومتخيلات تراثية وشعبية ،وصهرها في بوتقة متخيل خاص ،تراثي مظهرا وشكلا وحداثي مخبرا وقصدا ورؤيا.
لصياغة المادة الحكائية،اختار الغيطاني ،صيغا وطرائق غير مألوفة،ونهل من الموروث ومن المخزون الثقافي التراثي.كان من اللازم ،تحقيق التساوق بين المادة الحكائية والشكل السردي المعتمد ،تلافيا للمفارقة وتحقيقا للخصوصية المبدعة المبتغاة.
(..كلمة الإبداع تعني مسألة أن يأتي المبدع بما لم يوجد مثله ،بما يمثل إضافة ،ليس إلى تراثه فقط وإنما إلى التراث الإنساني ككل . ) -1
لقد تمكن من خلال التعلق و التفاعل مع نصوص وفنون نثرية تراثية كثيرة ،من تنويع طرائق السرد وأساليبه ووسائله ولغاته ،واعتماد أنواع فرعية متعددة ،نذكر منها ما يلي :

المذكرات :
تم إيراد مقتطفات من مذكرات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي ،وتتضمن هذه المقتطفات مشاهدات ومعاينات الرحالة المندهش من تقلبات الأحوال بمصر المملوكية واستحكام نفوذ المحتسب الزيني بركات بن موسى.
وقف الرحالة البندقي على طرافة وغرابة قرارات الزيني بركات (قتل المحتسب السابق علي بن أبي الجود رقصا)،وبداية التشكك في نواياه وخلفيات سلوكياته ومناوراته السياسية.فسياسة المحتسب الوالي ملتبسة،ظاهرها الذب عن الفضائل والخلال والشمائل وباطنها التسلط والأثرة والاحتجان.
لم يكن الزيني بركات،كما وصفه الرحالة البندقي ،محتسبا أواليا عاديا،يكتفي بأداء مهامه وفق ما رسم له،بل كان شخصا متفردا ضليعا في تضبيب الحدود والتخوم وتلغيم المهام والتعريفات وتضييع المسافات المعيارية المعتادة بين الخير والشر ، بين الفضائل والرذائل ، و بين الأخلاق والسياسة العملية.
أتقن الزيني بركات ،فنون التلبيس ،بفعل ما توافر له من مقدرات نفسانية ووجدانية،وصفها الرحالة البندقي بدقة .
(..لكنني لم أر مثل بريق عينيه.لمعانهما ،خلال الحديث تضيقان ،حدقتي قط في سواد ليلي ،عيناه خلقتا لتنفذا في ضباب البلاد الشمالية ،في ظلامها ،عبر صمتها المطبق ،لا يرى الوجه والملامح ،إنما ينفذ إلى قاع الجمجمة ،إلى ضلوع الصدر ،يكشف المخبأ من الآمال ،حقيقة المشاعر ،في ملامحه ذكاء براق ،اغماضة عينيه فيها رقة وطيبة تدني الروح منه ، في نفس الوقت تبعث الرهبة .. )- 2
تمكن الزيني من التلبيس ليس على الجموع المستبشرة بتوليه الحسبة الشريفة فقط،بل على السلطان الغوري والشيوخ والعرفاء.
ولما كان عارفا بالخفايا ،وبالارتباك الجماعي الناتج عن المجاذبات الداخلية وإكراهات التجاذب السياسي والعسكري مع العثمانيين ،فإنه تفنن في تلميع صورته،ونيل حظوة ومنزلة لم يسبق إليهما ،رغم ذرائعيته السياسية وتورطه في استثارة الفرسان المماليك ودفعهم ،تاليا ،إلى الاعتداء على أهالي الحارات.
(واستجاب السلطان لرجاء الزيني وأمر بمنع المماليك من مغادرة ثكناتهم العسكرية والنزول بعد العشاء إلا بإذن خاص ،أمر بمنع أي مملوك من ارتداء لثام حول وجهه ،لم أعاصر هذه الفترة في مصر ،لكن أخبرني خادمي باستمرار الدعاء ثلاثة أيام فوق منابر الجوامع للزيني بركات ،ولم يحدث هذا لأي إنسان من قبله ،حتى أمر ابن موسى بمنع هذا . )-3
تقدم مذكرات الرحالة البندقي ،إفادات هامة عن كفاءة الزيني بركات وقدرته الاحتسابية والإعلامية والدهائية.لقد حرص على التحكم والتلاعب بالجموع،من خلال التفنن في تعاطي :" المسرحة "و"التقمص" والتلاعب بالمتخيل الجماعي.

-النداءات:
تتخلل الرواية نداءات كثيرة ؛وهي محملة بقرارات سياسية وإدارية هامة ،اتخذت في سياق استشراء المجاذبات السياسية قبل وبعد دخول العثمانيين إلى القاهرة عامة والتنافس المحتدم بين المحتسب الزيني بركات والشهاب الأكبر زكريا بن راضي خاصة.
وتنص هذه النداءات على :محاسبة علي بن أبي الجود ،وخروج السلطان إلى الريدانية وغش بعض العطارين ،وإلغاء الضريبة على الملح ،ورفع احتكار الخيار الشنبر ،ومنع مشي المماليك الملثمين في الطرقات بعد المغرب ،وإبطال نعي الموتى بدق الطارات ، وتلقي الزيني المظالم ، وتعليق الفوانيس على أبواب الحارات ،وقوع قطيعة بين الأمير بشتاك فول مقشر والأمير طغلق شادي العمائر ،و إعدام علي بن أبي الجود، و تسليم الأمير كرتباي والي القاهرة القديم إلى المحتسب و والي القاهرة ، واستخراج الأموال من الأمير ماماي الصغير والأمير بكتمر الساقي أمير عشرة ، وفرض الضريبة على بيوت الخطأ، وسفر الزيني إلى جهات دمياط والدقهلية ، وشنق بائع بيض ، وقطع ألسنة ثلاثة شبان ، وتسليم ثلاثة مغاربة إلى الشهاب الأعظم بعد اتصالهم بابن عثمان ، وخطبة الشهاب الأعظم في جامع شيخون ، و دعوة أصحاب الدكاكين والمغنين والرقاصين لاستقبال الزيني بعد عودته من الصعيد، و شنق أبي الخير المرافع ، وتعيين الزيني ناظرا للذودخاناه ونائبا للدوادار الكبير الأمير طومان باي ، وإعلان الجهاد ، ونداءات الخنكار العظيم سليم شاه ...الخ.
وقدا أعلن المنادون عن اعتزام الزيني بركات إضاءة القاهرة بالفوانيس ،درءا للاعتداءات والمظالم والمفاسد.كانت هذه المبادرة سابقة لم يعرف لها التاريخ المصري مثيلا ،ولذلك اهتبل مناوئو الزيني ،هذه السانحة ،لاستثارة الجموع والدفع بها إلى المطالبة بإبطالها رسميا ،باعتبارها بدعة ومفسدة.
(من الآن فصاعدا
ستعلق فوانيس كبيرة تضيء بالشحم
هندسها وسواها
الأمير طغلق شادي العمائر
بعد استماعه إلى رأي الزيني بركات
متولي حسبة القاهرة والوجه القبلي
على كل باب حارة
تحت كل منزل وقصر
أمام كافة الوكالات .. ) -4
وقد صدر مرسوم سلطاني لإبطال عادة الفوانيس،بعد حملة الوعاظ والفقهاء والشعراء وقاضي قضاة مصر عليها ،بتحريض خفي من مناوئي الزيني بركات.
و الندءات على إيجازها ،مكثفة المعاني وافرة الإفادات وكثيرة الإيحاءات.وتسهم كثيرا في رفد السرد ،والتقريب من التحولات والتغيرات المستحدثة،تفاعلا مع إكراهات وضعية سياسية يحكمها التجاذب السياسي الداخلي بين المماليك والمحتسب والشهاب الأكبر من جهة والنخبة المتطلعة إلى العدل والأمان (الشيخ أبو السعود الجارحي و الطالب الأزهري سعيد الجهيني ..)من جهة أخرى ،و التجاذب العسكري الخارجي مع العثمانيين.

المرسوم السلطاني :
جاء في مرسوم ثامن شوال 912ه ،ما يلي :
(يتولى بركات بن موسى ،حسبة القاهرة ،لما تبين لنا بعد ما قدمناه ،ما فيه من فضل وعفة ، وأمانة وعلو همة ،وقوة وصرامة ،و وفور هيبة ،وعدم محاباة أهل الدنيا وأرباب الجاه ، ومراعاة الدين ،كما أنه لا يفرق في الحق بين الرفيع والحقير ،لهذا أنعمنا عليه بلقب "الزيني"يقرن باسمه بقية عمره.)- 5
ينطوي مرسوم تعيين الزيني بركات بن موسى حسبة القاهرة،على تقدير كبير لكفاءته وفضائله،وتحديد للمهام الموكولة إليه،وهي متعددة :النظر في المكاييل والموازين ،واستقصاء الأخبار ، ومنع المتحيلين ،ومنع الفسق والفساق ،وتعرف الأسعار .. الخ.
لقد حظي المحتسب بحظوة غير مسبوقة ،وبتقدير غير مستند على مسوغات أو مبررات مقبولة و أنعم عليه بلقب الزيني مدى الحياة ؛كما لقي مساندة الشيخ العارف أبي السعود بعد رفضه الكاذب لولاية الحسبة .
لقد تمكن الزيني بركات، من تحييد السلطة السياسية والسلطة العرفانية ،باعتماد سياسة ذرائعية قوامها :التفنن في تغذية المتخيل الجماعي،وإظهار التعفف والتقلل والتزهد ،ومراعاة المثال ظاهرا،و"مسرحة " الحركات والأفعال والاستطراف ...... الخ.
("أولا"إنه لم يكن يقبل الحسبة أبدا،لولا إطلاعه الأمراء على ما ترتضيه روحه لراحة العباد ،ولولا الشيخ العارف بالأصول والفروع ،الزاهد الناسك ولي الله "أبو السعود" ،لما قبل أبدا..)6-
لم يتمكن الزيني بركات،من من إحكام قبضته على ولاية الحسبة والتوسع في الوظائف والمهام ،إلا باستعمال الإيهام والتلبيس .فقد أوهم أرباب العرفان والوعي الجمعي،بعدله وفضله،والجموع التواقة إلى الأمن بإنصافه ؛لم يكن محتسبا تقليديا أو بصاصا عارفا بأصول الصنعة فقط ،بل كان بارعا في الإيهام والتلبيس والمخايلة.وقد تمكن من التلبيس حتى على كبير بصاصي السلطنة المملوكية،رغم توجسه منه وسعيه إلى الإيقاع به.
((.. أدرك زكريا أنه خدع خدعة عميقة ،تمنى زكريا لو وجد نظام بصاصين فعلا يتبع الزيني ،وألا يدرك أن الآمر كله إشاعة أطلقها الزيني ،بنى نظاما في الهواء أوجده ولم يوجده ،عانى زكريا مرارة الخديعة أياما لكنه أضمر في نفسه إعجابا خفيا للزيني .. )- 7
إذا كان زكريا بن راضي بصاصا ومنظرا فذا "للبصاصة"،فإن الزيني بركات،كان علاوة على مهامه ووظائفه،ضليعا في المخايلة والتحكم في الآخرين عن بعد وإخراج المخايلات مخرج الحقائق.

-التقرير :
كتب مقدم بصاصي القاهرة إلى الشهاب الأعظم ،زكريا بن راضي كبير بصاصي السلطنة ،تقريرا ،بتاريخ الجمعة 15 شعبان 922ه ،جاء فيه ما يلي :
(وحتى الآن لا يعلم العامة بما يجري ،و إن تساءل البعض عن عدم ركوب الزيني لصلاة الفجر كعادته ،ومن ناحيتنا ،بادرنا فأرسلنا العيون والأرصاد في كل فج ،وخاصة كوم الجارح ونمي إلى علمنا أن دراويش الشيخ ومريديه وكافة أرباب الطرق الصوفية والفقراء في بر مصر سيعلنون الخبر ويهيجون الخلق .)- 8
أخبر مقدم بصاصي القاهرة ، الهشاب الأعظم ،بما وقع للزيني بركات ،استدار الذخيرة ومتولي حسبة الديار المصرية ،ووالي القاهرة ،والمتحدث عن الوجهين القبلي والبحري في كوم الجارح .فقد احتجز الشيخ أبو السعود الجارحي،الزيني ،وشكه الدراويش في الحديد.
ويكشف تقرير مقدم بصاصي القاهرة عن كفاءة جهاز زكريا بن راضي وقدرته على تقديم تفاصيل احتجاز الزيني .كما يكشف عن ضآلة سلطة الزيني ،رغم تعدد مهامه وتفرده بموقع إداري وسياسي كبير في دولة المماليك ،بالقياس إلى سلطة العارف بالله الشيخ أبي السعود الجارحي.

-الرسالة :
قال زكريا بن راضي كبير بصاصي السلطنة المملوكية،في رسالته إلى الزيني بركات بن موسى ،ناظر الحسبة الشريفة :
(..من هنا رأينا الإشارة عليكم ،وإعلامكم بما يجب أن يتم من جانبكم ،وهو ضرورة إرسال مطلب مفصل إلينا، كل ليلة ،نطلع منه على ما تم من مخالفات ضبطتموها ،حتى نعرف من ارتكبوها ،فندرجهم في زمرة الأشقياء ،ونحمي الأتقياء والأولياء ،كما نرجو الاستعانة بمن يتبعونا من منادين ،لمراجعتنا ما يقولون ،ما يوجهونه إلى العامة وينقلون .. )- 9
ذكر زكريا بن راضي ،الزيني بركات ،ناظر الحسبة الشريفة ،بما درجت عليه النظم والرسوم ،وما سار عليه نظام السلطنة ؛وذلك بالاستناد إلى خبرة ديوان البصاصين وقدراته على التقصي والتحري والاختراق وفك المستغلقات والإشراف على النداءات و"استخراج الحقائق ".
و في سياق المنافسة المحاكاتية ،بين كبير البصاصين ، زكريا بن راضي والمحتسب الجديد،الزيني بركات ،أشار زكريا بن راضي إلى ثلاث مخالفات ارتكبها الزيني غب قبوله ولاية الحسبة : سابقة الخطبة في الجموع ،وإطلاق منادين مجهولين ، وتلويحه بإنشاء فرقة خاصة من البصاصين .
لم تمنع التوجسات، زكريا بن راضي ،من الاقتراب ،ولو بمقدار ،من الزيني والتنسيق الفعلي معه ؛والحق أن بينهما قواسم مشتركة كثيرة أهمها :الدهاء والقسوة والتآمر.ويفترقان في احتراف الزيني الإيهام والتغليط والمخايلة،وارتهان زكريا بن راضي ،المتزايد ،إلى مخيلة استخبارية وقمعية ،لا تكتفي بالتنظير لما هو قائم وواقع بل ترنو ،فيما يشبه الخيال العلمي ،إلى وسائل استخبارية وقمعية غير مسبوقة تاريخيا.
(..إنني أرى يوما يجيء فيمكن للبصاص الأعظم أن يرصد حياة كل إنسان منذ لحظة ميلاده حتى مماته ،ليس الظاهر فحسب إنما ما يبطنه من خواطر ،ما يراه من أحلام ،بهذا نرصد كل شيء منذ مولده ،نعرف أهواءه ومشاربه بحيث نتنبأ بما سيفعله في العام العشرين من عمره مثلا.. )- 10
لم تكن الرسالة المعدة بمناسبة اجتماع كبار البصاصين(كبير بصاصي المغرب والبرتغال والصين والهند.. الخ) بالقاهرة،تقريرية كما هو منتظر،بل كانت رسالة تنظيرية ترسم واقع البصاصة ،عالميا ،وآفاق تطويرها مستقبليا.
ليس الزيني بركات وزكريا بن راضي مجرد موظفين مكلفين بأداء مهمات إدارية أو سياسية ،وفق الخطط المعدة قبلا ،والمقاصد المتوخاة ،بل هما ،قبل ذلك،مستغرقان في" البصاصة "والاحتساب،مستحضران للتاريخ ومنعرجاته ومآسيه وطرائفه.فقد تراجع الزيني عن الفوانيس،بعد اعتبار إضاءتها واقعة عظيمة،وسابقة تستحق الإدراج في أسفار التاريخ.
(..عندما أردت إنارة القاهرة بالفوانيس ،تردد كلام كثير حول الموضوع ،واعتبر واقعة عظيمة أدرجت في كتب التاريخ ،مما اضطرني إلى الرجوع عن أمر انتويته ،وشرعت في البدء فيه ، هذا لم يغضبني أبدا ربما أخطأت الوقت ،لكن ما آلمني وأوجعني هذه الحكايات التي ترددت على ألسنة العامة .. )- 11

أما زكريا بن راضي ، فلا يكتفي باستحضار تاريخ" البصاصة" والتجسس والتعذيب (بصاص الأشرف قايتباي، وقطع رقبة ابن الكازاروني أحد أكبر بصاصي زمن الظاهر بيبرس ،مناداة الأمير طيبغا بالعدل في زمن الناصر بن قلاوون وصنع بلاليق طيبغا...)،بل يتطلع إلى تطوير آليات وطرائق "البصاصة "عالميا.

الخطبة :
أجمع الوعاظ على اختلاف مذاهبهم ،في خطبة الجمعة ،على شجب استعمال الفوانيس.
(الفوانيس علامات آخر الزمان ،من علامات دنيا تخرج عما رسمه الباري عز وجل ،طالبوا سلطاننا بتوسيط كل من أوحى إلى الزيني بهذا ،بحرقه ،برجمه ،هؤلاء الجهلاء دعاة العلم ،آه من يوم تسود فيه الفوانيس اللهم قنا شره ،اللهم أبعدنا عنه ، اللهم لا تمد أجلنا حتى نراه .. )- 12
اعترض الفقهاء -ما عدا قاضي الحنفية- ،وكبار الأمراء ،على تعليق الفوانيس وإضاءتها ،بأمر من الزيني بركات.وصدر مرسوم سلطاني بإقصاء قاضي الحنفية الشيخ سعيد بن السكيت،وآخر بإبطال عادة الفوانيس.
وتكشف الخطبة عن النصوص والقياسات والاستدلالات المقدمة،للبرهنة على بطلان إضاءة القاهرة بالفوانيس،وعن طرائق التفكير وتدبير الاختلاف وصناعة الرأي العام.والواقع أن التحكم في الرأي العام ،كان مدار التنافس في هذه الظرفية بين الزيني بركات ومناوئيه ومنافسيه وخاصة زكريا بن راضي وكبار الأمراء.

تركيب:
فكما استوحت رواية" الزيني بركات" التاريخ المملوكي ،وأعادت صياغة واقعاته وعوالمه السياسية والاجتماعية والثقافية،وأبرزت شخصيات سياسية مغمورة بسيول السرد والكتابات الحولية(القاضي الزيني بركات ....) ، فإنها استوحت كثيرا من الفنون النثرية التراثية ،لتحقيق التناسق بين المادة الحكائية والأشكال التعبيرية.علاوة على تحقيق التناسق بين المادة والشكل،أسهمت الفنون النثرية والأنواع الفرعية المعتمدة ( المراسيم ، الخطب ،المذكرات،النداءات ،الرسائل ..)في تقديم واجهات كثيرة للحدث الواحد (واقعة الفوانيس )،وإضاءة خفايا الواقعات(اجتماع كبار البصاصين في أنحاء الأرض بالقاهرة ،ومقتل السلطان الغوري بمرج دابق )،وفي إنارة الخلفيات الثقافية والمقاصد السياسية ،وتقديم منظورين مختلفين للحدث والشخصية المحورية (منظور الرحالة البندقي ومنظور المشاركين في صناعة الأحداث لا سيما زكريا بن راضي ).
لا تنهض الفنون النثرية في الرواية بالإيهام بالوثائقية أو بالتأريخية فقط بل تسهم في كسر رتابة السرد والتفاعل النصي مع التراث السردي والتاريخي المحاكى(بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس الحنفي القاهري (1448-1523م )) محاكاة تحويلية.
(تحاور الرواية الأنواع الأخرى ،تسلبها أهم مقوماتها لتحتفظ بها لنفسها .إنها ترهن النص السابق ،لتسلبه جوهره .وبذلك تؤسس ذاتها من خلال استمداد عناصر حياتها من مقومات حياة الأنواع الأخرى ،وبذلك تحيا وهي تجدد نفسها بناء على قاعدة المحاكاة والتحويل . )- 13
فبفضل استيحائها التفاعلي والنقدي والتحويلي ،للكتابة التاريخية ، والفنون النثرية القديمة ، مثلت رواية " الزيني بركات"نموذجا للتفاعل النصي والتعلق النصي الخلاقين ،حسب الناقد سعيد ياقطين ،وللكتابة السردية الجديدة،المتطلعة إلى إضاءة كثير من عتمات الوجود الإنساني،والى استكشاف طرائق سردية مستحدثة بناء على قاعدة المحاكاة التحويلية.

الهوامش :
1-(جمال الغيطاني ،القلق ،التجريب ،الإبداع ، مواقف ،العدد 69،خريف1992،ص.97.)
2-(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،دار نهضة مصر للنشر ، القاهرة ، الطبعة الثالثة 2015،ص.40-41)
3-(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.222.)
4-(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.131.)
5--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.59.)
6--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.90.)
7--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.287.)
8--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.270.)
9---(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.94-95.)
10--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص. 259.)
11--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص. 178.)
12--(جمال الغيطاني ،الزيني بركات ،ص.143.)
13-(سعيد يقطين،الرواية والتراث السردي ، من أجل وعي جديد بالتراث ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء –بيروت ، الطبعة الأولى1992،ص.109.)
اكادير –المغرب