في مرتفع الجبل الابيض وسط مدينة ستوكهولم, وفي يوم ثلجي بارد تعرض مسرحية انتيغون لفرقة مسرح أوبيرون . المكان ملجأ حزبي معد لحماية المدنيين من الحروب المدمرة, والوقاية من الاسلحة الفتاكة, تجاوز المخرج الشاب كارل سلداهي حدود المسرح التقليدي وفرقته .ان عملية تحقيق المتعة الجمالية في عرض أنتغونا جاء نتيجة الدهشة ,وكسر وازالة المسافة الجمالية مابين هذا العرض المدهش والجمهور, وكانت شفرة العمل الفني وحالة التأويل, هوجمالية العرض المسرحي من خلال تواجدنا في هذا المكان وشعورنا بحالة الحشد والانقباض النفسي,ونحن نعيش اجواء الحرب صفارات الانذار القصف المدفعي وصوت الطائرات.المخرج كارل تفعيل أدواته
الفنية من التمثيل والاظاءة والديكور والتشكيلات الجمالية, حركة المجاميع والمحاولة الذكية كانت من خلال تأويل واعداد نص مسرحية أنتيخونا بثوب عصري, واعادة خلق النص دراميآ ,وخلق حالة الابهار في مشاعرنا واحاسيسنا, ولكون حكاية أنتيخونا لنا بكل احداثها, وكيف استطاع المخرج ان يخلق من حكاياتها حكاية واحداث طازجة,تمثل الزمن الحالي بكل تناقضاته،صراع وحروب وقتل,وبطش الانظمة ذات التوجهات الحربية ؟ تأويل النص جعل المتلقي منذ الوهلة الاولى في حالة دهشة من حقيقة مايشاهده. اين اختفت قيم الحب ولماذا ساد الانتقام ؟ عالم مليئ بالمشاعر الزائفة في ظل حكم فردية قرارات كريون الزائفة . ومحاولة التجريب على النص المسرحي وكل الادوات الفنية داخل بنية المكان في العرض المسرحي ,استطاع المخرج وفريقه المسرحي تفعيل كل ادوته الفنية بشكل مدهش ومبهر,ويعد المؤلف جان انوي من جيل الحرب العالمية الثانية, كتب مسرحيات السود وبعد ذلك كتب المسرحيات الوردية ,عالج فيها تشاؤمالافكار المستحوذة عليه مثل الفقر في عالم الفقراء، ثم كتب المسرحيات المفرحة واعاد معالجة الموضوعات الكلاسيكية بمنظور حديث مثل مسرحية انتيغون، ومسرحية روميو وجولييت. ان مسرح انوي هو مسرح الصراع السياسي، شخصيات اغريقية ولكن بأبعاد وملامح معاصرة ,وبناء الحوار الرائع علي الطريقة الفرنسية.في المسرح التجريبي هناك الكثير من المغامرات الممتعة والبحث عن الجديد ,في الاخراجكانت امنيتي ان ادخل واغوص في هذه الاماكن المرعبة ,خاصة انني القادم من العراق وما تعرض للحروب والنكبات نتيجة موقعه ومواقفه, المكان جبل، ابواب حديدية، ممرات، ملجأ حربي بمواصفات راقية من الاضاءة والمقاعد. صالة لشرب القهوة, الملك كريون ببدلته المعاصرة يضع المكياج علي وجهه امام الجمهور , يتحدث ويحاور جمهور المسرح ,يسأل الجمهور ان كانوا بحاجة لقضاء حاجتهم بخصوص المرافق الصحية. ويقودنا عبر البوابة الرئيسية في ممر ضيق يحشر البشر فيه مع صافرات الانذار الحربية نتيجة لغارة جوية ,وقصف مدفعي واصوات مضادات ارضية. الاحداث تدور في اي مكان من العالم يوغسلافيا ، ام تنادي ابنها وهو محاط بالشباك رمز ودلالة للسجن ترمي له بالاكل . مجموعة حراس يرتدون البدلات السوداء مع اسلحتهم وهم يشهرون المسدسات في وجه الجمهور.عشرون دقيقة ونحن عند بوابة العبور ننتظر ونستمع الي حكاية هؤلاء في ظل الحرب والخوف والرعب ,عشنا الاجواء وطوابير البشر لا تعرف الى اين المصير وهل الاحداث في ظل حرب الغزاة ، تفتح الابواب وبأوامر من كريون يقودنا مع حمايته الى مكان معد مسبقا لاحداث المسرحية, كريون يذكرني مع حمايته برجال المافيا او اي رجل سياسي مهووس بالحماية وحارسه الشخصي . اسمينا الاخت تظهر بملابس عصرية مع دراجة هوائية حديثة، وانتيغون بملابسها السوداء مع سروال امرأة قريب من سروال المرأة الكردية او البوسنية، ماميون ابن كريون يرتدي البدلة السوداء،المسرحية قريبة من الرومانسية الثورية، انتيغون ترفض الوقوف في المطبخ لاعداد الطعام كأي امرأة او تغسل الصحون ,حتى الحب بدأت تنساه نتيجة المأساة، فهمها الاكبر هو تجاوز قوانين كريون الظالمة بحق اخيها, غير مسموح بدفن جثته لكونه متهم بالخيانة. وانا اشاهد هذه المسرحية أنتغونا شعرت بالحزن وبدهشة الدموع لموقف انتيغون, سبق ان شاهدت مثل هذه الحوادث الماثلة في حياتي لأناس مدنيين قتلوا وسحلوا في الشوارع وعلقوا على اعمدة الكهرباء، وتركوا في العراء لايام طويلة, والتمثيل بجثثهم وانبعثت رائحة كريهة في المدينة, وبعد ذلك تم دفنهم بشكل جماعي، حتى الطيور احتجت علي هذا الموقف وعلى جرائم الانسان، فشخصية كريون وهو يتحاور بلغة انسانية ولكنه يحمل بداخله سموم الغدر, ولا يعرف شيئا سوى التشبث بالكرسي، وان تطلب ذلك قتل ابنه هايمون وحبيبته انتيغون, حراسة رجال مدججين بالسلاح هدفهم جمع المال والمتاجرة بالنساء. في هذه المسرحية لم اشعر بالحالة القدرية، فانتيغون اختارت هذا المصير بناء على الموقف، كنا نشاهد فيها روح الشعب المتمرد.مسرحية أنتيغونا تحوي في داخلها بعدا واحدا يوصلنا الي الاستقلالية, وهذا اعظم انجاز في المسرح التجريبي, اي مسرح له اهميته ودوره يصبح المخرج دراماتورجيا لوحده دون وجود مؤلف، ويتمكن المخرج مع فرقته من الممثلين والفنيين في تمرير رؤيته, ويبدع في هذا النوع من المسرح وخلق فن جديد، خصوصا اذا كان المخرج الشاب كارل سلداهي هو ابن الممثل الكبير وصاحب الدور الرئيسي في المسرحية والفرقة الممثل سفن والتر,في تقديم مسرحية أصيلة وخالدة في الذاكرة, والتحرر من التغلغل التقليدي ,استطاع المخرج وبذكاء توظيف المكان لعرضه المسرحي، فوجود السلالم والمقاعد الخاصة تم توظيفها بشكل فني، وتعامل الممثل مع ادواته والمكان بشكل ذكي، عمل المخرج بشكل مايسترو في التفاهم مع ممثليه, لغرض تنفيذ اهدافه وتجسيد افكاره, لما يمتلك من القدرة والشجاعة وهذه خصوصية وشخصية المخرج لمنح الثقة للآخرين. يتصف المخرج في مسرحية انتيغون بقدرة ثقافية وفكرية ملائمة لعمله، وايمانه بالفكر الانساني, ساعد المخرج علي تحديد طريقة التفكير والرؤية علي مساحة المكان, وعلي مستوي العرض المسرحي. الجمهور جالس بطريقة الحلقة, وكريون يصول ويجول حوله وعلي خشبة المسرح ,خاصة في مشهد محاكمة انتيغون. بنية العرض المسرحي والمكان تحول الي قاعة محاكمة انتيغون مع الجمهور لكي يبرز جبروت ودكتاتورية كريون. عرف المخرج وهو يحمل المفتاح السحري ليفتح به مغاليق اسرار اسلوبه وطريقة تفكيره, ايجاد اللغة المشتركة مع الممثل، خصوصا انه يتعامل مع نجوم كبار امثال الممثل الكبير سفن والتر, وكيف لا لانه صاحب المواقف التقدمية, والمعروف علي مستوي الدول الاسكندنافية في دفاعه عن حقوق الشعب المضطهد, يقف في خندق مناهضة العنصرية، ومعاداة فكرة الحرب. وهو يتغني في كل المناسبات بقصائد سميح القاسم، ومحمود درويش والمترجمة الي اللغة السويدية. ممثل كبير يتواجد في كل عرض مسرحي بروحه وعقله وهو يدير الطقس الاحتفالي، محاولا انقاذ المتلقي من حالة الايهام المسرحي، ويؤكد ان المسرح مؤسسة تخدم الجماهير ودرس للوعي . انه صاحب صيت وموهوب، ويعد سفن والتر واحدا من اهم المسرحيين الواعين بدوره ورسالته الاخلاقية , والمسرح بالنسبة له ذلك المكان السحري الذي يلتقي فيه الناس من مختلف المشارب والاتجاهات، يتبادلون فيه رؤيتهم للعالم ولما يحصل حولهم. مسرحية انتيغون تحمل كل حالات السمو والكمال والوقار, بناء علي شخصية هذه الفتاة ووفائها لاهلها، وهذا السلوك والعظمة في شخصية هذه الفتاة في مواجهة المستبد وبطشه , المشاهد يتعاطف معها ومع انبل مشاعرها والاحتجاج علي سلطه كريون. ان عملية التمثيل بجثث الموتى من الاعداء امر مألوف علي مدى تاريخ الطغاة ولدينا شواهد كثيرة لما يحصل من ذبح يومي وبدم بارد, وكذلك قتل المدنيين والاسرى

الفريق الفني لمسرحية أنتيغون

فرقة مسرح أوبيرون
المخرج: كارل سيلداهي
الممثل سفين والتر:بدور كريون
كايسا ليندهولم: بدور انتيغون
صوفيا وارنجارد:بدور اسمينا
سيسيليا نيلسون: بدور الام
بيتر انكمان :بدور الشاب

ملاحظة مهمة :هكذا تجمعات وعروض مسرحية ،كانت قبل إغلاق المسارح في السويد بسبب جائحة كورونا

عصمان فارس مخرج وناقد مسرحي السويد