ترجمة حسونة المصباحي

جاك كيرواك(1922-1929) هو أبرز رموز حركة "البيت جينيرايسون" الطلائعية التي لعبت دورا هاما في تجديد الأدب الأمريكي شعرا ونثرا، وكان لها تأثير على أدباء وشعراء في جميع أنحاء العالم.
وكان جاك كيرواك يُلقب نفسه ب"شاعر الجاز" إذ أنه استفاد من موسيقى الجاز في الكتابة، خصوصا في روايته الشهيرة: "على الطريق"
في هذه الرواية كتب يقول: "المجانين، والمهمّشون، والمتمردون، والرافضون للامْتثاليّة، والمنشقون، وكل الذين ينظرون إلى الأشياء بطريقة مُغايرة ومختلفة، ولا يحترمون القواعد، يمكنكم أن تعجبوا بهم، أو ترفضونهم، تُمَجّدونهم أو تُحَقّرون من شأنهم، إلاّ أنكم لا تستطيعون تجاهلهم إذ أنهم يُغيّرون الأشياء، يكتشفون، ويستكشفون، ويتخيلون، ويبتكرون، ويُلْهمون لكي تتقدم الانسانية".
وقد كتب جاك كيرواك هذا النص الذي لم يتم العثور عليه بين أوراقه إلا عام1996، في سنوات الشباب. وقد يكون ذلك عام 1941، أي عندما كان هو في التاسعة عشرة من عمره. ويتميز هذه النص بغنائية شعرية ، وفيه يعبر عن ولادته الثانية عند بلوغه سن السادسة ،أي حين بدا ينتبه إلى العالم من حوله...

ولادتي المجنونة الآفلة
يوم ولدت، كان الثلج يُغَطّي الأرض، والشمس الغاربة تُلَوّنُ النوافذ في الجهة المقابلة بكآبة قديمة حمراء، كما في حلم.
كنت أتقدم باتجاه البيت مع زلاّقَة التزحلق الصغيرة، وكان لي من العمر ستة أعوام. فجأة تجمّدت، ونظرتي ثُبّتَتْ صافية على رصيف "سونترالفيل".
"ماذا حدث" تساءلت وأنا ألاحظ النّفَسَ الفجئي للحظة من الحزن مُحَلّقا فوق قمم السّقوف :"ما هذا الشيء الغريب الذي أراه؟".
هكذا جئت إلى العالم في فبراير1929 ، قبيل العشاء.
كيف لي أن أجد الكلمات لوصف هذه الولادة؟ كانت شيئا غريبا، وهوسا حادّا. ذُرَارة من غروب شتويّ استبدّت بي-ولأول مرة في حياتي الصغيرة صعقني رنين أصوات الأطفال. ورائحة الثلج وقت الغروب، والبُخَارُ الطالع من فمي، في كل نفس مُجَمّد ، وخاصة، ذلك الحزن القديم العابر المُحَلّق بلطف فوق المنازل المُحْمَرّة ل "سونترالفيل".
"وإذن ّ قلت ... "وماذا بعد"...
في تلك السنة، سنة1929 ضربت العالم الأزمة الكبرى، أي النهاية التي لا يمكن تفاديها لمُضَاربات البورصة السريعة، ورجال الأعمال المفلسين الذين ألقوا بأنفسهم في الفراغ من النوافذ.(...)
منذ يوم ولادتي، بدأت أتساءل عن الأشياء كما لم أفعل ذلك من قبل أبدا. عند انهيار البورصة، لم أبالي بالحدث من شدة انشغالي بأسئلتي، وبأفكار جديدة حول مسائل تخصني. كان والدي تاجرا صغيرا لم يتأثر بالأزمة الكبيرة. ومساء يوم انهيار البورصة، رافق والدتي إلى السينما، وأنا وأختي بقينا في الرواق الخلفي المَسْقُوف نغني :
Pierre et Jaques
إلى أن هبط الليل. لم ننقطع عن الغناء، والكلمات الفرنسية كانت ترنّ في ذلك الجزء من "سونترالفيل" –هل تريدون أن أقول لكم؟ أرغب في أن أطير في الفضاء لكي أمسك بالرنّات الأصيلة التي أحدثتها أغنيتنا في ليلة1929 . أتصور أن الكلمات مَبْثُوثة الآن هناك خلف "الأورانوس" لكن كم أنا أرغب في الصعود لكي أسمعها وهي تخترق الفضاء ، مرددة في الظلمات:
Pierre et Jacques
Pierre et Jacques,
Dormez –vous
Dormez –vous ?...
وهكذا..هكذا...
هكذا إذن كنت أمشي على طول الرصيف مع زلاقة التزحلق الصغيرة، ولم أكن قد ولدت بعد، ثم فجأة رأيت كل شيء: النور القديم للشمس الغاربة، والمدافئ تطلق حبال دخانها الداكنة في الشارع، ومقاعد الثلج الوردية، المُحَدّبة بطريقة غريبة، -ثم ولدت. "لماذا؟"... تساءلت... لماذا شبيهة بلماذا اليوم..."سوترالفيل" تَشعّ حمراء هادئة. سمعت كلبا ينبح، وأطفالا ينزلقون على سفح هضبة مُطلقين صرخات رائعة. كان ذلك في شهر فبراير، وعبر الجوار كان اللون اللون الغريب القديم يشيخُ أكثر فأكثر ،وأنا ولدت بين الأنوار المُشعّة، وجئت إلى العالم لكي أكون مثل كل الناس في السراء وفي الضراء، وفي لحظة ابتهاج، سوف أشرع في أن أحيا، -رجلا على الأرض، علاقته مع كل شيء، ومع نفسه، ومع قريبه، ومع المجتمع، وفوق كل هذا مع الكون. ولدت والموسيقى بدأت تستحوذ على كياني، والألوان اتخذت حدة عميقة، ومن شفتيّ تعالت أنغام موسيقية مثل تلك التي نجدها عند جويس(يقصد الكاتب الايرلندي جيمس جويس). نوافذ البيوت تغوص في الأحزان، وكل يوم تزداد حزنا.