* الى "ارنست اميل هرتسفيلد"

عندما نقب "ارنست اميل هرتسفيلد" (1879– 1948) Ernst Herzfeld، المستشرق الالماني في موقع قبة الصليبية، اثناء عمله التنقيبي الهام جدا والرائد والعلمي الذي جرى لاول مرة في موقع سامراء ما بين 1911 – 1913،هو الذي زار سابقاً الموقع مع زميله المستشرق الالماني "فردريك ساره" (1865 -1945) Friedrich Sarre سنة 1905، قام باعداد مخططات للقبة ورسم مخططا مفصلا لها، بابعاد بدت على نحو دقيق، استقاها موقعياً، مع رسم مقطع افتراضي لما كان عليه المبنى قبل انهيار اجزاء كثيرة من جدرانه وقبته. وقد ارتئ بان المبنى الذي يدرسه ما هو الا "ضريح" للخليفة المنتصر المتوفي في سنة 248 هـ. 862 م. استنادا الى ما ذكره "المسعودي"، والى ما افصحت به "ام الخليفة" التى رغبت ان "يظهر" قبر ابنها المغدور. وبالتالي فان "قبة الصليبية" يعد اول نموذج لضريح في العمارة الاسلامية، وهو حدث هام اضافة الى كونه رائدا وغير مسبوق، فانه كثير الاهمية لتأسيسه "نوع" Type من الابنية التى ستكون امثلتها التصميمية المتواجدة في امكنة عديدة بالعالم الاسلامي، (المعتمدة على النموذج السامرائي الرائد)، ستكون، فيما بعد، من كنوز العمارة الاسلامية.

في اللحظة التى كُلف معمار "القبة الصليبية" (الذي ظل اسمه، مع الاسف، غير معروف) بمهمة تصميم "الضريح"، كان يعرف جيداً المنزلة الهامة للشخص المتوفي بكونه اميراً للمؤمنين وخليفة عباسي، مثلما كان يعي خصوصية المكان الزاخر بالعديد من النماذج المعمارية الفاخرة واحيانا غير المسبوقة في مواضيعها ومقاييسها الحافل بها مشهد العاصمة العباسية الثانية. ولهذا فقد حرص المعمار مثلما تطلع الجميع بان يكون "صنيعه" التصميمي متساوقا بالاهمية مع قدر أهمية الرجل المدفون ومتماثلا مع خصوصية البراعات التصميمية الغاصة بها بيئة سامراء المبنية! ولئن ادرك لتوه بانه عليه، ايضاً، ان "يستنبط" هيئة جديدة تتلائم مع "ثيمته" التصميمية، التى يعرف تماما ان نماذجها المبنية كانت شحيجة ان لم تكن معدومة اصلا، فانه احس بجدية وخطورة الواجب الملقى عليه. كل ذلك تطلب منه التعاطي بإجتهاد تصميمي استثنائي مع موضوعه، وذهابه باتجاه بلاغة تصميمية جديدة تكون اكثر اختزلاً وتكثيفاً، وقادرة، في الوقت عينه، على إجتراح عمل مملوء بالابعاد الدلالية.

في مثل هذة الحالة، تتقدم الصيغة التشكيلية النابعة من الرؤيا الفكرية للموضوعة التصميمية لتظهر امكاناتها لدى المعمار المجتهد ولتشكل، في النتيجة، لوحة فنية، تستقي مرجعيتها من "تجريد" يمكنه ان يجد حلاً مناسباً للمعضلة التصميمية المشغول بها المعمار. فالتجريد، هنا، كناية عن رمزية باستطاعتها إستحضار التنوع؛ التنوع المنتج للمعاني، المعاني "المنثورة" في الفضاء المحيط، الموحية به تشكيلات هذا التجريد

المرئي! يتعامل المعمار، اذاً، مع عناصر محددة سعيا لبلوغ مراميه العديدة، وهو اذ يصطفيها (يصطفي تلك العناصر) من خزين الذاكرة الجمعية، يدرك تماما بما تشي به من ايحاءات تساعده في اجتراح شكل Form خاص ينطوي على حساسية شديدة الرهافة وعلى درجة قصوى من الاناقة. من هنا نفهم ذلك التوق الشديد لدى المعمار نحو اللجوء الى توظيف "الهندسية الصافية" واستخدام مفردات تصميمية آخرى توحي اشكالها وتلمح الى مضامين مألوفة ومفهومة من قبل الجميع، خالقا من توليفة جمعها معالم الحل التصميمي وواجدا فيها صيغة التكوين الابداعي للمبنى المرتجى.

في عمارة مشهد "القبة الصليبية" تحضر بامتياز تلك الاشكال الهندسية المنتظمة متمثلة في المسقط المثمن المضبوط ومستطيلات اوجهه الثمانية، المحفور في منتصفها مداخل ثمان ذات اقواس مدببة، وطبعا تحضر القبة العلوية التى تسقف وسط المبنى المتشكل مقطعها من قوس مدبب ايضا. جدير بالذكر ان المبنى يخلو بصورة شبه تامة من عناصر تزيينة او زخرفية. وما عدا وجود الطاقات الركنية المنفردة التى تساعد في تحويل تسقيفات الشكل المربع الى محيط القبة العلوية الدائري، ووجود الحنايا التى تحيط من جهتي المداحل الداخلية الاربعة فان جمالية الشكل العام لمبنى "المشهد" تتمظهر اساساً من خلال منظومة التناسب الرشيقة التى اوجدت مقاسات وابعاد عناصر المبنى المختلفة، بالاضافة، طبعاً، الى الاثر "التكتوني" Tectonic الجمالي الذي صنعته نوعية المادة الانشائية الوحيدة وهي الآجر المستخدم في التركيب الانشائي للمبنى. واضح ان معمار المشهد يسعى وراء إختصار مفرداته التصميمية وتحديدها، لجهة توجيه اهتمام المتلقي نحو عناصر هيئة التشكيل المختزلة التى اجترحها، واضعاً مبناه على مرتفع ترابي اوصى بتنفيذه. وقد انجز تصميم اربع مراقي Ramps لمصطبات منحدرة تؤمن الوصول السلس الى قمة التلة الترابية، حيث تنهض هناك كتلة المشهد وتتكشف امام انظار المشاهد، كما تتفتح زهور النبتة المغروسة في تربتها! ولاجل تفادي خلق انطباع بوجود محور اتجاهي صارم، فيما اذا اختار المصمم مرقاة واحدة (او حتى مرقاتين!) تربط مستوى الارض المحيطة بكتلة المشهد، فقد ذهب المعمار نحو حلّ تعددية مصطبات المراقي بجعلها اربع، محققا حرية الوصول المريح الى المبنى من جهاته الاربع. وبهذا الحل التكويني تحاشى المعمار ظهور انطباع المحور الصارم، الذي قد يترتب عن وجوده تداعيات تصميمية غير مرغوبة بضمنها اضعاف قيمة مركزية كتلة المشهد، التى سعى المعمار بكل طاقته الى تكريسها وتثبيتها في الموقع. وقد اثبتت الحفريات الاثارية بوجود فضاءات متتمه اسفل المبنى متسمه تخطيطاتها هي الاخرى على هندسية منتظمة. ووفقا لدائرة الآثار العراقية، التى اوفدت هيئة فنية لتحري وصيانه القبة الصليبية؛ فانها كشفت".. عن جملة مرافق تحيط بالبناء الرئيس وتتصل به وتتألف من غرف مستطيلة الشكل صغيرة نسبيا، ليست مرتفعة الجدران ومعقودة بأقبية نصف اسطوانية. ومعظم هذة الغرف مشيدة بالجص والحصى ويتصل بعضها مع البعض الآخر. وتتألف بصورة اساسية من اربع مجاميع متناظرة بشكل صليبي ايضاً ويتوسط كل من هذة الوحدات مرفق ذو تكوين معين.." (د. عيسى سلمان وآخرون، العمارات العربية الاسلامية في العراق، الجزء الثاني، بغداد 1982، ص 70 -71). وتشي مقاسات تلك المرافق الضخمة واعمال التنفيذ المعقدة فيها، بنوعية الخبرة التركيبية المتقنة المكتسبة التى انطوىت عليها خصوصية الممارسة البنائية والانشائية، وقتذاك، في سامراء العباسية.

تبرز مفردة <القبة> بصورة جليّة في التكوين المبتدع الخاص بعمارة مشهد "القبة الصليبية". فخطها الصاعد، الراسم لمنحناها الهندسي، يظل يرتفع وصولا الى قمتها ولحين هبوطه، بغتة، مرة اخرى خالقا ذلك

الشكل الكروي المميز. انها العنصرالمكافئ للشكل الهندسي المثمن الواقع تحتها. وبصفتها التعارضية تلك فانها اكتسبت حضورا لافتا ضمن عناصر التكوين الشكلي –الفضائي للمبنى المجترح. يستحضر وجود القبة، هنا، نوعا من الاحتفاء بالذاكرة الجمعية لدلالتها التى لطالما كانت صنواً للتعبير عن رمزية "السماء" الرحيمة في حدبها و"حنانيتها". ولهذا فان دلالة حضور القبة الناصع في صيغة التشكيل الهيئاتي للمبنى، يزداد ثراءاً ويغتني بقيمه معنوية مضافة، توحي بالرجاء في طلب المغفرة والترحم على الشخص "المدفون" تحتها والى مزيد من ذلك الحدب والحنيّـة! وبهذا المغزى الخلاق للقبة، فان معمار "الصليبية" ارسى مفهوما جديدا ومؤثرا لها، لافتا انظارنا عبر ثيمته التصميمية الى قيمة المعنى المبتدع ودلالات استخدامه في مثل هذا "النوع" من المباني.

قد تستدعي رؤية الشكل العام لمشهد "القبة الصليبية" وتعيد الى الاذهان هيئة مبنى "قبة الصخرة" (688 -692 م.) المشيد في القدس بفلسطين ابان عهد الخليفة الاموي "عبد الملك بن مروان" الذي حكم ما بين (685 -705 م.). فمفردات تكوين "الصخرة" المتمثلة في المخطط المثمن والكتلة المثمنة التى تنهض من رسم اسقاط ذلك المخطط، اضافة الى وجود القبة المركزية التى تغطي وسط الحيز الداخلي، وكذلك هيئة الرواق المثمن وغيرها من العناصر الاخرى، يستعيرها، بفطنة، معمار القبة الصليبية في سامراء، ويجعل منها بمثابة مصادر بالغة الاهمية لمقاربته التصميمية. وهو اذ ينزع ليكون "نصه" الابداعي السامرائي متشربا بافكار وحلول "قبة الصخرة" اياها، ومشبعا بهما، فما هذا الا محاولة ذكية منه لاظهار نوع من تواصل مع الجهد المعماري الاسلامي المتحقق والتشديد على استمراريته. وعمله هذا يمكن ارجاعه الى قراءة "تناصية" Intertextuality مجتهدة مع مبنى "قبة الصخرة"، بل ويمكن اعتبار نصه المعماري الابداعي بمنزلة <نص جديد> "تتقاطع داخله نصوص مأخوذة من اعمال نصية اخرى>، وفقا لتعبير الناقدة "جوليا كريستينا" <الناحتة> لمصطلح "التناص" وتقديمة كمفهوم نقدي خاص يعمل ضمن آليات النقد الحداثي. يتوخى "التناص"، هنا، اذاً دراسة أثر معماري معين (وهي هنا قبة الصخرة) لجعل تلك الدراسة تنشئ خطابا يومئ الى ممارسة ابداعية، تكون فيها عناصر ذلك الاثر: المميز معماريا والاستثنائي في فكرته التصميمية، مجالا لتأويل جديد وقراءة ثانية من قبل مبدع آخر (وهو هنا معمار القبة الصليبية). من هنا يمكن تسويغ ذلك "القرب" الشكلي، وتعليل وجوده الذي بدا جلياً بين المبنييّن. فنتائج المقاربة "التناصية" تبدو هنا واضحة، كما انها تدلل على اعجاب معمارنا السامرائي بالمنتج المقدسي الحصيف، وإظهار توقه بوجوب القيام بـ "قراءة ثانية" لما أُبتـّدع سابقاً!

في مقاربته التصميمية لانجاز عمارة "القبة الصليبية" يدرك المعمار السامرائي جيداً، ان انفتاحه على مزيد من الحراك المعرفي والتعلم من ما انجز سابقاً، سيؤدي الى اثراء حلوله التكوينية ويضيف لها قيماً جمالية جديدة. كما انه يعي تماما بان نتائج فعالية القراءات "التناصية" ستضفي على تلك الحلول نوعا من التجديد وتمنحها مزيدا من الحرفية والاتقان، ما سيكسب تصميمه قوة حضوّرية بالغة قادرة على منح لغة عمارته فرادتها الاستثنائية. في عمارة مشهد "القبة الصليبية" تتبدى، ايضاً، لحظة التعارض الجمالي Aesthetic في اعلى حدة تمثلاتها بين العناصر المشكلة للتكوين. كما يظهر قرار توقيع المبنى على تلة عالية محاطة بمراقٍ لمصطبات منحدرة الى زيادة حضور ذلك المبنى في المشهد المحيط، ومن ثم جعل مرأه يبدو ظاهرا كليا لزواره ومشاهديه الكثر. وباستخدام مثل هذا الاسلوب التوقيعي، فان المعمار ينزع الى اعادة

تأثيث المكان بعمل معماري يحمل مزيجاُ من الخبرة والبراعة، مترعاً بتصورات الذاكرة الجمعية وحتى حدوسها التى استطاع المعمار ان يستحضرها باحتهاد وافر عبر هيئة مبناه الحافلة بالدلالات والمعاني.

يولي مصمم "الصليبية" اهتماماً لافتاً للحركة، ويشتغل، ايضاً، على تعدد انماطها الرابطة بين عناصر مبناه، وكذلك بين "الداخل" و"الخارج". فالمعمار يطمح ان يكون زائر المبنى حراً في حركته ورسم مساراتها بنفسه. انه يمنحه كامل الخيارات في انتقاء امكنه وقوفه، واتجاهات سير انتقالاته، موفراً له فتحات ابواب عديدة وقعها بحوائطه السميكة ومنتقياً صيغ اتصال بسيطة وواضحة بين اقسام المبنى. كما يجعل فضاء الداخل "المحصور" منسابا نحو الخارج الطليق، مثلما يعمل على اتساع انتشار استمرارية الخارج الفسيح نحو دواخل الحيز المسقوف؛ زيادة في الاحساس بترابط الداحل مع الخارج. بمعنى آخر يسعى المعمار وراء إختيار حلول تصميمية لمبناه بحيث يؤدي "الفضاء" المبتدع فيها، دورا اساسيا في عمل تلك الحلول، إضافة الى جعله بمثابة أداة في ايجاد حل معبر وحاذق لاشكالية الداخل والخارج في "مبنى" مترع موضوعه برمزية مفاهيم: معنى نطاق "الخارج"، ودلاله حدود "الداخل"!

وإجمالاً، فنحن ازاء حدث تصميمي، ينزع لتأسيس "نوع" من المباني، سيكون وجوده غاية في الاهمية لجهة تشكُـّل تنويعات العمارة الاسلامية وإثراء نماذجها التصميمية المعبرة. فما اجترحه المعمار السامرائي من "بـُنية" تصميمية رائدة، سيحمل المعنى والدلالة والمغزى، فضلاً على مرام الاستعارة المصاغ بجمال التكوين والاسلوب. انه نوع من اجتهاد معماري تمنحنا رؤياه، شهادة لحظة ارهاص ولادة الجديد، والرائد، والنموذج البدئي. انه في الاخير، بمثابة دفقة الابداع الاولى المفرزة ببراعة اللغة التصميمية وحذق الصنعة! وهنا، في اعتقادي، تكمن أهمية عمارة "قبة الصليبية" التى اراها مزدوجة: مرة، لانها مهمة لذاتها، كحدث تصميمي مرموق، ومرة آخرى، لناحية ارتقاء نموذجها التصميمي، ليكون لاحقا مصدرا مؤثراً ومرجعية معمارية للكثير من "الشواهد" المبنية في منتج العمارة الاسلامية، التى لطالما قيًمًت من قبل كثيرين بكونها من روائع العمارة العالمية! لنتذكر، في هذا الصدد، مثالين (هما مشهد "اسماعيل الساماني" <892 -079 م.> في بخارى، و ضريح "شاه فيروز" <النصف الثاني من القرن الرابع عشر>، في سيرجان /ايران)، من بين امثلة عديدة لحالات تأثير المبنى السامرائي ونفوذه القوي في صياغة الحلول التصميمية لتلك المباني المبهرة المنتشرة في انحاء مختلفة من العالم الاسلامي

معمار وأكاديمي

* تنويه: ثمة سجال يجري في الاوساط العلمية المهتمة في عمارة سامراء وحفرياتها، حول "وظيفة" <قبة الصليبية>، وعن "نوعية" نموذجها التصميمي. وسنتناول هذة الاشكالية في دراسة لاحقة ستكون بعنوان "عمارة قبة الصليبية: جدل النشأة .. والوظيفة".

الصور:

1- قبة الصليبية (863 م.)، سامراء، الوضع الحالي.

2- قبة الصليبية (863 م.)، سامراء، منظور عام "تخيلي".

3- قبة الصليبية (863 م.)، سامراء، مقطع ومسقط (قبل الترميم) "عن كريسويل"

4- قبة الصخرة (688 -692 م.)، القدس، منظر عام.

5- قبة الصخرة (688 -692 م.)، مقطع ومسقط ارضي.

6- مشهد اسماعيل الساماني (892 -907 م.)، بخارى <بلاد ما وراء النهر>، منظر عام.

7- ضريح "شاه فيروز" (النصف الثاني من القرن الرابع عشر)، سيرجان/ مقاطعة "كرمان" <ايران>، منظر عام.