يُعتبر وسواس المطاردة شكلاً من أشكال الوسواس القهريّ. ويبدو على شكلِ إحساسٍ دائمٍ بالخوف من نفاد الوقت، ومحاولة الإسراع في إنجازِ أيِّ عملٍ قبل فوات الأوان! بالإضافة إلى شعور دائم بالإرباك، والمُلاحقة من خطرٍ مجهول.
يختلف وسواس المطاردة (النفسيّ) عن "فُصام المطاردة" (البارانويديّ)، والذي يُظهِر صاحبه سلوكاً طبيعيَّاً، يتستَّر به عن شعوره الدائم، بأن ثمَّة جهةً ما تُلاحقه، أو أشخاصاً يطاردونه! كما أن الوسواس الأول أقلّ خطراً من نسخته الثانية (البارانويديَّة).
يبدو الشخص الذي يُعاني وسواس المطاردة، مُتسرِّعاً ولجوجاً في طلباته، يُريد إنهاء أي عمل في لحظته! فعلى سبيل المثال، عندما يتناول طعامه أمامك، تشعر وكأنه في سباقٍ محمومٍ مع عددٍ من الأشخاص "الوهميّين"، الذين يزاحمونه على نفس الطبق!
هذا السلوك المُتعجِّل والممزوج بالقلق، يرافقه في كلّ عملٍ يقوم به؛ عندما يدرس، أو يشاهد التلفاز، أو يقود سيارته، أو يرتدي ثيابه... وحتى عندما يكون في سهرةٍ مع أصدقائه، أو في حفلةٍ ما، فإنه يغادرها في منتصفها! فتشعر وكأنه "السندريلّا" في إحدى قصص الخيال، وقد دقَّت الساعة مُعلنةً انتصاف الليل!
وباختصارٍ شديدٍ، فإنَّ حياته أو يومه هما أقربُ إلى سباقٍ عبثيٍّ مع عقارب الساعة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يتشكَّل هذا النوع من السلوك؟ وما الداعي إليه؟ وما هي الآليَّة التي تُبقيه على قيد الحياة، إن صح التعبير؟
وتفادياً للإطالة في الإجابة نقول بأنَّ السبب هو رغبةٌ مقموعةٌ، اعتادت الأنا على مقاومتها بالطريقة الخاطئة، فأصلحت الخطأ بخطأ أكبر! فعندما تتحرَّر رغبة لا أخلاقيَّة (جنسيَّة أو عدائيَّة) وتلج إلى مستوى ما تحت الشعور، تغدو بذلك رغبة نصف مُدرَكة. ويحاول الشعور (الأنا) إيقافها ما أمكنه ذلك، من خلال سلوك يشبه الطقس. هذا السلوك يحمي المريض من الشعور بالذنب آنيَّاً، لكنه يجبرهُ على تكراره كلما تعرَّض للموقف ذاته. وذلك لكون الشخص لا يتعامل مع الرغبة بشكلٍ مباشر، بل مع "شبحها"! وهذا هو السبب الأساسيّ في استمراريته.
فيصبح السلوك العُصابيّ بذلك سلوكاً اعتياديَّاً، تلجأ إليه الأنا كلَّما تعرضت لهجوم العنصر المكبوت. ولا يهمّها إذا جاء هذا الطقس، أو هذا السلوك، على هيئةِ ترتيبٍ للأشياء، أو في الاغتسال المتكرّر، أو بالسلوك المُرافق للشعور بالمُلاحقة... فالأهم هو أنها تُحاول استعادة التوازن الذي تعرَّض للاختلال.
وبذلك يكون طقسُ أو عُصابُ المُطاردة و"القفز فوق الفعل المُضارِع" (وهو تعبيرٌ استللتُه من جملة بيير داكو "القفز فوق الحاضر" التي استعملَها في سياق آخر لوصف مرض مختلف عمَّا أتناوله في هذا المقال) صيرورةً وامتداداً للرغبة المقموعة؛ الرغبة التي يجري العُصابيّ طوال الوقت -من خلال سلوكه- هرباً منها!!
ولمزيدٍ من التوضيح فالمقصود بالطقس هنا سلوك غير عقلانيّ قائمٌ على كبتٍ لدوافع غير عقلانيَّة، يهدف إلى اتّقاء خطر الدافع المكبوت. وأيّ هفوة قد تحصل أثناء تنفيذه تكون مصحوبةً بقلقٍ وخوفٍ شديدَيْن، وذلك بسبب تهديد الدافع بغزو الأنا.
لذلك لا يكون الحلُّ في تنبيه الشخص إلى أنَّ سلوكه هذا خاطئٌ ومثيرٌ للانتباه، والطلب منه الإقلاع عنه ببساطة! فهذا الطلب عبثيّ في حالةٍ كهذه، لأنه لن يفعل ذلك طالما لم يجد بديلاً يُحقّق توازنه النفسيّ من خلاله. بل يكون الحلّ في غرفة المُعالج النفسيّ، وفي مساعدة المريض على جعل "اللاشعوريّ في ذهنه شعوريَّاً"، وذلك بجعل المريض يتقبَّل رغباته المطمورة في قعر ذاته، أيَّاً كانت هذه الرغبات، وأن يعتبرها جزءاً من ذاته، ومن ثم العمل على تعويمها رويداً رويداً كيّ تلج الشعور ويتمّ إخراجها بشكل يقبله المجتمع، فتكفّ عندئذٍ عن الضغط على السلوك، حتى لا تُضطر الأنا إلى محاولة إسكاتها بالطريقة الأسوأ التي لن تكون أكثر من اختراعِ عُصابٍ جديدٍ.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.