ترددت كثيرًا لأكتب هذه الحكاية، لم تسعفني ذاكرة الكلمات، كل ما نتبناه من أفكار وندافع عنها باستماته تتكسر على صخرة الواقع بعنف، تتطاير شظاياها لتجرحنا، يسيل دمنا بوهج ساخن، يتدفق الألم ليوقظنا من غفلة الأحلام، يذكرنا بأننا كاذبون، وأول ضحية لكذبنا .. نحن
صفعتني كلمات كتبتها صديقتي على صورة أحد الشباب ذوي الوسامة الصعب تجاهلها، منتهى علمي أنه يعمل معها، قرأتها مرة تلو المرة لأتأكد من عبارات الوله والحب والغزل من صديقتي المتحفظة جدًا، وذات المظهر والخلق الذي لا يختلف عليه إثنان. دققت أكثر ورحت أقلب في صورهما إلى أن علمت بخبر زواجهما، وبإعلانه لحبه له على الملأ منذ عامين تقريبًا، هي جديرة بذلك الحب وأكثر منه، بل تستحق كل الحب الأبيض الذي ولد مع بداية الخلق.
تذكرت حديث دار بيننا يتزامن مع إعلان هذا الشاب الوسيم، حديث على الورق، أرسلت إلى رسالة، بينما لم استطع الرد سوى ببضع كلمات تائهة غير مرتبة. للوهلة الأولى بعد قراءة رسالتها، ألقيتها بعيدًا، وكأنني أرفضها بكل ما أوتيت من قوة، بل أشعر بالنفور الشديد، نظرت إلى الورقة متكورة على نفسها في أرضية الغرفة، وتخيلت صديقتي مكانها، ترتدي الأبيض دون أن تكون سعيدة، منبوذة من الجميع، ورقة لا يوجد بها سوى خطوط لا يفهمها إلا من تذوق ألمها. خطوت بتردد، والتقطت الرسالة، قرأتها مرة أخرى بهدوء، قرأتها لا بعيني ولا بقلبي، بل بإحساس امرأة وصل إلى ذروته من التعقيد والألم ..
لم أصدق هذا الواقع الذي لطالما كنت أرفضه، بل وأنفر منه أشد النفور، وعندما أفكر بعقل أندهش لوجوده من الأساس. كيف يجذبني ذلك الذي كنت ألهو معه وهو طفل، والآن يناديني ب "طنط"، متى كبر، وصار رجلًا كاملًا، بصوته وصورته، ومنذ متى تحولت من "طنط"، إلى امرأة تملؤها الرغبة؟!!
فارق العمر بيننا كبير بما يكفي لأنه يراه الجميع، وفي الحقيقة يتعامل معي كأنه مسئول عني، يمنحني كل الاهتمام والاحتواء، بكل شهامة ورجولة. في البداية كنت أحسبه يتعامل معي كما يتعامل مع والدته، وبخاصة وأن الفرق بيني وبينها ليس بكثير سبع سنوات فقط، لا أدري متى تبدلت مشاعر الأمومة إلى إعجاب، أو تعلق، ربما اهتمامه بتلك المرأة التي التهمت الوحدة سنوات عمرها، ربما أيقظ بداخلي مشاعر الأنثى التي كنت نسيتها من زمن بعيد، لا أدري. ما أعرفه حقًا أن بداخلي امرأة لم تخرج يومًا للنور، اختبأت كثيرًا خلف صوت العقل الذي داوم على سجنها، وأحكم عليها بقضبان التقاليد، وعدوها الوقت.
كل محاولاتي لوأدها بائت بالفشل، فتظهر في كل كلمة، ابتسامة، نظرة، رغبة في أنها تفرد شعرها على ضي القمر، أو شاطئ بحر، تتجاهل فرق العمر، تنسى السجن ولو للحظة. صرت أعبر عن إعجابي بالجميع، وأقول للحلو "يا حلو في عيونه"، ما دام السجن صار أبدي. لكن العيون تراني من خلف القضبان، تلمح خصلات شعري الثائرة، بقايا أحمر الشفاه، فتعاملني بما أخفيته وسجنته، ليس بما أتظاهر به. وما بين العمر والرغبة، والتقاليد، وما يصح وما لا يجب أن يصير، ظللت أقول للحلو أنه حلو، وما أن يقترب، يكتشف ويتأكد بنفسه، أن الأمر محال التحقيق.
"محال يا صديقتي" .. كانت هذه أخر جملة بيننا وقتها، إلى أن رأيت صورتها بجانب ذلك الشاب الذي جمعتني بها وبه لقاءات العمل مررًا، ولم أشعر بأنه من سيطلق سراح المرأة الكامنة بداخلها.
وأخشى عليها من نوعٍ أخر من السجن ...