ـ د. مسلم الطعّان

"مسافة إستهلالية"
"شرفة الصدى والاشتغال الجماليّ في مسرح القصيدة"
كلّ نصّ شعري هو بمثابة شرفة جماليّة يطلّ من خلالها الشاعر على جمهوره المتخيّل، وحتى على مفردات نصّه التي يأخذها من الحياة ويحيلها إلى كائنات جماليَّة تردّد صداه، أوّلاً كخالق ومبدع لوجودها الورقي، وهي بدورها تترجم ماهيّة وطبيعة دورها الدرامي من فوق خشبة مسرح القصيدة. يقول الشاعر العربي الكبير أدونيس: "إنّ طريقة إستخدام اللغة مقياس أساسي مباشر في التمييز بين الشعر والنثر، فحيث نحيد باللغة عن طريقتها العادية في التعبير والدلالة ونضيف إلى طاقتها خصائص الإثارة والمفاجأة والدهشة يكون ما نكتبه شعراً" ـ (المصدر: مقدمة للشعر العربي ـ دار العودة - بيروت ـ طبعة 3 / ص 112 ـ 113). وهنا يطلّ علينا الشاعر أدونيس من شرفته النقديّة ليوضح لنا المسافة الفاصلة ما بين النثر والشعر، تلك المسافة التي خبر مجسّاتها الجماليّة الشاعر اللبناني - الأسترالي شوقي مسلماني، الذي يسبغ فلسفيَّاً وجماليَّاً على إحدى مجاميعه الشعرية تسمية (لكلّ مسافة سكانٌ أصليّون)، وعندما نلج إحدى مسافات مشغله الجماليّ عبر نصّه الموسوم (شرفة الصدى) ونشرته جريدة إيلاف ـ 23 آب 2018، نجد أنفسنا نحفر في مسافة قصيدته بحثاً عن سكّانها الأصليين، أو بمعنى أدق بحثاً عن شخصيّاتها الأصليّة، التي تؤسّس مسرحاً جماليّاً عبر تحاورها مع بعضها البعض، وتبادلها المسافاتيّ للشحنات الصوريّة والإيقاعيّة.
كلّ مفردة من نصوص شوقي مسلماني هي مسافة تمثّل جغرافيّة جماليّة تدعو القارئ أن يجهّز عدّته الجماليّة ويشترك في مهرجانها الدرامي الماراثوني، والذي من خلاله تتمكّن من عرض بضاعتها الجماليّة من على خشبة مسرح القصيدة. إن قصيدة مسلماني هي قصيدة مسافاتيّة بإمتياز، لأن لغتها الدراميّة "تستثمر السرد والحكاية من دون أن تتخلّى عن حساسيَّة جملتها الشعريّة وتوتّرها"، كما يصفها الكاتب حسين بن حمزه (صحيفة الأخبار ـ الجمعة 15 تموز 2011). وممّا يؤكّد وجهة نظرنا في مسافاتيّة قصيدة مسلماني هو قول صديقه الشاعر اللبناني - الأسترالي أيضاً وديع سعادة الذي يعتبر تلك القصيدة "منفتحة على آفاق عديدة، وكلّ قارئ يختار أفقه"، بمعنى أن القصيدة المسلمانيَّة منفتحة على مسافات عديدة، الأمر الذي يستدعي قارئاً مسافاتيّاً يحفر في طبقات تربتها، لكي يكشف مكنونات مسافتها الدرامية Dramatic Distance
إنّ القارئ الجماليّ الباحث عن مسافات جديدة وطازجة يجد بأنَّ مسرح قصيدة الشاعر شوقي مسلماني يكشف لجمهور القرّاء عن "رؤية ناضجة ومعجم سخي يوفّران سيولة لغوية وخيارات إسلوبية متنوعة"، كما يراها حسين بن حمزه (المصدر السابق)، وهذا ما نصبو إلى الكشف عنه عندما نرافق الشاعر في رحلته الشعريّة المسافاتيّة للبحث في مسرح قصيدته "شرفة الصدى".

"مسافة النصّ"
ـ إصعدْ \ ينزل \ ـ إنهضْ \ يغفو \ بعد أن يتثاءب طويلاً \\ ومن البُعدِ مصالحة \ ومن الإقترابِ مصالحة أقلّ \\ تحسّنَ خطُّه \ فقط بعدما بدأت ترتجف يدُه \\ إذا ذكرتَ ظالماً \ دع صوتك يسمعه كلُّ آثم \ أو ظالم أو متسلّط \\ وإذا قلتَ ويلكم إنّما \ ليرتعدوا \\ وهي كذبة \ من شروطها \ ذاتهم \ يصدّقونها \ يروّجون أنّهم خاصّة الله \\ شرفةٌ على الصدى \ سماء على بحر، أحمر على قلب \\ وأبعد وأبعاد \ المستحيلُ مستحيل \\ أساور، خواتم \ عقود، نجوم.. تشعّ \\ وأن تبقى حيّاً.. لا شيء هيّناً \\ طريقُه فجوات \ في مدٍّ وجزر \ وأحدٌ يتربّص بأحدٍ أو لأحدٍ \ الطريقُ هي أولئك الجرحى \\ كان في شارع الدمار \ وهو لا يزال.. فقط كان \ كاتمُ الصوت على الأرض \ مع الزجاجات الفارغة \\ وأخيراً أرقّ الشرفات \ التي هي أطلّت يوماً منها".
مسافة المناسبة يرويها الشاعر شوقي بعظمة لسانه لجمهور مسرح قصيدته وبلغة مقتضبة كعادته حين يتحدّث عن حكاية كتابته للنصّ قائلاً :"كتبتُ النصّ أعلاه أواخر شباط الفائت، أو أوائل آذار 2018، خلال وجودي الأخير في لبنان. وشئت يومها أن أنشره فلم أفعل، والسبب أنّي خشيت المتفائلين، كيف أنت في لبنان.. فابتسم، وتتألّم؟!".

"مسافة عتبة النصّ"
إنَّ مسافة عتبة العنوان "شرفةُ الصدى" تنفتح على مسافات الشِعرية الجماليّة. ثمَّة طريق صاعدٌ ونازلٌ من تلك الشرفة الشعريّة التي يرصد منها الشاعرُ جمال وقبح العالم في الوقت ذاته، يجمعُ كلّ تلك الخيوط المسافاتية المتناثرة، فالشاعر بنصّهِ الاستثنائي هذا يجعلنا نبحث معه، وفي قيعان ذواتنا، عن شرفاتِ الصدى الغائبة، والتي يمكن العثور على صوت لها أو الإمساك، على أقلّ تقدير، بالخيوط الدراميّة لمسافات النصّ المتصادمة.

"المسافة الأولى"
"المشهد الأوّل: الشرفةُ خشبةُ مسرحٍ جماليّ"
بوعي أولا وعي يؤسّس الشاعر مسرحه الجماليَّ في قصيدته ونلمس علامات ذلك منذ أن تطأ عيوننا الأرضيّة المسافاتيّة لعتبة العنوان، حيث تكون الشرفة خشبة مسرح للصدى، وأيُّ صدى؟. ثمَّةَ حوارٌ دراميٌّ جماليٌّ يستهِّلُ بهِ الشاعرُ نَصَّهُ قائلاً: "ـ إصعدْ \ ينزل \ ـ إنهضْ \ يغفو \ بعد أن يتثاءب طويلاً".
في هذا النصّ، وفي جميع أعمالهِ الشعرية، يشتغل شوقي مسلماني على ثيمة التضّاد اللغوي بإسلوبٍ جماليّ مسافاتيّ، حيث أنّ مسافة التضّاد لديه بكلِّ محمولاتِها الفلسفيّة والجماليّة تبدو جليّةً للقارئ العادي والقارئ الرائي. والشخوص التي تؤدّي أدوارها على خشبة المسرح هنا لتعكس مراياها الجماليّة: مسافاتيّة (التضّاد) هي أفعال بصيغة الأمر (اصعدْ، انهضْ)، وأفعالٌ بصيغة المضارع (ينزلُ، يغفو، يتثاءبَ)، وتلك الأفعال تتحّول من علامات لغوية Linguistic Signs إلى شخصيّات دراميّة تؤدّي أدوارَها المسافاتيّة التي أنيطت بها من قبل شاعر مبدع وخالق وراوي ومخرج النصّ في عين الوقت. فالشاعرُ يستهلّ تلك المسافة بشخصيّة فعل الأمر (اصعَدْ)، وثيمة الصعود تتمّثلُ للمتلّقين، أو لجمهور مسرح القصيدة منذ وقوع العين على الشرفة، والمسافة المكانيّة للشرفة تخبرنا بأنّها تكون دائما في موقع عال، ولمن يريد الوصول إلى هناك لا بدّ له بأن يقوم بفعلِ الصعود.
إن مسرح الحياة يتأسّس على المتناقضات، والشاعر هنا يرصد اليومي ويرى المستقبل من خلال مجسّاتهِ الشعرية. إن الشخصيّات التي تنتج وتقوم بأداء الفعل الدراميّ للنصّ، في مسافة المشهد المسافاتيّ الأوّل، هي الشخص الأوّل، وهو المتكلّم - الرّاوي، والشخص الثاني تمثّله أنا - الشاعر، والشخص الثالث هو مَن تُوكلُ إليه مهمّة العمل بالضّد المسافاتيّ. عندما يوجّه له الأمر بالصعود (اصعَدْ) يقوم بأداء فعل النزول (ينزلُ)، وعندما يقالُ له (انهضْ/ يغفو/ بعد أن يتثاءبَ طويلاً)، حيث يبدو أنّه مجهدٌ للغاية من رحلة البحث المسافاتيّ المضني عن "شرفةِ الصدى".

"المسافة الثانية"
"المشهد الثاني: ثنائيّةُ البعد والقرب"
لم تزل رحلة البحث عن "شرفة الصدى" متواصلة. وهنا تصوِّرُ أنا - الشاعر أو ربّما ذات الفيلسوف ما يجري من صراع أو تصّادم دراميّ Dramatic Clashes ما بين شخصيّات الأضداد، حتى وإن هبّت رائحة لحقولِ ورود الصوفيّة في حدائق اللغة الشعريّة، حيث يقولُ الشاعرُ: "ومن البُعدِ مصالحة \ ومن الإقترابِ مصالحة أقلّ". إنَّ ثيمةَ التصادم، أو التضّاد المسافاتيّ، لم تزلْ مهيمنة على المشهد اللغوي الجماليّ للنصّ، وهنا تبرز للعيان شخصيتان جديدتان، وكأنّ كلّ واحدة منهما تتجلببُ بجلباب الصوفيّة. وهنا يمكن القول بأنّ ثمّةَ تجسيد دراميّ لفعل رحلة البحث الجماليّ المتواصلة. ثمَّةَ خيط مسافاتيّ، أو قاسم جماليّ، مشترك، في لعبة التضّاد تلك ما بين (البعد والقرب)، يظهر فكرة المصالحة، وربما يتساءل جمهور المتلّقين في مسرح القصيدة: أيّةُ مصالحةٍ يرمي إليها الشاعرُ؟، مصالحة الشاعر مع الأنا - الذات، أم الأنا مع الواقع - الآخر؟!، إن كلمة (مصالحة) ذاتها تنفتح مسافاتيّاً على محمولاتٍ جماليّةٍ، فالواقع اليوميّ للذات العربيّة هو واقع مأزوم، وذات الشاعر هنا تلعب دورها الدراميّ كمرآة جماليّة تعكس مسافاتيّة الواقع الذي تعيشه الأمّة العربيّة أو الوطن الغارق بدماء مسرحيّة الاقتتال الواقعي في معارك الأخوة – الأعداء، والحروب الداخليّة التي أشعل أوارها أعداء الأمّة، وبذلك ندرك بأن الشاعر يريد من المتلقّي أن يشترك جماليّاً في لعبة فكّ شيفرة ورموز الاسقاطات الدرامية للواقع الذي يقترب من ويبتعد عن ضفاف نهر المصالح.

"المسافة الثالثة"
"المشهد الثالث: الذاكرة الجماليّة واليد كشخصيّةٍ دراميّة"
في مسرح القصيدة يؤثّث الشاعر خشبة نصّه بديكور جماليّ، تساهم فيه شخصيّتا الذاكرة واليد ما نسمّيها بالذاكرة الجماليّة للنصّ، تقيم حواراً مع اليد، واليد هي شخصية مهمّة، تلعب دور الحركيّة الجماليّة لتؤدّي دورها الدرامي المكلّفة بأدائه، وفي ذلك المشهد يقدّم لنا الشاعر شخصيّة (الخطّ) الذي (تحسّنَ) أداؤهُ بعد انتهاء دور ارتجاف اليَد، ولنا أن نغوص في قيعان الذاكرة لنعرف خفايا الخطّ، وما هو دوره في دراما "شرفة الصدى"، تحسّنَ خطُّه فقط بعدما بدأت ترتجف يدُه، من هو الشخص الذي (تحسّنَ خطّهُ)؟، ربما يحيلنا الشاعر، عبر تقنيّة المسافاتيّة، إلى ذاكرة طفوليّة في المدرسة، ذاكرته هو كطفل، أو ذاكرتنا نحن جمهور مسرح قصيدته كأطفال، ولكن هنا يبدو بأنّ فكرة التضاد ما زالت هي المسيطرة على مجريات المشهد الدرامي وتفاصيل الحدث الشعري برمّته، فالخط الذي يتحسّن يفترض أن تكون اليد التي اشتغلت في تكوينه قد غادرت مسافة الخوف والارتجاف، بيدَ أن العكس هو ما يحدث هنا، فارتجاف اليد هو الذي جعل الخطّ يتحسّن، بينما في الواقع أن اليد المرتجفة لا تصنع أو تقدّم خطّاً حسنا، ثمَّة إشكاليّة في الأمر، يريد الشاعر أن يلمّح لها ويطلب من المتلقّي أن يحرّك آليات الوعي والإدراك لكي يكشف حقيقة ما وراء الأجمة أو بالأحرى حقيقة ما وراء الشرفة.

"المسافة الرابعة"
"المشهد الرابع: الصوت الدراميّ وكشف فضائحيّة الظلم"
لابدّ للصوت الدراميّ من أن يكون فعلاً جماليَّاً مقاوِماً، وكاشفاً لقبح العالم وفضائحيّة الواقع المرّ مهما بلغَ صنّاعهُ من امتلاك ناصيّة الظلم والتفنّن بجَلدِ ظهور الآخرين بسياطِ الجبروت والطغيان والتسلّط: "إذا ذكرتَ ظالماً \ دع صوتك يسمعه \ كلُّ آثم أو ظالم أو متسلّط \ وإذا قلتَ ويلكم \ إنّما ليرتعدوا"، هنا تأخذنا مسافات النصّ إلى قاع الواقع الإنساني المزري، الظلم متسيّد ومتسلّط على رقاب الناس الفقراء والبسطاء من الذين يعانون ويكابدون شظف العيش، فالشاعر هنا يلتقط مفردات خطابه الثوريّ من لغة الحياة اليوميّة، والشاعر بوصفه ثائراً يصارع ويقاوم الظلم بكافّة أشكاله ومسافاته، يبدو للعيان أن ظاهر النصّ موشىً بمسافاتٍ دينيّة وعظيّة، لكن مهمّة الشاعر ليست وعظيّة، بل هي مهمّة ثوريّة إصلاحيّة، الشاعر يثور من أجل إصلاح الخراب الاجتماعي والرّوحي الذي يساهم الوعّاظُ في تكوينه، الشاعرُ ثائر إصلاحيّ شأنه شأن المصلحين الكبار الذين ثاروا على واقع مجتمعاتهم من أجل تغييرها.

"المسافة الخامسة"
"المشهد الخامس: الكذّابون يلبسونَ أقنعة الصدق"
وهذا بحدّ ذاته بؤرة أو نقطة ضوء مسرحيّة يعرضها الشاعر – المؤلّف – المخرج ـ من فوق خشبة مسرح قصيدته وكأنّه للوهلة الأولى يعرض علينا مشهداً لدراما وعظيّة، بيدَ أن جعبة الشاعر الجماليّ ليست تلك الجعبة التي يمتح منها الواعظ ذخيرته الفجّة. ذخيرة الشاعر ذخيرة جماليّة بامتياز. كلّ مفردة في جعبة الشاعر اللغوية لها دور درامي يترجم طاقتها الجماليّة المؤثّرة بذائقة ووعي وإحساس المتلّقي، فشخصية (كذبة) هنا تترجم لنا الفعل المسرحي الذي يؤدّيه الكذّابون والخرّاصون، وهم يضعون على وجوههم الشاحبة أقنعة الصدق المزيّف: "وهي كذبة \ من شروطها \ ذاتهم يصدّقونها \ يروّجون أنّهم خاصّة الله"، ما هي الكذبة التي من شروطها أن يصّدقوا بها أنفسهم أو ذاتهم؟، وهنا تصوير درامي بارع لمسرحيّة نعيش تفاصيلها اليوميّة وتمرّ من أمام عيوننا مشاهدها من فوق خشبة مسرح الحياة. الشاعر هنا يأخذ دور المنبّه الجماليّ الذي يصرخ في أذان أرواحنا لكي يوقظنا من مخالب سبات الغفلة. الشاعر هنا يلعب دور المصلح الجماليّ لخراب العالم. الشاعر هنا يسقط أقنعة الزيف والدجل والنفاق الأصفر عن وجوه أولئك الذين (يروّجون أنّهم خاصة الله)، إنه يكشف لنا دراما (الكذبة) التي من خلالها يحكمون بإسم الله.. والله الحاكم العادل من حكمهم براء. في هذا المشهد المسافاتيّ يكشف الشاعر المستور عن أولئك المروّجين لأنفسهم بأنهم وحدهم المقرّبون لله وغيرهم مطرودون من جنّته.

"المسافة السادسة"
"المشهد السادس: مسرح القصيدة مابين دراما اللون ودراما الصوت"
يعود الشاعر هنا لكي يرفع ستار مسرحه النَصّي عن شرفة صداه المفقودة التي يريد الوصول إليها بأي ثمن. الشاعر - الفنّان يسعى عبر أدوات الدراما اللونيّة والدراما الصوتيّة لأن يمسك بخيوط شرفته الكونية، لكي يتحكّم بخيوط لعبته المسرحيّة. ثمّةَ إشارات مكانية تحمل دلالات صوتيّة ولونيّة يستنطقها جماليّاً ويحاورها دراميّاً لكي يكشف لنا حقيقة بنيتها الثّيميَّة التي تساهم بإقامة أو تأسيس الفعل الجمالي - الدراميّ بلغةٍ مسافاتيّة يقولُ فيها: "شرفة \ على الصدى \ سماء \ على بحر \ أحمر \ على قلب \ وأبعد وأبعاد \ المستحيلُ مستحيل". ثَمّةَ لعبة صوتية ولونيّة تبني وشائجها الجماليّة المتعالقة مع المكان. اذن هي لعبة دراميّة كونيّة قوامها التشابك المسافاتي بجماليّات المكان. يفتتح الشاعر مشهديته المسرحيّة بعبارة (شرفة على الصدى)، وهنا لم يقل الشاعر: (شرفة الصدى) كما تشي بذلك مسافة العنوان لقصيدته، هناك تبادل مسافاتي في دراما الكلمات الشعريّة، أو فلنقل في الدراما اللغويّة للنصّ، في تلك المسافة نجد ثَمّةَ تغيّر في المشهد اللغوي، حيث يشرك الشاعر في لعبته الدراميّة شخصيّة حروفيَّة تلعب دوراً جماليّأ ومسافاتيّاً من فوق خشبة مسرح القصيدة، شخصيّة حرف الجرّ (على) تقوم بفعلها المسافاتيّ أوّلاً، إذْ تفصل بين مسافتين أوشخصيتين دراميتين هما الشرفة والصدى، وتلعب أيضا دوراً دراميّاً كاشفاً لجماليات المكان المسافاتيّة. ثمّة انزياح جمالي يفضّ التشابك اللغوي بين أغصان اللغة، فالشرفة تغادر جغرافيتها المكانيّة وتصبح شرفة جماليّة تعتلي ظهر الصدى، الشرفة تكون على الصدى، أي فوق الصدى، والسماء على البحر. للوهلة الأولى يبدو الأمر طبيعيّأ لأن السماء مكانها الجغرافي يكون على البحر، بيدَ أن الشاعر يستمرّ بقرع أجراس اللغة ليوقظ في مخيالنا مكنونات اللغة الدراميّة، عندما تكون السماء على البحر تحدث عمليّة تحاور وتصادم درامي لوني تكشف مسافاتها شخصيّة حرف الجرّ (على)، الرابط المسافاتي بين مكانين كونييّن هما السماء والبحر، حتى وإن حصل تناغم لونيّ مابين الإثنين. ومسافة التناغم اللوني تلك تقودنا إلى مسافة تناغم لونيّ آخر حيث يقول الشاعر مسلماني: (أحمر على قلب)، واللون الأحمر هنا هو دلالة على مسافة الدمّ ـ الوقود الجماليّ المحرّك لدراما القلب. بلا شخصيّة (أحمر)، أي الدمّ، لا يستطيع القلب أن يترجم المعنى الجماليّ لوجوده. القلب مضخّة جماليّة ووقودها الدمّ، وبفعل التبادليّة المسافاتيّة Distanciative Mutuality ـ المصطلح لي ـ تقوم تلك المضخّة بضخّ الدمّ في عروقنا، لكي نستمرّ بأداء أدوارنا الجماليّة فوق خشبة مسرح نَصّ الحياة، فالشاعر هنا يكشف لنا مكنونات اللعبة الدراميّة اللونيّة، بمعنى آخر ثمّة حوار لوني يترجم لنا الفعل الجماليّ لهارمونيّة حواريّة Dialogic Harmony ما بين لون السماء ولون البحر، ما بين لون الدمّ كوقود جمالي وما بين القلب كمضخّة جماليّة ذات فعل وجودي وجمالي في الوقت ذاته. إن الهارمونيّة الحواريّة تلك تكشف عن ماهيّة التصادم والتشابك اللغوي الدرامي في الشرفة اللغوية التي تعمل بمثابة منصّة جماليّة لعرض البضاعة الشعريّة الدراميّة، فالشاعر يوظّف لغة درامية صادمة بإلقائه حجيرات جماليّة في بركة وعي المتلّقي، لغة الشاعر لغة تتّخذ من آلية الإقتصاد والتكثيف الشعري أسلوباً جماليَّاً لكي يطلّ من شرفة اللغة صدى الجمال الغائب – الحاضر، ولا يكتفي الشاعر المبدع شوقي مسلماني بأدوات حواريته اللونيّة التي يرسمها لنا لوحة جماليّة بفرشاة فنّان بارع يستنطق البولوفينيّة الباختينيّة باستحضاره لتقانة تعدّد الأصوات اللونيّة، بل يكشف لنا براعته كمهندس جماليّ يؤسّس لهرميّة نصّه الدرامي بصبر وأناة وأناقة. ثمّةَ لعبة هندسيّة تكشف لنا المشهد المسافاتيّ، واللعبة تلك تجسّدها شخصيّة دراميّة اسمها (أبعاد)، لم يتّضح لنا دورها الدراميّ بعد، بيد أن المستحيل يبقى مستحيلاً، وهنا نشمّ رائحة فلسفيّة لكلامٍ جمعيّ يستحضره الشاعر بين أبعاد خشبة مسرح نصّه وكأنّه يذكّرنا بالقول الدارج والفلسفي في ذات الوقت: (المستحيل مستحيل) أمام ظلاميَّة الواقع ووعورة مسافاته.

"المسافة السابعة"
"المشهد السابع: احتشاد المسافات ولعبة التصّادم الدراميّ"
هنا الشاعر يقدّم لنا شخوصه المسافاتيّة بصيغة احتشاديّة تذكّرنا بطقوسيّة المسرح الاحتفالي، كلّ شخصيّة تمارس دورها الدرامي بروح احتشاديّة غايتها الإشعاع وكشف الضوء الذي يراهن عليه الشاعر بأنّه لا بدّ لنا من الامساك بخيوطه حتى وإن أتعبنا الجري نحو نهاية النفق. ببراعة فكريةٍّ يعرض الشاعر أمامنا من فوق خشبة مسرحه الجماليّ تلك المشهدية الاحتشادية: "أساور، خواتم \ عقود، نجوم.. تشعّ \ وأن تبقى حيّاً.. لا شيء هيّناً \ طريقُه فجوات في مدٍّ وجزر \ وأحدٌ يتربّص بأحدٍ أو لأحدٍ \ الطريقُ هي أولئك الجرحى".
في تلك المسافة تحتشد المسافات، كلّ كلمة هي عبارة عن مسافة ذات دلالة أو معنى خاص بها. إن الطاقة الجمالية للشخصيّات - الكلمات: (أساور، خواتم، عقود، نجوم) هي طاقة درامية ذات فعل احتشادي جمعي، تلك الطاقة الإحتشادية تجعلها تشترك بخاصيّة الضوء والاشعاع التي يمثّلها الفعل الدرامي (تشعّ). في ذاكرتنا الجمعيّة العربيّة تلك الكلمات تذكّرنا بالفعل الاحتشادي - الاحتفالي وكأنّنا نحضر حفلة عرس جماعي تحت سقف النجوم. الشاعر هنا في تلك اللحظة الجماليّة يستحضر لنا زمنين: زمن احتشادي كرنفالي احتفالي يترجم فعل الفرح المهدّد بزمن آخر نخشى عواقبه التراجيدية. وهنا ندرك بأن الشخص الذي يرتقي سلّم المعاناة ويتجشّم عناء الرحلة هو البطل – النَصّي - الغائب – الحاضر، هو الشخص الذي اذا ما بقي على قيد الحياة ليس من الهيِّن أن يسلم بجلده. ثَمّةَ وعورة تحيق به، بل تجعل (طريقه فجوات في مدّ وجزر)، وتلك ثيمة تشي بتأسيس وبناء بنية هيكلية ذات أبعاد مسافاتية، فالفجوات هي مسافات بواقع الحال، وحتى حالات المدّ والجزر هي عبارة عن مسافات دراميّة تعبّر عن حالة التضاد والتناقض الحاد في حياتنا اليومية. إن الخطورة تكمن في وعورة الطريق الذي تكون فيه حالة الإنسان، هي حالة الشكّ والريبة، حيث كلّ (واحد يتربّص بأحد أو لأحد)، وهي تكون نهاية المطاف التراجيديّة للحرب التي تمهّد طريق الدمار، وأهون الخسارات في تلك الحرب أن تكون تلك (الطريق هي أولئك الجرحى).

"المسافة الثامنة"
"المشهد الثامن: ذاكرة المكان الجمالية ولعبة دراما الحرب"
"كان في شارع الدمار، وهو لا يزال \ فقط كان كاتمُ الصوت على الأرض \ مع الزجاجات الفارغة"، ثلاث مسافات أو أربع تتقاسم المشهديّة الدراميّة الثامنة، كلّ مسافة لها محمولاتها الدلاليّة وعلاماتها الجماليّة، وحسب تقانة التصادم الدراميّ المسافاتيّ نرى بأن كلّ مشهد يؤدّي إلى مشهد ٍ آخر، والكلمات تؤدّي أدوارها الدراميّة كشخصيّات تمارس فعلها الجماليّ فوق خشبة مسرح القصيدة: (كان في شارع الدمار)، لو تأمّلنا اللغة الدراميّة هنا: (كان)، الفعل الناقص يبحث عن شيئ يكمل الدور المناط به، وهنا شخصيّة (كان) مرتبطة بشخصيّة الشاعر – السارد، أو الراوية الذي يسرد لنا تفاصيل الأحداث. عندما يقول: "كان في شارع" ثمة إشارة جماليّة للمكان الذي هو الشارع الذي يحيلنا بدوره إلى الانغماس بالحياة، الشارع يكتظّ بالناس وحركيّته دلالة على توهّج دراما الحياة وعدم انطفاء فعلها الجمالي، ولكن التصادميّة المسافاتيّة تنقلنا إلى مسافة أخرى مناقضة للمسافة الأولى: الشارع الذي يرمز للحياة. عندما يكمل الراوي جملته (كان في شارع الدمار) تتّضح صورة المسافة الثانية المؤطّرة بالدمار الذي يحلّ بالمكان ويأتي على الحياة والجمال. وتستمرّ حالة التصادم المسافاتي المثيرة للسؤال حينما يقول: (وهو لا يزال)، من هو؟، ربما يكون الشخص الباحث عن شرفة الصدى، وهنا نلمس بأن المشهديّة الدراميّة لفعل الدمار لم تزل مهيمنة وذات سطوة تبعث على الشعور بالمرارة القاتمة والصادمة. ثمّة إشارة أخرى للدمار العابث بسكينة المكان يجسّدها الفعل الدرامي الذي يرصده لنا الشاعر حينما يقول: (فقط كان كاتم الصوت على الأرض)، أي صوت بشري كتمته لعنة كاتم الصوت هذا؟!. صورة مذهلة لمشهد الموت المتربّص بالإنسان والمدمّر لسعادته وجمال حياته. ثمة تصادمية مسافاتيّة أخرى تدفعنا لرؤية مسافة دراميّة أخرى يمثلها مشهد (الزجاجات الفارغة)، يحيل الشاعر جمهور مسرح قصيدته المُتَخيَّل للتساؤل: ما قصّة الزجاجات الفارغة؟!. إن صورة الزجاجات الفارغة على واقعيتها تحرّك ذهن المتلقّي مسافاتيّاً حين تشرع بإثارة التساؤلات الجماليّة: هل تلك الصورة تجعلنا نفكّر بالموضوع دراميّأ مثلا؟، هل هي إشارة لقصّة الرجل الذي انتهى من احتساء تلك الزجاجات ورماها في الشارع كردّ فعل احتجاجي على واقع مرّ غير قادر على تغييره وكان كاتم الصوت له بالمرصاد؟. في تلك المسافة يبرع الشاعر شوقي مسلماني بتأسيس سرديّة شعريّة تحاور دراميَّاً غموض المشهد وعلى نحوٍ جماليّ فكّ شفرة طلاسم الواقع القاتم.

"المسافة التاسعة"
"المشهد التاسع: امرأة شرفاتِ الصّدى كمعادلٍ جماليّ"
"وأخيراً أرقّ الشرفات \ التي هي أطلّت يوماً منها". في المشهد الأخير في مسرح قصيدة الشاعر شوقي مسلماني ندلف للغرفة الجماليّة التي أثّثها بأثاث لغته المسافاتيّة لتفتح لنا الباب والنوافذ، لنطلّ معه من شرفته الشعريّة التي تترجم لنا لغة أخرى مكتوبة بمداد جماليّ يحيلنا مخياليّاً للإشتراك معه في لعبة دراميّة يسمّيها (أرقّ الشرفات)، الشرفات المنتجة للأرق والقلق الذي يمتح من بئرهما الشاعر ماء نصّه الجماليّ. الشرفات التي كانت تطّل منها فاتنته ذات يوم. الشرفات التي يبحث عنها بطل النصّ – الشاعر - المنتج – المخرج – الراوي – القارئ - المتلّقي وكل جمهور مسرح القصيدة. لم يزل يبحث عن صدى صوتها في تلك الشرفات. ومن هي منتجة كل هذا العناء الجماليّ المسافاتيّ التي يبحث عنها الشاعر، بل جعلنا نشترك معه في دراما البحث عنها، وعن إمرأة أشعلت نار القلق والأرق في ستائر شرفاتنا الخياليّة، هل هي إمرأة واقعيّة أم هي إمرأة مسافاتيّة جُبِلت من طين هلاميّ؟!، ربما تكون المرأة – الرمز للحياة الهادئة، ربّما هي الطمأنينة أو السَكينة المفقودة التي يبحث عنها الإنسان المعاصر، بيدَ أنّ طريقه ليست معبّدة بالزهور، ليست مفروشة بالورد والريحان، ثمّة وعورة مسافاتيّة لابدّ من اجتيازها من أجل الصّعود إلى شرفة الصدى.