في كتابه "موسى والتوحيد"، يُعيد فرويد بناءَ قصَّةِ موسى ومُعتقد التوحيد على أرضيَّة حكاية كبير العشيرة البدائيَّة، وجريمة قتلِ الأب من قِبَل الأبناء، وذلك الذنب الذي أثقلَ كاهلَ البشريَّة. إضافةً إلى المشاعر الازدواجيَّة والنزاع الأزليَّ (الذي صار رمزيَّاً في ما بعد) ما بين الولد وأبيه.
إنَّ موقف موسى في مواجهة الربّ، ليس إلا موقف ذلك الطفل الصغير الذي تناسى "جروحَ أناهُ النرجسيَّة"، ليحبَّ أباهُ مجدَّداً.
وما كان معتقد التوّحيد إلا إعادةً رمزيَّةً لمكانة كبير العشيرة الإنسانيَّة، ومحاولة إجلاسهِ على الكرسي الذي سُلِبَ منه في ما مضى.
تاريخيَّاً، قام موسى المصريّ ببعثِ ديانةِ آتون؛ الإله الوثنيّ عند المصريين. فكان التوحيد اليهوديّ يمثِّلُ تبعيَّةً واضحةً للحقبة التوحيديَّة في التاريخ المصريّ. تماماً مثلما أنَّ الختان، الذي مَثَّلَ العلامة الخارجيَّة الفارقة للدين الموسويّ، هو عادةٌ مصريَّةٌ قديمة.
ويهوه الإله المعبود هو أساساً إلهٌ وثنيٌّ آخر، وهو ليس حتى إلهاً أعلى! بل هو إلهُ البراكين الذي يُهدّد عُصاته بالنار والجحيم. ولقد وعد أتباعه بأن يمنحهم أرضاً تفيضُ لبناً وعسلاً إن هم استطاعوا إخلاء هذه الأرض من سكانها بحدّ السيف!
بل إنَّ موسى قام باستخدام طرائق أخناتون بفرض اعتناق الدين الجديد، من خلال التشدُّد في اتِّباعه. ولعدم جاهزية يهود موسى في اعتناقِ ديانةٍ رفيعةٍ في روحانيتها، وغير مُلبِّيةٍ لحاجاتهم، قاموا باغتياله.
وعلى الرغم من أن موسى قد اختارَ الخضوعَ على التمَرُّد في نهاية الأمر، أي الشيء الذي يتناقض مع أحد المعايير النمطيَّة التي حدَّدها أوتو رانك كقاسمٍ مشتركٍ يربطُ جميعَ الأبطال الخرافيين، أي المعيار القائل بأنَّ البطلَ هو الذي يتصدَّى لوالده بشجاعةٍ، ويهزمهُ في نهاية المطاف، إلَّا أنَّ التباين الاجتماعيّ الكائن ما بين الأسرتَيْن الملكيَّة والوضيعة، أي الأسرة التي أنجبتهُ والأسرة التي انتشلتهُ، هو الذي أبرز الطبيعةَ البطوليَّةَ لذلك الرجل العظيم، كما يرى فرويد.
فإذاً، خيارُ موسى كانَ في أن يُكفِّرَ عن الخطأ الأزليّ القديم الذي اقترفهُ الأبناء بانقلابهم على أبيهم، بتوحيده للإله وبإعادةِ الحقّ إلى صاحبه، مُجنِّباً الأجيالَ الإنسانيَّة القادمة تبعاتٍ إضافيَّةً للشعور بتبكيتِ الضمير.
وفي هذا الصدد يقول فرويد: "لقد كان لإعادة الاتصال بالشيء الذي حُرِمَ منه البشر لأجيال وأجيال، وقعٌ هائلٌ وأثرٌ ساحقٌ، نقرأ وصفاً دقيقاً لهما في ما وراء المأثور الشعبيّ، عن كيفيَّة نزول الشريعة في طور سيناء. فقد عمرت أفئدة الشعب بالاعجاب والاحترام والتقدير وعرفان الجميل، لذلك الإله الذي قدّم له البرهان على إيثاره إياه ومحاباته له. فدين موسى لا يعرف سوى هذه المشاعر الإيجابيَّة تجاه الإله الأب، بالإيمان بجبروتهِ والامتثال لإرادتهِ، ليبلغا أكثر مما بلغاهُ لدى الإبن الخائف من أبي العشيرة البدائيَّة. وما أسهل تصوُّر هذا الإيمان وسط بيئةٍ طفوليَّةٍ بدائيَّة، فالانفعالات الطفوليَّة أكثر شدَّةً وأبعد غوراً بكثيرٍ من انفعالات الراشدين. هكذا كان ردُّ الفعلِ الأوَّل على عودة الأب كُلِّي القُدرة، فورةً في الورعِ والتُقى" (الترجمة لجورج طرابيشي).
لكنَّ الدين الموسويّ هذا لم يحلَّ عقدة العلاقة الازدواجيِّة ما بين الطفلِ وأبيه، والتي نراها قد حُلَّت في المذهب المسيحيّ الذي اعتنقه شطرٌ من اليهود، لكنَّه أفرزَ في المقابل شعوراً معاكساً! فالإبن الذي أخذ على عاتقهِ وحدَهُ وزرَ الخطيئة الإنسانيَّة، صارَ هوَ نفسهُ إلهاً، إلى جانب أبيه أو حتَّى في مكانه! وهذا الانحدار الألوهيّ أدى بالضرورة إلى إنزال الأب الإله عن عرشه مُجدَّداً!

باحث سوري في علم النفس التحليلي.