يصفهُ البعض بأنَّه العبد الذي يعمل في خدمتنا، وأحياناً أخرى يعمل لمصلحته الخاصَّة. بينما يُسمِّيه البعض الآخر: العملاق النائم في أعماقنا.
إنَّه اللاشعور أو اللاوعي. فما هو؟ وما هي طبيعته؟ وهل تخلَّى عن كونهِ حالةً "لاماديَّة"، كما كان يُعتَقَدُ سابقاً، ليصبح اليوم مركزاً عصبيَّاً؟
للوصول إلى إجابات، لا بدَّ من التعريج أولاً على النظريات الأولى التي حاولت رسمَ ملامح اللاشعور، والتي يمكن اعتبارها صاحبة الفضل الأكبر في الصورة النهائية التي وصلت إليها حقيقة اللاشعور.
عندما قدَّم فرويد اكتشافه اللاشعور إلى العالَم، تحدَّث عن مخزونٍ رغبويّ (عدوانيّ وجنسيّ) يحمله كلُّ مولودٍ جديدٍ معه إلى الحياة، يترك أثره في كل بقعة جسديَّة يمرُّ بها خلال فترات النمو الجنسيّ النفسيّ، ولقد أطلق عليه مسمَّى "الليبدو". وهذا الليبدو هو الأساس الذي يقف عليه اللاشعور الذي طرحه فرويد.
وبالإمكان اختصار رأي فرويد في اللاشعور من خلال مثاله هذا: عربةٌ مُسرعة يشدُّها حصانان، أحدهما جامحٌ، قصد به فرويد الجزء اللاشعوريّ من الذهن.
وبالإضافة إلى كَون اللاشعور الفرويديّ غرائزيّ، فهو أيضاً محلِّي، ففرويد تحدَّث عن لاشعورٍ عضويّ يولد مع الإنسان ويزول بزواله.
ثمَّ جاء يونغ في ما بعد ليطرح مشروع اللاشعور الجمعيّ، بعدما قام بتقسيم اللاشعور إلى ثلاثة أقسام: اللاشعور الخاص والذي يمثِّلُ التجربة الفرديَّة لكل شخص، والغرائزيّ الذي ينطوي على الرغبات الأوليَّة، والبعيد نسبيَّاً عن تصوُّر فرويد، فهو غرائزيٌّ بفعلِ الحاجة لا بسبب طبيعته.
واللاشعور الجمعيّ مُشتَرَك ما بين جميع الناس، والمُشتركُ هنا لا يعني به يونغ المُتشابه، بل هو مشتركٌ بمعنى الكلمة.
إذاً، وبعدما قام يونغ بتقليص حجم لاشعور فرويد إلى الثلث، طوَّر بالمقابل ما أسماه "النفس التشارُكيَّة أو النفس الصوفيَّة" واعتبرها قادمة من الخارج! وبذلك قام يونغ بتغييرٍ بنيويّ لطبيعة اللاشعور الفرويديّ، حين جعله عالميَّاً، لا بل كونيَّاً!
وعلى الرغم من إنكار فرويد لكلّ ما جاء به يونغ حول اللاشعور الثلاثيّ هذا، وعلى الأخصّ في ما يتعلَّق بجزئه الجمعيّ، إلا أنَّه عاد ليطوِّر مفهومه حول اللاشعور أو اللاوعي بفرضيَّة "اللاوعي السُّلاليّ"، والذي يفترض فيه انتقال الحالة الانفعاليَّة للفرد عبر السلالة، مثل انتقال العامل الوراثيّ من خلال الجينوم.
لقد أعطى فرويد من خلال هذه الفرضيَّة الجديدة هامشاً أوسع للاشعور، مُخرِجاً لاشعوره من قمقم الغريزة والحاجات، ومُعتبراً إياه مسافراً عبر الأجيال (بيولوجيَّاً لا روحانيَّاً). وبالتالي وُفِّقَ فرويد أكثر من يونغ برسم ما يمكننا تسميته بالمصوَّر البدائي الأول للعقل اللاشعوريّ أو العقل اللاواعي، في الوقت الذي ضاع فيه يونغ في محاولة المواءمة ما بين اللاشعور الفرويديّ وأفكار فلاسفة الشرق حول "الروح والنفس". وهذا أمرٌ يثبته اليوم علم النفس الفسيولوجيّ. فبعد التطوُّر الكبير الذي شهدهُ علم الأعصاب وعلم النفس الفسيولوجيّ، بات من السهل جداً تحديد موقع اللاشعور بشكلٍ طبوغرافيّ. حيث يمكن اعتبار منطقة المهاد الوريث الشرعيّ لما كان يتحدَّث عنه علماء النفس، عندما كانوا يحاولون وصف وتحجيم اللاشعور.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.