بقلم علاء جمعة- فنان تشكيلي


في منتصف الثمانينيات كان الأديب والمحامي البصري فهد الأسدي جارا، ليس ملاصقا لدارنا، وإنما يسكن على مسافة قريبة كافية.
كان أكبر أبنائه مازن، صديقاً وزميل دراسة..
.. كنا نلقب مازن هذا بـ ( مازن المسودن).
.. كان صاحب ضحكة مجلجلة، و لوثه عقلية اسمها الجواهري..
.. كنا أبحنا لأنفسنا مكتبة والده، الذي تسامح معنا وبرضى بالغ، حتى أصبحت مصدرنا من الكتب والتسجيلات الصوتية للشعراء وكاسيتات الفيديو لحفلات الجواهري الشعرية التي كانت تعتبر نادرة في حينها وتداولها غير محمود العواقب.
تقمص مازن المسودن ولسنوات، صوت الجواهري ومفردات كلماته في تصرفاته اليومية لتشبعه من مشاهدة فيديوات الجواهري..
.. كان اذا أراد توبيخي ونحن نلعب كرة قدم ولم أمرر الكرة اليه.. يقف ويقول مقتبساً بعض كلام للجواهري من احد الفديوات ومقلداً لهجته النجفية وصوته..
.." ولكْ أنت بعدك صبي !!.. ما تعرف شلون تمرر الطوبة ".
كان رشدي العامل يزورهم في الليالي الباردة بين الحين والاخر ثملاً مترنحا، ولم يكن ذلك بغريب لشخص مثله ان يكون ثملاً بشكل شبه دائم، في زمن فقد العقلاء فيه عقولهم..
..كنت معجبًا بأشعاره وتمرده..
..طلبت من مازن ان يطلب من ابيه السماح لنا نحن الصغار المساكين ان نحضر مجالسهم مع رشدي..
..لم يكن الأمر صعبا، فالأستاذ فهد - رحمه الله - كان من الشخصيات التي حط طير السعدعلى رأسهم فاغناهم تواضعاً وأدباً.
.. دخلت الى صالة الجلوس..
.. هذا هو رشدي العامل أذا !!
سكران شبه غائب عن وعيه.. لا تكاد تراه وسط سحابه من دخان سجائره....جسمه النحيل المتلاشي في ملابسه يثير العطف..
..خصلات شعره الطويل المتدلية تتناثر على جبينه وكتفيه بغير نظام..
..رؤيته تبعث على الكأبة حقا...
جلسنا نستمع لأحاديثهم وحكايا رشدي..
.. كانت واحدة من حكاياته تلك، عن الجواهري.. هذا الشاعر الذي يخاف من عظمة اسمه كل الشعراء، ولكن كيف كان تواضع الجواهري وتشجيعه للشعراء الشباب..
.. قص رشدي حادثة في اوائل الستينات عندما كان شاباً يافعا في بداية مسيرته الشعرية، وكان هناك مهرجان شعري يحضره الجواهري..
..ألقى رشدي قصيدة من الشعر العمودي..كانت عن بغداد..
.. اخذ رشدي عبر غيمة دخان سجائره يلقي تلك القصيدة علينا..
.. تقمصه سحر عالم الشعر الغامض..إنه رشدي آخر..سحرني معه.
..توقفت قراءته لنا عند بيت منها أثار إعجاب الجواهري والحضور في المهرجان الشعري..
استطرد رشدي وهو يبتسم ابتسامة عريضة :
" عندما خرجنا قرصني الجواهري من خدي..قال لي بالحرف الواحد وعلى طريقة المديح العراقي "..
.." لك گواد ! منيلك هذا البيت الحلو ؟!.. أريده ".
بعد أن احتسى قهوته ( لا يقدم الكحول في الجلسات..حتى ولا لشخص بمكانة رشدي ) ) سأله فهد الأسدي :
_ ما رأيك بأدب الحرب ؟..
..كان المقصود ظهور جيل جديد من الكتاب والشعراء اطلق عليهم اسم أدباء الحرب.. لما يكتبوه مجاراة للنظام اثناء حربه مع إيران،.
رفع رشدي كتفيه مستغربا..
_ شنو هو أدب الحرب ؟!.. ليش هي الحرب مؤدبة !!..مين إجاها الادب !!.. كلها ما مؤدبه.. قتل وموت.. منين إجاها الأدَب...!!"
عندما اقيم اخر مهرجان شعري باذخ (للمربد) في بغداد عام 1989، لم يُدع رشدي العامل لحضوره.
حضرنا أمسية أقيمت في اتحاد الأدباء تكريما لرشدي العامل تزامنا مع أفتتاح المربد وقدمه فيها الشاعر محمد صالح بحر العلوم صاحب قصيدة ( اين حقي )....يبدو أن علامات الخرف بدأت بالظهور عليه..
.. بدأ بتقديم رشدي العامل..
..لحظات ثم اخذ ( يشطح )..دخل في عالم اخر..
..اخذ يمدح الحزب ويهتف للقائد بأعلى صوته، بل نهض من شدة حماسه، متكئا على كتف رشدي، ورشدي ينظر الى الحضور بأستغراب ماطّا شفتيه... الحضور ساكن مندهش من الموقف الغريب اللا متوقع.
بعد انتهاء امسية الاتحاد، وزع علينا رشدي قصائده الممنوعة منسوخه بخط يده وكانت من عدة صفحات..
..بدورنا نسخناها ووزعناها على معارفنا واصدقاءنا..