يبدهنا عنوان الديوان أولا ، وهو الديوان السادس في تجربة الشاعرة والفنانة التشكيلية السورية رانيا كرباج ، بأنه جاء على صيغة ( المضاف والمضاف إليه" مخالفة لتوقعنا الأولي بأنه عبارة عن : ( مبتدأ وخبر) . الديوان بعنوان:" أغنياتُ مشرقيّة"( دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى 2022م )
الأغنيات هنا لا توصف بالخبر على أنها مشرقية، بل هي أغنيات امرأة مشرقية ، كلمة " مشرقيّة" تشير هنا للشاعرة نفسها، وبذا هي تملك هذه الأغنيات التي تبثها بالديوان على شكل نصوص شعرية رائقة، فماذا لدى الشاعرة المشرقيّة في هذا الديوان؟

بداءةً، فإن الديوان هو سادس دواوين الشاعرة التي صدر ديوانها الأول: "وصايا العطر" في العام 2010 م ثم تبعته بعدة دواوين هي:" أرض وورد" و" يدي ملطخة بالحب" و" أين أنت؟" و" السماء هنا" ثم أخيرا :" أغنيات مشرقية " الصادر هذا العام، ويضم (110) قصيدة ، ويقع في (218) صفحة
تستهل الشاعرة ديوانها بقصيدة بعنوان:" روحي تتطاير مني" وقصيدة الاستهلال مهمة دلاليا لأنها تعطي الانطباع الجمالي والتعبيري الأول للقارئ، فضلا على أنها تقدم بشكل فني الأجواء المبدئية التي تنطلق منها الشاعرة.

حالة الاغتراب

تعبر القصيدة عن حالة الاغتراب والغربة بشكل مباشر، ففي النهاية تقول:" أنا الغريبة على سطح كوكبي/ وكلما اصطدمتُ بوجهكَ ، تكسّرتُ من فرط الوحدة" / ص 5
هكذا منذ البدء هناك تعبير مفارق، اغتراب وغربة، وهناك توجس من الآخر الذي لا يساند أو يعينُ، ولكنه يزيد من فرط الوحدة. الرؤية المبدئية هنا لا تعبّر عن فرح باللحظة بقدر ما تعبر عن رؤية ربما متشائمة أو متشائلة – بتعبير الروائي إميل حبيبي – هنا لا يتسنى لنا القبض بداءة على حالة حالمة بالتغيير، ولكنه حالة تعبّر عن الواقع، وعن حصاره للذات الشاعرة التي تعايش الغربة والاغتراب الذاتي معا.
في بداية القصيدة تقول الشاعرة:
روحي تتطاير مني
لا أدري من سرق القبس
الظلمة أحلك من أن تشقها أغنيتي
لا أدري من أخمد النجوم
هناك من سرق هالتي البيضاء
ورماني في بئر بلا ماء.

واقعٌ غير مُبهِج

كما نرى .. هناك واقع غير مبهج، واقع سرقت أنواره وأضواءه، وهيمنت عليه الظلمة التي تتكرر بتعبيرات متعددة، ثم تتكرر الجملة الشعرية نفسها في نص قصير مرتين:" الظلمة أحلك من أن تشقها أغنيتي" . هكذا نحن حيال حالة فقد واغتراب ربما يصبح مأساويا مع الإشارة إلى الحرب " هناك من أشعل الحرب بين أخي وأخي" .
يشكل النص الأول هنا حالة دلالية تغترب فيها الذات وتخاصم واقعها لتتأمله أكثر من بعيد ولو من خلال الظلمة .
ويتحول هذا الاغتراب إلى رفض واعتزاز بالذات، رفض للواقع ومجرياته وتقاليده البالية، واعتزاز بذات تبحث عن حريتها وفردانيتها:
لستُ تلك الأنثى التي حاكتْ قصتها الجدّاتُ
لتصير أميرة جديدة في حريمهنّ
لستُ تلك التي ترضى بعرش بلا عصافير
هل نسيت أنني في الأصل مجدلية
عندما أجد الحب أغسل قدميه بشعري
أم نسيت أنني زنوبيا
لن يكسرها أقل من امبراطورية
وأنت قلت لي : إن الغابة موحشة هناك
وخيمة العشيرة هي أقصى ما تريد
فكان أن عبرتُ النهر وحدي / ص.ص 7-8

الاعتزاز بالذات

إن الاعتزاز بالذات وفرادتها هو بحث عن ابتكار الأنا من جديد، الأنا غير القابعة تحت ظلال أحد، وبحث في الآن نفسه عما يمكن أن تصل إليه هذه الأنا من عوالم وفضاءات خاصة داخل الأفق الشعري.
من جانب آخر فإن معظم نصوص الديوان تذهب إلى التعبير عن هذه الحالة الحزينة المؤلمة المغتربة، فالجسد يتساقط والروح تتكسر، والأوطان السليبة تفقد، وتتنامى لحظات الاغتراب، وتومئ النصوص إلى حالات ومشاهد الحرب بسوريا، وهي تأتي لا من قبيل التوصيف والرصد بل من قبيل تحويل هذه الأحداث المأساوية إلى رموز، تشير إلى الحالة الإنسانية، وإلى حصار الإنسان عبر مقولتي: الخلق والرحيل، وإلى الحسرات والفقدان وإلى العزلة والهروب إلى الذات، وهذه بعض الإشارات الشعرية:
- لقد ثكلتنا أوطاننا
والغربة تسنّ لنا الهلاك
لا بيت لي سواي / ص 9

- كيف لي أن أقطف العزاء من أرض الفستق والحنطة
تحترق من قسوة الحروب ولوعة الهجرة
وأنت تدس في يدي خريطة التاريخ / ص 10
مشيتُ على شفا قلبي
كنتُ كلما رفرفتُ أعلى
قلّم الواقع أجنحتي
فسقطتُ على حرب جديدة / ص 109
الحرب أفرغتني حتى العظام / ص 113
لذهبنا إلى الحرب معصوبي البصيرة / ص 128
لي قلب ينزف على وقع الحرب / ص 131
" أرانا شعوبا مقصوصة من جذورها
لذا كلما هبت حرب شرذمتنا" / ص 141

وتلجأ الشاعرة أحيانا إلى التأمل بالألم :
" اتخذتُ لي موقعا فوق الألم
ورحت أتأمل
لم أعد متسربلة ذاك الجسد
لا أدري يرتديني نجم ما
هناك شعرة قصمت ظهر الحب
فصارت الحرب هي المحور " / ص 12
ويشكل الغياب أفقًا آخر حيث : الموت، ورحيل الأب:
- غاب أبي الآن
لأورثني بيتا ذا حديقة مزهرة
وجرحا لا يندمل
تستطيع أن تلمحه في عينيّ
وصرخة
كانت أثمن ما أورثني إياه أبي
تلك الصرخة / ص 118
- أموات يهتفون لأموات
هنا يكفي أن تكون حيا كي تُلعن/ ص 170
وعلى الرغم من كل هذه الآلام، والمآسي، والمواجع المتكررة التي تفضي إلى الشعور بالفقد والاغتراب الذاتي ، يظل الشعر هو فضاء الأمل الذي يلتقط الذات من براثن الواقع ويعيد تجديدها : "أرصف العمر بالقصائد كي لا أرى وجه العالم الباهت" / ص 123 " حين تسقطُ ورقة الحب لا يستر عوراتنا سوى الشعر / ص 113

صور التفاصيل:

مدهشة صور التفاصيل الصغيرة عند الشاعرة رانيا كرباج، لقد قرأنا ربطها سابقا بين الكبير (العرش) والصغير ( العصافير) ، لكنها هنا تحتشد في ديوانها بقدر من التفاصيل الصغيرة التي تنجم عنها طائفة من الصور المبدعة المبثوثة في نصوص الديوان، وعلى اليقين هي ظاهرة من ظواهر شعرية قصيدة النثر التي تذهب إلى معانقة المجاور اليومي والمألوف والمعتاد والمرئي والمحسوس وتصنع منه معجما شعريا ملموسا وقريبا في تشوفاته ولكنه قصي في عمقه الشعري وبعيد الدلالة في معانيه.

ومن بين النماذج الوفيرة في هذا المجال تقول الشاعرة:
" اتخذت لي كرسيا صغيرا، بين وردتين ورحت أدندنُ لم أعد ملتصقة بي أنا، صرت ال هو وال هي " / ص 13
" هناك شذى يرفرف من بين أضلعي وموسيقى ترفرف من حين إلى حين" / ص 13
فالهواجس الدلالية الصغيرة للكلمات تصنع عوالم كبيرة لأن الجزئي في الشعر يومئ إلى الكلي، يحفز الوعي القارئ إليه، يرمزه، ويخايله، وربما يفجره من الداخل وصولا إلى عمقه.
فالكرسي الصغير أفضى إلى الدندنة إلى التمازج بين غائبين، هو استدعاء ليس للحظة أو الحد الوجداني فحسب، ولكنه استدعاء كلي. عبر الجزئي المتواتر، والأمر نفسه في الشذا الذي يفضي إلى الموسيقى، وهذه الظاهرة تتجلى لدى الشاعرة بشكل ملحوظ في معظم نصوصها.
ومن الاغتراب والتأمل إلى الصمت والحزن تنبثق الدلالات في نصوص الديوان

جيشان رومانتيكي:

ربما تتحول ثيمة " الحب" لدى الشاعرة في عدة نصوص إلى نوع من تخطي الحاجز الرومانتيكي الذي قد يفضي إلى رؤية معكوسة ، حيث اعتدنا على توجه قصيدة النسيب والغزل من الرجل للمرأة، هنا في قصيدة :" لست أبالي" نحن حيال رؤية معكوسة ربما تشكل فضاء تصريحيا جديدا بدأ على استحياء قبل ثلاثة عقود في قصدة النثر، حيث بدا أولا بتمزيق أوصال الرجل والكتابة الضدية ضد مواقفه ، ثم تطور إلى نوع من الحوار الوجداني، وفي دواوين كثيرة صادرة في السنوات الأخيرة رأينا تبدل النظرة للرجل لتصل إلى رؤية غزلية، تقول الشاعرة:
لستُ أبالي .. عيناك وإن كانت غزالي
لن أقتفيهما
...
لستُ أهتمّ باتساعهما الملحوظ
ولا بلحظهما النقي
لا يغويني
الأخضر المزروع حول الحدقات
لا يلهمني الحاجب المعقود حول الكلمات
لا تشفيني النظرة
ما لم تشف عن روح حرة / ص 70
وتتكرر هذه الرؤية الغزلية التي تحتاج إلى قراءة نقدية خاصة في نصوص : هالتك الطازجة / ص 45 وقبلة / ص 55 وملافظك السمراء / ص 72-74 وصوتك العتيق / ص 75-76
وفي نص :" اقفز على قائمتين" : يبدو وجهك المكحّل بضوء برتقالي أحن وأشهى" / ص 82
على أن النص الأكثرمراودة وصراحة يتجلى في نص:" خابيتا خمر " / ص.ص 91-92 وفيه:
عيناك مرج أخضر
وشفتاك خابيتا خمر أحمر
وإني أحوم
بين بلاد السريان وأرض كنعان
أقتفي وهجك اللطيف
ووجهك المفرط في صبابته
أرتديه وأتيه


مؤلفة الكتاب رانيا كرباج

الحس التعبيري

أتصور أن هذا الحس التعبيري يشكل رؤية جديدة لدى المرأة الشاعرة وهي طاقة قشيبة وأفق خلاق سيتولد عنه قدر من الاقتراب من عالم الرجل ومن صفاته وملامحه لا الخلقية المعنوية فحسب، ولكن – وهذا ربما يعد أمرا غير معتاد وبه قدر من الجرأة التعبيرية- قد يفسح المجال لحالات وصفية غزلية غير معهودة من قبل بشكل جلي واضح.
وإذا كانت هذه الرؤية تفضي إلى وصف الآخر حيث تتشح العبارات الشعرية برؤية وصفية لا لأعماق الرجل فحسب ولكن لملامحه وصفاته ، فإن الاستطراد التعبيري الجمالي يستمر في الديوان عبر نصوص كثيرة تخاطب فيها الأنا الشاعرة الآخر، تعبر وتحلم وتبوح، بحثا عن فضاء رومانتيكي قادم أو متخيل أو حالم ، تحضر الأنا بكثافة لتعبر عن هذا الفضاء :" كطير أقفز على قائمتين، وإن مر طيفك أمشي على قلبي، فأنا أنقر قوتي من هواك، وأهيم، وأستقيم كي ألقاك" / 80 وفي نصوص : بحلوك ومرك، حين اختمر الوداد، على كوكب الشعر، وغيرها من النصوص.
هذه الرؤية في وصف الآخر ومحاورته، والتأمل في كينونة العلاقة الوجدانية تصل بالشاعرة أيضا إلى الفرادة، واستقلالية الذات، والبحث عن رؤية خاصة متفردة في معانقة الأشياء والعالم:
لستُ ظلا لأحد
أنا شجرة وارفة
لا ولست الصدى
أنا صوت أصيل / 90

أغنياتٌ مشرقية

إن ديوان:" أغنيات مشرقية" يعبر عن هذه المشرقية المغتربة التي تتكسر الأحزان داخلها عبر الأحزان، ولكنها تغني شعرًا، وتتقاسم الأمل مع الآتي.
وقد ارتكزت الشاعرة في بناء نصوصها على الأبنية القصيرة والكثافة الشعرية، والإحالات الرمزية في بعض النصوص، كما حاولت كسر ما هو غنائي والابتعاد عن الذات الأحادية إلى الذات المنشطرة كما أنها كعادة نصوص قصيدة النثر هناك احتفاء بالدرامي وحوارية الأشياء والمشهدية والتفاصيل والمفارقة، وهو ما يشكل إضاءات تقنية مثلى في نصوص الديوان يذهب بها بعيدا لتحفز على التساؤل والتأمل والتأويل.