رحيل هدية القدس إلى الرياض
محمد الحسيني: بسط المسائل النفطية الأشد تعقيدا


إيلاف من بيروت

بعد فقدان المملكة العربية السعودية لمحمد فاروق بن ابراهيم الحسيني وهو احد رواد صناعة البترول فيها، اتصل الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز باسرة ال الحسيني للتعزية بالفقيد، كما زار عمان عدد من مسؤولي وزارة البترول السعودية الحاليين والسابقين برئاسة مساعد وزير البترول والثروة المعدنية الامير عبد العزيز بن سلمان، ويعتبر الراحل الفقيد محمد فاروق بن ابراهيم الحسيني quot;هدية القدس الى الرياضquot;، وقد ابدى كل من عرفه في المملكة العربية السعودية عاملا في القطاع النفطي كل التقدير والتكريم له وفاء وجزاء لما قدمه من عمل صالح طوال خدمته في قطاع البترول التي تزيد عن اربعين سنة. وتبارى في رثائه كبار خبراء النفط، وهم من تلاميذه في العالم كما في المملكة مثل الدكتورين سليمان الجاسر الحربش، وماجد المنيف، ويعتبر مدير عام صندوق منظمة الاوبك في فيينا سليمان الجاسر الحربش في رثاء الحسيني quot;ان (الفقيد) أكثر من عمل في قطاع البترول في المملكة من الاقتصاديين علما وخبرة وفطنة، واهدى الاضواء لغيره. وفتح مائدته للقانع والمعترquot;.

وولد الفقيد محمد فاروق بن ابراهيم الحسيني في مدينة القدس عام 1928م وتلقى تعليمه هناك حتى اكمل الثانوية العامة ثم التحق بالجامعة الاميركية في بيروت وحصل منها على درجة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1950 ثم عاد الى فلسطين واشتغل مدرسا للرياضيات في مدرسة الأصدقاء في مدينة رام الله لمدة سنة ثم سافر الى ليبيا وعمل مدرسا لمدة سنة عاد بعدها الى الاردن . بعدها انتقل الى المملكة العربية السعودية عام 1956م، والتحق بمديرية الزيت والمعادن التابعة آنذاك لوزارة المالية مع المرحوم الشيخ عبد الله الطريقي، ونشأت بين الاثنين علاقة حميمة برزت من خلال الاعمال المشتركة للاثنين، وكان الهدف المشترك لهذه الاعمال هو تعريف ذوي الشأن بصناعة البترول العربية وعلاقات الحكومات بالشركات ودور هذه الشركات في تسعير البترول ونقله، وكانت مؤتمرات البترول العربية منذ أواخر الخمسينات منبرا لهذه الاعمال وقد تبلورت هذه العلاقة بالتعاون مع آخرين في انشاء منظمة أوبك، كما شارك الاثنان في القاء المحاضرات عن نقل البترول العربي على طلبة قسم الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في معهد الدراسات العربية التابع للجامعة العربية في تلك الفترة، وقد ظهرت في كتاب نشرته الجامعة عام 1961. كما اشار الدكتور الحربش في مقالة رثاء للراحل الحسيني.

وفي تلك الفترة، أواخر الخمسينات، حصل المرحوم على الجنسية السعودية واستمر في عمله مستشارا اقتصاديا وفي عام 1961 انفصلت المديرية العامة عن وزارة المالية واصبحت وزارة باسمها المعروف. وانتقل المرحوم باسرته الى الرياض وشارك بشكل نشط في كل المؤتمرات البترولية التي عقدت آنذاك. وفي نهاية الربع الاول من عام 1962م آل منصب وزير البترول الى الشيخ أحمد زكي يماني الذي وجد في ابي ابراهيم ضالته المنشودة كخبير بترولي يتمتع بكل المواصفات التي يتمناها اي وزير في ذلك الوقت الذي تندر فيه الكفاءات الوطنية المتخصصة في هذا المجال، وقد توطدت العلاقة بين الاثنين واسندت اليه ادارة الشؤون الاقتصادية اثناء وجود هشام ناظر وكيلا للوزارة.

وفي عام 1967 رشحه الشيخ زكي مديرا للادارة الاقتصادية في منظمة أوبك وسافر الى هناك أواخر 1967 واقام في فيينا حتى نهاية عام 1970. وفي كانون الأول (ديسمبر) من تلك السنة وعندما بدأت نذر التغيير في صناعة البترول في منطقة الشرق الأوسط تلوح بالافق استدعاه وزير البترول وقطع مهمته وعاد ليتفرغ للادارة الاقتصادية في الوزارة مرة أخرى، وخلال تلك الفترة بدأت فترة المهمات الصعبة للمرحوم، اذ شهدت فترة السبعينات المفاوضات المتعددة بين الحكومات والشركات بشكل ثنائي وجماعي بهدف تحسين الشروط المالية، وكان الفقيد بسداد رأيه وقوة بصيرته، وسط المعمعة، ادى خلال تلك الفترة العديد من المهمات الجسيمة التي تركت آثارها على محياه، وقد عهد اليه الشيخ زكي في ما بعد باعداد خطاباته التي يلقيها في المحافل البترولية ومعظمها نشرتها مجلة ميدل ايست ايكونومك سرفي المعروفة، وهي بشكل عام توضح الاهداف العريضة للسياسة البترولية للمملكة ولم يكن يأنف ان يقوم احد بابداء اي ملاحظة على الاسلوب أو قواعد اللغة. كما لعب دورا رئيسا في الاعداد الفكري للدراسات التي احتاجتها اللجنة الوزارية لاستراتيجية اوبك خلال الفترة من 1978 ـ 1980م وشارك في أعمال الحوار المعروف بحوار الشمال والجنوب بين الدول الصناعية والدول النامية ممثلا للمملكة في لجنة الطاقة.


شهادة الحربش

ويقول الدكتور سليمان الجاسر الحربش في رثاء الحسيني، سعدت بالعمل مع المرحوم خلال فترة الستينات وبعد عودتي من الدراسة في الولايات المتحدة عام 1974 عملت معه حتى عام 1982 وفتح لي قلبه واستفدت من توجيهاته بشكل افادني في كل المهمات التي اوكلت الي. وعندما انشئ المجلس الاعلى للبترول والمعادن بصيغته الاولى برئاسة الملك فهد (النائب الثاني آنذاك ووزير الداخلية) عهد الى الامير سعود الفيصل (وكيل وزارة البترول وقتئذ) بأمانة المجلس وانبثقت من ذلك لجنة فنية ضمت عددا من الخبراء وكبار الموظفين كان من بينهم الدكتور محسون جلال (رحمه الله) والدكتور فيصل البشير، وتولى الفقيد مهمة الاعداد اليومي لهذه اللجنة ومن بين ما عرض على المجلس الاعلى في ذلك الوقت مسودة الاتفاق مع أرامكو التي مهدت للتملك الكامل، وكانت على درجة عالية من التعقيد والغموض. لكن الفقيد استطاع ان يفسرها بشكل كمي مادة مادة لاظهار المكاسب والتكاليف، كما نظر المجلس في مشروع الغاز وغيره من القضايا التي غيرت مسار الصناعة البترولية في المملكة. وقد عملت انا والاخ اسامة طرابلسي معه في تلك اللجنة وقمنا بالتعاقد مع مؤسستين متخصصتين لاجراء بعض الدراسات احداهما عن آثار ارتفاع اسعار البترول في عام 1974 على الاقتصاد الدولي والأخرى عن تقدير الطاقات الانتاجية في الدول المنتجة والمصدرة للبترول وقام بنفسه بوضع نطاق الدراستين وقد شارك في الدراسة الاولى الدكتور جونستون استاذ الاقتصاد القياسي في جامعة مانشستر الذي اعجب بالمرحوم وطريقته المبسطة في شرح سوق البترول وكيف يعمل واهداه مجموعة من كتبه.

وعندما وصل هشام ناظر الى سدة الوزارة أواخر عام 1986 قربه اليه وهو الذي كان يعرفه حق المعرفة منذ أن كان الاثنان يعملان معا مع المرحوم عبد الله الطريقي. وكان هشام عندما يستفتيه في مسألة بترولية يشير اليه مداعبا بلقب الـ guru أو الحكيم، والحقيقة ان هشام وفق في اختيار هذا اللقب فقد كان المرحوم، خصوصا بعد ان تقاعد عن الوظيفة الرسمية، منارة لكل من يقصده يسدي النصح للجميع ولا يأنف ان يعمل مع بعض من هم في سن احفاده، فالغاية النبيلة هي كل ما يشغل ذهنه.

وقد احتفى به معالي المهندس علي النعيمي وكرمه بحفل بهيج عندما قرر ان يتقاعد خصوصا عندما بدأ يشعر بشدة الألم. لكن ابا ابراهيم ظل مشدودا الى مهده (وزارة البترول) فقد عمل عن قرب مع الامير عبد العزيز بن سلمان في كثير من الشؤون، وعندما عهد الى الامير فيصل بن تركي اعداد استراتيجية الغاز في المملكة استعان الأمير بملاحظات الفقيد ومراجعته للنص النهائي.

لا يخامرني ادنى شك ان وزارة البترول وعلى رأسها معالي المهندس ابو رامي الذي يقدر كل التقدير قيمة العمل الجاد سوف لا تألو جهدا في ايجاد وسيلة تليق بتكريم هذا الرجل الذي سخر كل امكانياته عرفانا بجميل هذا الوطن وتأكيدا لانتمائه الوطني (لا طمعا في منصب أو مغنم) ومن وسائل هذا التكريم اطلاق اسمه على مكتبة الوزارة التي كان أكثر من يرتادها منذ أوائل الستينات أو اقامة ندوة دورية أو جائزة سنوية باسمه أو جمع أعماله من بطون الملفات وطبعها، وبعضها لا يتقادم مع الزمن وحتى بعض الدراسات التي اعدها ما زالت تحتوي على منهج متميز في التحليل يستفيد منه الجيل الجديد.