لبنان أمام تحدي الوفاق الوطني لضمان تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي




عدنان كريمة

أقل ما يقال عن نتائج مؤتمر quot;باريس ـ 3quot; الذي اشترك فيه نحو 40 دولة شقيقة وصديقة، و10 مؤسسات تمويل عربية ودولية، أنها جاءت في حجم الثقة بلبنان ومستقبله، وتبرز أهمية هذه الثقة في وقت يشهد فيه لبنان انقساماً سياسياً واضطرابات أمنية، تهدد استقراره وتعرقل إعادة إعماره وإنماء اقتصاده، وهي مفارقة لم يشهدها أي بلد في العالم، لذلك يجمع المراقبون على أن ما جرى في هذا المؤتمر هو فرصة تاريخية لن تتكرر، وعلى اللبنانيين الإفادة منها، خصوصاً وإن المساعدات التي التزمت بها الدول والمؤسسات المانحة والبالغة نحو 7.6 مليارات دولار تفيد كل اللبنانيين، من دون استثناء، بدعم اقتصادهم الوطني ومعيشهم وتوفير فرص العمل لهم.


وإذا كان العالمان العربي والدولي قد وقفا مع لبنان، فمن الطبيعي أن يقف لبنان مع نفسه ليستحق الدعم، ومن هنا قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك: quot;إن نجاح مؤتمر باريس ـ 3، ينبغي أن يكون فرصة لانطلاقة جديدة للبنانيين مجتمعين وموحدين، لتطبيق الإصلاحات التي يتطلّبها مستقبل لبنان في إطار الحوار والتفاهم الوطنيquot;.


وحرصاً منه على نجاح هذه الانطلاقة، سارع وزير المال جهاد أزعور وأعلن من باريس وقبل أن يصل الى بيروت، أن الحكومة ستطلق حواراً وطنياً في شأن السياسة الاقتصادية والبرنامج الاصلاحي الذي قدمته الى مؤتمر باريسshy;3، يشمل الهيئات الاقتصادية ومكونات المجتمع الأهلي، ومختلف القوى السياسية، بحيث يستكمل الحوار الذي بدأ قبل المؤتمر، بهدف ضمان مشاركة جميع قوى المجتمع في استثمار ما تحقق في المؤتمر، وينبثق عنه quot;نوع من مؤتمر وطنيquot; وآلية متابعة ومراقبة لتنفيذ الاصلاحات وادارة الأموال التي التزمت الدول والمؤسسات المشاركة في باريسshy;3 تقديمها الى لبنان.


واشار الوزير ازعور الى اطلاق عملية تواصل مع كل الدول والمؤسسات التي شاركت في المؤتمر في الاسبوع المقبل، لتأكيد التزاماتها والحصول على تفاصيل أكثر عنهاquot;. وقال quot;ستنشأ آلية متابعة لنتائج المؤتمر، تكون مثابة مجلس ادارة أو مجلس محافظين، يضم ممثلين عن لبنان وعن مجموعة من الدول والمؤسسات المانحة، لمتابعة تأمين الدعم والإيفاء بالالتزامات، وكذلك متابعة عملية الاصلاح واشراك المجتمع الدولي في مراقبة مراحل تنفيذهاquot;. ووعد أزعور كذلك باصدار quot;تقارير فصلية عن المبالغ التي سيتسلمها لبنان، وسبل صرفها واستخدامها، توخياً للشفافية في هذا المجال ازاء الشعب اللبنانيquot;.
ولكن هل سيتمكن الاقتصاد الوطني من تحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية والاجتماعية لمؤتمر باريس ـ 3.

تدل الإحصاءات المصرفية على أن صافي الرساميل الوافدة الى لبنان بنهاية العام 2006 بلغت أكثر من 9.6 مليارات دولار وبزيادة نسبتها 35 في المئة عن العام 2005، وهو تطوّر إيجابي جيد، خصوصاً وأنه حصل على الرغم من الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز (يوليو) الماضي وما خلّفته من خراب ودمار وخسائر اقتصادية ومالية كبيرة، وتداعيات هذه الحرب في مختلف القطاعات، وما جرته من انقسام سياسي بين اللبنانيين، الأمر الذي يؤكد قدرة الاقتصاد اللبناني على اجتياز كل تلك التطورات السلبية.


ومن الطبيعي أن يزداد صافي تدفق الرساميل في العام 2007، مع وصول الدفعة الأولى من مساعدات quot;باريس ـ 3quot; والتي قدّرها وزير المال جهاد أزعور بنحو 1.7 مليار دولار، فضلاً عن توقع دخول استثمارات عربية وأجنبية نتيجة الثقة الدولية بلبنان والتي تجلّت في quot;باريس ـ 3quot; وتمّت ترجمتها بمساعدات كبيرة.
وسيساهم هذا التدفّق المالي بدعم ميزان المدفوعات، وكذلك بزيادة احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية والذي أنهى العام 2006 بنحو 13 مليار دولار.
ويبرز في هذا المجال دور القطاع المصرفي الذي يعتبر مصدر التمويل الرئيسي للاقتصاد الوطني في قطاعيه العام والخاص.


لقد استطاع هذا القطاع من اجتياز النتائج السلبية للاعتداء الإسرائيلي على لبنان في تموز (يوليو) الماضي وتداعياته، وتمكن من زيادة حجم موجوداته بنسبة 7.4 في المئة الى 80 مليار دولار بنهاية العام 2006 مقارنة مع 74.5 مليار دولار بنهاية العام 2005، مع العلم أنه كان قد وصل الى نحو 79 مليار دولار في نهاية حزيران الماضي، ما يعني أن نتائج الحرب وتداعياتها قد أثرت على القطاع المصرفي وحدّت من نموّه الطبيعي.


وقد حافظت الودائع المصرفية على نموّها المستمر وسجّلت زيادة بنسبة 6.5 في المئة الى نحو 60 مليار دولار بنهاية العام 2006، مقارنة مع 56.3 مليار دولار بنهاية العام 2005، مع العلم أنها كانت 59.3 مليار دولار في حزيران الماضي، وهذه الأرقام لا تشمل الودائع الائتمانية.


أما حجم التسليفات للقطاع الخاص فقد ارتفعت بدورها من 17.7 مليار دولار في نهاية العام 2005 الى 18.9 مليار دولار بنهاية العام 2006 أي بنسبة 6.7 في المئة، وهي نسبة ضئيلة تعكس حالة الركود الاقتصادي التي عاشها لبنان في العام الماضي.


لقد سبق أن انخفضت معدلات الفائدة المصرفية بعد مؤتمر quot;باريس ـ 2quot; المنعقد في أواخر العام 2002 كنتيجة طبيعية للإفادة من أموال المساعدات والقروض الميسرة التي وفّرها للبنان، مثال على ذلك أن الفائدة على سندات الخزينة لمدة سنتين انخفض من 14.6 في المئة في تشرين الأول (أكتوبر) 2002 الى ما دون 7.74 في المئة في السوق الأولية في آب (أغسطس) 2004.
ومع التدفق المرتقب لأموال quot;باريس ـ 3quot; الى لبنان بدءاً من العام الحالي، يتوقع رئيس جمعية المصارف الدكتور فرنسوا باسيل أن تتراجع معدلات الفوائد المصرفية في سوق بيروت بنسبة تحددها عوامل العرض والطلب، مع العلم أن عامل الطلب من القطاع العام سيتراجع مع استفادة الدولة من أموال المساعدات، على أمل أن يزداد الطلب من القطاع الخاص من خلال تفعيل النشاط الاقتصادي وتمويل المشاريع الاستثمارية.


ومن الطبيعي أن تنخفض تكلفة الدين العام، على أساس أن كل خفض نقطة واحدة في معدلات الفائدة تخفض التكلفة بنحو 400 مليون دولار.
وفي آخر نشرة مصرفية، تبيّن أن الفائدة المثقلة على المحفظة الإجمالية لسندات الخزينة بالليرة بلغت 8.49 في المئة في نهاية تشرين الثاني (أكتوبر) 2006، وبلغت الفائدة على سندات بالعملة الأجنبية 7.18 في المئة. أما الفائدة المصرفية على الليرة فقد بلغت 10.2 في المئة، وعلى الدولار الأميركي 8.4 في المئة.
نمو الاقتصاد
مع تراجع الفائدة المصرفية، وتوقف الدولة ولو موقتاً عن الاستدانة من القطاع المصرفي، سيتوفر فائض سيولة لدى المصارف، من المنتظر أن يتجه لمؤسسات القطاع الخاص، مع تفعيل الاقتصاد التي أجمعت كل الدراسات على أن حركته تشكل حالياً نحو 60 في المئة من طاقته، والنسبة الباقية معطلة لأسباب مختلفة من سياسية وأمنية وتخلف القطاع عن مواكبة تطور القطاع الخاص.


وتبرز أهمية القطاع الخاص وقدراته على النمو من خلال جذب الاستثمارات وتدفق الرساميل الخارجية الى لبنان والتي استفاد منها القطاع المصرفي حتى أصبح مجموع ودائعه تزيد عن 60 مليار دولار، أو ما يعادل نحو ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد اللبناني، وهي ظاهرة فريدة من نوعها في العالم، ومن الطبيعي أن يكون لفائض السيولة دور كبير في تفعيل النشاط الاقتصادي عن طريق تمويل المشاريع في مختلف القطاعات، شرط أن تقوم الدولة بتوفير الفرص الاستثمارية التي تساهم بمعدلات النمو وتوفير فرص العمل للبنانيين.
لقد استطاع لبنان في العام 2004 تحقيق نمو اقتصادي بلغ أكثر من 7 في المئة، وذلك بفضل النتائج الايجابية ولو المحدودة، لمؤتمر quot;باريس ـ2quot; في أواخر العام 2002.


وكان الاقتصاد اللبناني يواجه ركوداً حاداً، مع تنامي الدين العام نتيجة تراكم العجز المالي، وبموجب quot;باريس ـ2quot; حصل لبنان من المجتمع الدولي على 2.4 ملياري دولار كدعم مالي مباشر يستحق بعد 15 سنة وبفائدة خمسة في المئة، واستفاد ثلاثة أرباع المبلغ تقريباً من فترة سماح بلغت خمس سنوات، أما الربع الباقي، فكانت فترة السماح فيه تبلغ ثلاث سنوات.
وترافق هذا الدعم مع مساهمة مالية من القطاع المالي، تمت على الشكل الآتي:
أولاً: تم تقليص دين الحكومة لمصرف لبنان بواقع 1.8 مليار دولار، وحول 2.3 مليارا دولار من الدين الى قرض طويل الأمد بمعدلات تنازلية.
ثانياً: اكتتبت المصارف التجارية في سند حكومي لمدة سنتين بفائدة صفر بمبلغ يساوي 10 في المئة من ودائعها، اي ما يعادل 3.6 مليارات دولار.


إضافة الى تحقيق نمو اقتصادي بنسبة 7 في المئة في العام 2004، حيث فاق الأداء الماكرو اقتصادي كل التوقعات، فقد ساهمت كذلك التطورات الايجابية لمؤتمر quot;باريس ـ2quot; بتراجع العجز الاجمالي للموازنة الى أقل من ثمانية في المئة من حجم الناتج المحلي الاجمالي (مقارنة بـ25 في المئة في العام 2000) كما تحسن الفائض الأولي للموازنة ليصبح 2.3 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. وقد ارتكز التصحيح المالي بشكل كبير على البدء بتطبيق الضريبة على القيمة المضافة في العام 2002. لكن الخلافات السياسية منعت إنجاز كامل الإجراءات التصحيحية الهيكلية التي تضمنها البرنامج، لا سيما الخصخصة، ونتيجة لذلك، لم تتحقق الأهداف التي كانت مرتقبة من مؤتمر باريس ـ2 بشكل كامل. لذلك فقد بلغ مستوى الدين العام الاجمالي 165 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي في نهاية عام 2004، و175 في المئة في نهاية عام 2005.


وبفعل الأزمات السياسية التي بدأت في أواخر العام 2004 مع تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط 2005، تراجع النشاط الاقتصادي بحدة في النصف الأول من العام 2005، وإن عاد لينتعش في النصف الثاني ولينتهي بنمو حقيقي بلغ واحداً في المئة.


أما في العام 2006، فقد سجل الاقتصاد اللبناني تراجعاً بنسبة تراوحت بين 10 و11 في المئة، جراء العدوان الإسرائيلي في تموز (يوليو)، وتداعياته على مختلف القطاعات الاقتصادية، بالإضافة الى تداعيات التوتر السياسي الناتج من اعتصام المعارضة في ساحتي الشهداء ورياض الصلح.


وقد قدرت هذه النسبة الكبيرة من التراجع، على أساس أن الناتج المحلي كان متوقعاً أن يحقق زيادة بمعدل 6 في المئة، استناداً الى المؤشرات الاقتصادية المحققة حتى نهاية حزيران (يونيو)، ويضاف الى هذا المعدل انخفاض متوقع بين 4 و5 في المئة للناتج عن العام بكامله، ويصل بذلك التراجع الى 10 أو 11 في المئة.


وفي ظل هذا الوضع السلبي، تعاني المالية العامة للدولة لأول مرة منذ ست سنوات عجزاً أولياً يقدر بـ778 مليون دولار، بعد أن كان متوقعاً لها أن تحقق فائضاً أولياً يناهز 827 مليون دولار، مما سيوقع المالية العامة في عجز مالي يقدر بنحو 3.5 مليارات دولار، وهو ما يفوق مرتين العجز المحقق في العام 2005، وعليه يصل حجم الدين العام بنهاية 2006 الى نحو 41 مليار دولار، أي ما يعادل 190 في المئة من حجم الناتج المحلي، والسبب في ذلك يعود الى أن الآثار السلبية المحققة في المالية العامة تقدّر بنحو 1.6 مليار دولار، وذلك نتيجة خسارة في مجموع العائدات العامة للخزينة تقدر بنحو 920 مليون دولار أي ما يفوق 4.25 في المئة من الناتج المحلي مضافاً إليها زيادة في الإنفاق العام مقدّرة بنحو 684 مليون دولار (ما يعادل 3.7 في المئة من الناتج المحلي).


ومع النجاح الكبير لمؤتمر quot;باريس ـ 3quot;، تتوقع المؤشرات الاقتصادية نمواً للناتج المحلي يراوح بين 5 و7 في المئة في العام 2007، في حال توافر الاستقرار السياسي والأمني وبدء تنفيذ مسيرة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والتي ستمتد لسنوات عدة.


ووفق الأرقام الواردة في البرنامج الاقتصادي، ينتظر أن ينمو الناتج المحلي بمعدل 6.25 في المئة، وذلك من 22.4 مليار دولار الى 23.8 ملياراً، وأن يستمر نموّه سنة بعد سنة حتى يصل في العام 2011 الى نحو 31 مليار دولار، بحيث يرتفع بمقدار 8.6 مليارات دولار خلال خمس سنوات.


لئن كانت حرية الرأي والتعبير من صلب حياة اللبنانيين اليومية، إلا أن الخلافات السياسية حول المسائل الاقتصادية لا ينبغي أن تؤدي الى شلل السياسات الإصلاحية. ففي ما يتعلق بالجدل الدائر حول الخصخصة أو إعادة هيكلة مؤسسة الدولة، سيكون التخلي عن هذين الخيارين أسوأ المخارج. وفي ما يتعلق بالجدل الدائر حول زيادة الضرائب أو تحسين جبايتها، سيكون التغاضي عن هذا وذاك أسوأ المخارج. وفي ما يتعلق بالجدل الدائر حول خفض الإنفاق أو ترشيده، سيكون الإحجام عن التصرف أسوأ المخارج. ثمة من يرى أن صياغة السياسة الاقتصادية فقدت شيئاً من زخمها، لأنها باتت عالقة في مستنقع الخلاف السياسي المثبط للعزائم. والمطلوب اليوم من المسؤولين عن السياسة الاقتصادية هو عدم التأخر في مبادراتهم الإنهاضية والإصلاحية تلافياً للتكاليف المرتفعة التي قد تترتب على جمود عملية الإصلاح المنتظرة منذ مدة غير قصيرة.


ويبدو أن الحاجة الى تعزيز الثقة تفرض على جميع القوى السياسية تحدي الاتفاق، ذلك أن عودة الثقة كفيلة بتمكين اللبنانيين من التغلب على الإحباط السياسي، ومن المراهنة على مستقبل اقتصادي واعد، مستقبل اقتصادي يجمعهم، بصرف النظر عن معتقداتهم السياسية، وتبقى أخيراً دعوة اللبنانيين للانضمام بحزم الى عملية التوافق الوطني الواسع، التي تؤمن تعبئة فعلية للإمكانات الداخلية والخارجية بهدف الانخراط في مسار النمو والتنمية المطردين. والتعويض عن أضرار العدوان الإسرائيلي بإعادة البناء والإعمار.