عبدالجليل زيد المرهون
هذا الاستحضار لتجربتي التكامل في شرق الإقليم وشماله الشرقي يقربنا من صورة المعضلة القائمة في شماله الغربي، أي منطقة الخليج العربي. إنما مع ضرورة التأكيد في الوقت نفسه على اننا لا ندعو للقيام بعملية استنساخ طبق الأصل. إنها فقط دعوة لمزيد من التأمل ومزيد من مقاربة الخيارات، يمكن تعريف البيئة الجيوسياسية للنفط على أنها مجموعة التفاعلات السياسية والأمنية المرتبطة به ضمن نطاق جغرافي معين. وبالنسبة لهذا المقال، فإن النطاق موضع التحليل هو الخليج العربي، وعمقه الأوسع مدىً، المتمثل بالمحيط الهندي. وتقتضي دراسة البيئة الجيوسياسية للنفط تحليلاً ثلاثي الطبقات،تتكون طبقته الأولى من المعطيات الداخلية للدول الحاضنة لمنابع النفط، وتلك الواقعة على تخومها. وتتشكل الطبقة الثانية من طبيعة التفاعلات السائدة ضمن الوحدات الإقليمية (الفرعية) المختلفة،أو ما يمكن أن نصطلح عليه بالنسق الإقليمي للتفاعلات. أما الطبقة الثالثة، فترتبط بالمعطى الملاحي للنفط، أي بالوضع السائد في المضايق والممرات الاستراتيجية، التي تسلكها القوافل النفطية بين الدول المصدرة والدول المستهلكة.

على صعيد المعطيات الداخلية لدول الإقليم الحاضنة لمنابع النفط،وتلك الواقعة على تخومها، ثمة وضع أمني غير مستقر في كل من العراق والصومال وسيريلانكا، كما بدت الحالة قلقلة في باكستان بعد اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بنظير بوتو، وكذلك في ضوء النزاع المفتوح في إقليم بلوشستان، بموقعه الاستراتيجي فائق الأهمية على بحر العرب. وهناك من جهة أخرى عودة للمطالب الإثنية في بعض دول جنوب شرق آسيا. كذلك، تفرض معطيات التنمية الاجتماعية نفسها على فرص الاستقرار الداخلي في دول الإقليم، مع ملاحظة إننا بصدد تفاوت كبير بين هذه الدول، على نحو لا نظير له في أي من أقاليم العالم. وعلى الرغم من ذلك يمكن القول بصفة عامة إن مؤشرات التنمية الاجتماعية في الإقليم تبدو في مطلع العام 2008في حال أفضل مما كانت عليه مع بدء الألفية الثالثة.

على صعيد التفاعلات السائدة ضمن المناطق الفرعية في الإقليم، وبين دوله بوجه عام، تبدو الصورة على درجة من التعقيد،على الرغم من كونها لا تخلو من حالات مشجعة.

في شرق الإقليم، تأسست رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) في الثامن من آب أغسطس من العام 1967في العاصمة التايلاندية بانكوك من خمس دول، هي إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند. وانضمت بروناي للرابطة في 8كانون الثاني يناير 1984وفيتنام في 28تموز يوليو 1995ولاوس وميانمار في 23تموز يوليو 1997وكمبوديا في 30نيسان أبريل 1999.وحسب مؤشرات العام 2007، يفوق عدد سكان رابطة (آسيان) خمسمائة مليون نسمة، وتغطي مجموع دولها العشر مساحة إجمالية قدرها أربعة ملايين وخمسمائة ألف كيلومتر مربع، ويبلغ إجمالي ناتجها المحلي نحو 700مليار دولار.

وإضافة إلى تأسيسها منطقة تجارة حرة داخلية، وقعت (آسيان) على اتفاقيات مماثلة مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية. وجاءت الخطوة الأهم في العام 2006، عندما أقرت الرابطة إنشاء سوق مشتركة بحلول العام 2015.بيد أن التطور الأكثر مغزى بالمعيار السياسي قد جاء مع توقيع دول (آسيان) على ميثاق الرابطة في العشرين من تشرين الثاني نوفمبر 2007خلال قمتها الثالثة عشرة التي عقدت في سنغافورة، وتصادفت مع الذكرى الأربعين لتأسيسها. وقد هدف الميثاق إلى تعزيز دور الرابطة بصفتها مؤسسة قادرة على التفاعل مع القضايا الإقليمية والدولية على نحو فعّال ومؤثر. وبمعيار العمل الإقليمي المشترك، فإن البند الأكثر إلحاحا قد تمثل في التأكيد على quot;أن الدول الأعضاء ستسعى للحل السلمي لكافة النزاعات في الوقت المناسب عن طريق الحوار والمشاورات والمفاوضاتquot;.

وتضم قمم (آسيان) السنوية شركاءها الإقليميين في الحوار الأمني والاقتصادي،وهم الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند واستراليا ونيوزيلندا.

وتشمل القمم الأخرى ذات الصلة قمة الآسيان+ 3(الآسيان + الصين واليابان وكوريا الجنوبية) وقمة الآسيان + الصين وقمة الآسيان + اليابان وقمة الآسيان + كوريا الجنوبية وقمة شرق آسيا. ولا ريب إننا اليوم أمام تحول كبير في البيئة السياسية والأمنية في جنوب شرق آسيا،فقد حل التكامل محل الصراع، وحلت سياسة الحوار البناء مع القوى الإقليمية المجاورة. وعلى الرغم من ذلك، فإن التحديات لا تزال ماثلة في هذا الجزء من الإقليم، وفي مقدمتها التفاوت الشاسع في مستويات المعيشة بين دول المنطقة، واستمرار معظم النزاعات الحدودية القديمة على حالها، وتباين التحالفات الخارجية على الصعيدين السياسي والأمني،وسباق التسلّح الجاري على قدم وساق، وعودة التنافس الدولي على إقامة القواعد العسكرية، قريباً من النحو الذي كان جارياً إبان الحرب الباردة.

وبالانتقال إلى شمال شرق الإقليم، حيث دول شبه القارة الهندية، تبدو التوترات بين الهند وباكستان وقد عكست نفسها على كامل المناخ الأمني في المنطقة، وبدا الردع النووي غير المستقر بين البلدين بمثابة تحد غير مسبوق من حيث مستوى خطورته. وهناك من جهة أخرى تحديات الدور التقليدي للهند في كل من بوتان ونيبال، مقابل التطلعات الصينية المستجدة، والأمر قريباً من ذلك بالنسبة لبنغلادش،في حين فقدت الهند الكثير من دورها في سيريلانكا، بسبب تحولات داخلية بالدرجة الأولى. وتمثل رابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي ( سارك) إطاراً مؤسسياً للتعاون متعدد الأطراف في المنطقة، ووقد تشكلت في العام 1985،وهي تضم الهند وباكستان وسيريلانكا والمالديف وبنغلادش وبوتان ونيبال، وأصبحت أفغانستان العضو الثامن فيها، وذلك في أول عملية توسيع لدائرة العضوية. وقد حضرت كابول بصفتها عضواً كاملاً في القمة الرابعة عشر للرابطة، التي عقدت في نيودلهي في نيسان أبريل من العام 2007.وكانت تلك القمة هي الأولى التي يحضرها بصفة مراقب ممثلون عن كل من الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي والصين واليابان وكوريا الجنوبية.

وتضم رابطة ( سارك) نحو خمس سكان العالم، إلا أن متوسط دخل الفرد في دولها لا يتعدى 450دولاراً سنوياً. وفي هذه الدول مئات الملايين ممن يعيشون بأقل من دولار في اليوم. وحتى مطلع العام 2008، لم تطبق اتفاقية التجارة الحرة التي دشنت عام 2006على النحو الذي جرى الاتفاق. وتنص بنود الاتفاقية على أن تقوم باكستان والهند وسيريلانكا بخفض التعرفة الجمركية على الواردات بما يتراوح بين صفر وخمسة في المائة خلال السبع سنوات الأولى، على أن يكون أمام بقية الأعضاء عشر سنوات لتحذو حذوها. وحسب أقرب التقديرات، فإنّ دول الرابطة بحاجة إلى تخفيض التعرفات الجمركية من 25و 30% إلى 5% على مدى خمس إلى عشر سنوات. وعلى الرغم من ذلك، ثمة تطور إيجابي قد تحقق على صعيد التبادل التجاري بين أبرز بلدين في الرابطة وهما الهند وباكستان، حيث قفز إلى أكثر من مليار دولار في العام 2007، مقارنة بمائتين وثلاثين مليون دولار في العام

2003.وما يمكن قوله على نحو مجمل هو أن مسيرة رابطة سارك تتوقف على نحو حاسم على مستقبل العلاقات الهندية الباكستانية، وفي الجوهر منها النزاع حول كشمير. وعلى الرغم من كل ما يقال، فإن فرص تحييد التعاون الإقليمي عن هذا النزاع لا تبدو وافرة. كذلك، فإن الوضع في إقليم أسام الهندي، في شمال شرقي البلاد، يرمي بتداعيات ضاغطة على العلاقات القائمة بين دول المنطقة، إذ تجاور هذا الإقليم خمس دول هي نيبال وبوتان والصين وبنغلادش وميانمار،وحيث تبادر نيودلهي بين الفينة والأخرى باتهام بعض هذه الدول، بما فيها بوتان ونيبال، بإيواء المسلحين الذين يطالبون بانفصال هذا الإقليم ذي القيمة الجيوسياسية الفائقة الأهمية.

وبالانتقال إلى شمال غرب المحيط، ثمة صورة قريبة من حيث مستوى تعقد البيئة الأمنية، وإن ضمن سياقات مختلفة. فالنظام الإقليمي ( الفرعي) الخليجي بوحداته الثماني، دول مجلس التعاون الخليجي الست وإيران والعراق، قد تعرض في أقل من عقدين من الزمن لثلاث حروب كبيرة، كانت واحدة منها، هي الحرب العراقية الإيرانية، من أطول حروب القرن العشرين. وقد قادت عدة عوامل لإذكاء الصراعات في هذه المنطقة،أبرزها التشكيل الجيوسياسي المتنازع عليه،والصراع الدولي على النفط، وغياب الحد الأدنى من الترتيبات الأمنية القادرة على احتواء الخلافات وضبط إيقاعاتها. ويضاف إلى ذلك عامل هيكلي أفرزته حرب الخليج الثانية، يتمثل في اختلال موازين القوى السائدة، أو لنقل غياب التوازن الاستراتيجي بمدلوله العام والمجمل.

إن السؤال الجوهري الذي لا زال عالقاً في هذه المنطقة هو: كيف يتسنى لمجلس التعاون الخليجي بناء نسق متوازن من العلاقات مع كل من العراق وإيران، فضلاً عن اليمن، بحيث تؤدي هذه العلاقات وظيفتين أساسيتين، الأولى كبح التوترات قبل أن تصل إلى مستوى التفجر، والثانية تنمية مجالات التعاون المدني بصنوفه المختلفة في ظل تباين سياسي وتفاوت في الخيارات الأيديولوجية؟.

ربما يمكننا القول إن ضم العراق وإيران إلى مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يفقد هذا المجلس مبرر وجوده، تماماً كما أن ضم روسيا إلى حلف شمال الأطلسي ( الناتو) سوف يفقد الحلف الغاية التي تأسس من أجلها، هذا على الرغم من أن مجلس التعاون الخليجي ليس حلفاً أمنياً، مع صحة التأكيد في الوقت نفسه على تنامي هواجسه الأمنية. ولكن دعونا في المقابل نتصور كيف سيكون عليه حال جنوب شرق آسيا لو أن رابطة (آسيان) تشكلت في العام 1967من دون إندونيسيا ( هناك تجربة قصيرة سابقة لم تعمر)؟. وكيف سيكون الوضع لو أن (آسيان) الحالية رفضت ضم فيتنام إلى عضويتها. ودعونا نتصور أيضاً كيف سيمضي مسار التعاون الإقليمي في جنوب آسيا لو أن رابطة (سارك) لا تضم في عضويتها الهند وباكستان.

هذا الاستحضار لتجربتي التكامل في شرق الإقليم وشماله الشرقي يقربنا من صورة المعضلة القائمة في شماله الغربي، أي منطقة الخليج العربي. إنما مع ضرورة التأكيد في الوقت نفسه على اننا لا ندعو للقيام بعملية استنساخ طبق الأصل. إنها فقط دعوة لمزيد من التأمل ومزيد من مقاربة الخيارات، وصولاً إلى نسق متوازن وشفاف من العلاقات الثنائية والمتعددة، على النحو الذي يحقق للمنطقة استقرارها المنشود. والحقيقة التي يجب التأكيد عليها على نحو دائم هي إن الطريق إلى الاستقرار الإقليمي لا يمكن إحالته على نحو حصري إلى مرجعيات ثقافية وتاريخية، وهذه تجارب العالم القريبة والبعيدة تبرهن على ذلك.

وعلى الرغم من كل شي، فإن في هذه المنطقة اليوم ما يمكن التنويه به، فقد خطى مجلس التعاون الخليجي خطوات حثيثة على صعيد التقريب بين دوله، وفي الأول من كانون الثاني يناير 2008، توّج هذا المسعى بإطلاق السوق الخليجية المشتركة. وبذلك تحولت ست دول يقطنها 35مليون نسمة، مع ناتج محلي يفوق 700مليار دولار، إلى كيان اقتصادي واحد، سوف يُتمّم بإطلاق العملة الموحدة، ربما في العام 2010.يتبع حلقة ثانية.