محمد بن عبد الله الشريف
تعالت في الآونة الأخيرة نداءات بزيادة مرتبات موظفي ومنسوبي الدولة، لمقابلة جزء من الزيادات المفاجئة التي حصلت في جميع عناصر تكاليف المعيشة، واقتداء بما فعلته بعض دول الخليج الشريكة في الظروف ذاتها. والواقع أن الارتفاع في الأسعار الذي طال عناصر الحياة كافة، كان بمثابة صدمة عنيفة لسكان المملكة بوجه خاص، لأنهم نعموا باستقرار نسبي في تكاليف المعيشة، وابتعاد كلي عن شبح التضخم، طيلة العقود الأخيرة، ولهذا كان تأثير الزيادات سيئا في الأسر المتوسطة والفقيرة، خاصة وهي تشعر أنها الأقل دخلا بين مثيلاتها في دول الخليج المجاورة!...
ومع أن هناك أقلاما كثيرة انبرت لتحليل أسباب الغلاء الذي هجم على سكان المنطقة، إلا أن القليل منها كان يسوق أسبابا منطقية، قابلة للبحث وإيجاد الحلول!...

ما أسباب الغلاء؟!

1 ـ التدهور الشديد الذي أصاب الدولار في قوته الشرائية، وتأثيره بالتالي في الريال المرتبط به، فالدولار لم يعد يساوي إلا 50 في المائة من قيمته، أمام معظم العملات الرئيسة في العالم، ولا سيما اليورو، الذي تموّل به معظم مستوردات المملكة!...
2 ـ ارتفاع أسعار البترول الخام، وتأثيره في أسعار كل السلع والخدمات في العالم، سواء دخل في عناصر إنتاجها بشكل مباشر أو غير مباشر، فما من سلعة أو خدمة إلا ويسهم البترول في رفع تكلفة إنتاجها عندما يرتفع سعره، وبالتالي، يمكن القول إن حكومات الدول المصدرة للبترول تكسب عندما يرتفع سعر برميل النفط، لكن شعوبها تخسر عندما تدفع فاتورة الغلاء!... ومن ثم فإن ارتفاع سعر البترول ليس خيرا كله على مالكيه الأصليين، لأن هؤلاء المالكين، أي الشعوب، يدفعون الزيادة الحاصلة في سعره أضعافا، في صورة منتجات مغالى في سعرها!... وكأن الدول المستوردة تقول للدول المصدرة: إن زدتم زدنا، وهكذا...
3 ـ طبيعة الإنسان الجشعة، المتمثلة في حب التملك والإثراء، واستغلال حاجة الآخرين، وافتعال الأسباب التي تبرر له ذلك، فلو حصل، مثلا، سبب يرفع السلعة في مصدرها، وكان لدى وكيلها أو مستوردها مخزونا كبيرا منها، فإنه يطبق الزيادة على هذا المخزون فورا، ولو حصلت زيادة مصدرها خارجي، تؤثر في سعر الوحدة من السلعة بما مقداره ربع ريال، فإن البائع لا يعترف بهذا الجزء، بل يزيدها ريالا كاملا!.. والدليل أنك لا تجد سلعة يتكوّن سعرها من جزء الريال، أي ربع أو نصف، ولكنك تجد معظم السلع تتكون كسور الريال فيها من 95 هللة، وذلك إمعانا في تضليل المستهلك، وإيحاء بأن هذا الجزء يقل عن الريال!..
ومن جهة أخرى، فلو حدد المستورد سعرا لتاجر التجزئة يتضمن ربحا معقولا، فإن هذا الموزع لا يتقيد بهذا التحديد، بل يفتح السعر طالما وجد من يشتري، وهذا من أهم أسباب ظاهرة انتشار محال التجزئة لدينا، أكثر من أي بلد في العالم!...
وفي ظل غياب الرقابة والعقاب، وهما كما يبدو غائبان، تستشري مثل هذه الممارسات، وتتحكم في أقوات العباد بغير ما أنزل الله!...

لماذا يكره الناس زيادة دخولهم؟!

الغريب أنه رغم هذا الواقع المرير، وازدياد الغلاء يوما بعد يوم، ترتفع أصوات أخرى، من أصحاب الشأن، تطالب بعدم زيادة الرواتب والدخول، لأنهم يشعرون أن أي زيادة ستقابلها زيادة مماثلة أو أكثر في أسعار مكونات معيشتهم، ويستدلون على ذلك بالزيادة الأخيرة البالغة نسبة 15 في المائة من دخول منسوبي الدولة، الذين فرحوا بها، ودعوا لمتبنيها، خادم الحرمين الشريفين، لكنهم ما لبثوا أن فقدوا تأثيرها!... ومثلها سابقتها المكرمة الأخرى المتمثلة في خفض سعر الوقود لما نسبته 85 في المائة من المركبات، لم يعد الناس يتذكرونه، إذ سرعان ما تلاشت الفرحة، لأن هناك من يقف بالمرصاد للمكرمات، لكي يجيّرها لمصلحته!... إلى أن وصل الأمر بالناس إلى أن يتمنّوا عدم زيادة دخولهم، لشعورهم بما سيترتب على ذلك، وهذا، لعمري، غاية الإحباط واليأس، وانفلات الأمور في مجال المتاجرة بأقوات الناس!...
في الإمارات، أصدرت وزيرة الاقتصاد قرارا بمجازاة إحدى شركات الوجبات السريعة، المعروفة بوجباتها المتخمة بالدهون، (أعلن اسمها صراحة)، بغرامة مقدارها عشرة آلاف درهم، لقيامها بزيادة قيمة إحدى وجباتها درهمين، ومع أن الشركة يمكن أن تعوض الغرامة من ربح مطعم واحد في يوم أو يومين، إلا أنه يبدو أن الوزيرة أرادت من ذلك تبليغ رسالة للكل، بأنها بالمرصاد، لمن يقوم باستغلال الظروف لافتعال زيادات غير مبررة.
أما لدينا، ففي الأسبوع الماضي قامت مصانع الألبان بزيادة أسعار منتجاتها الرئيسة بنسبة 20 في المائة، وتم اتخاذ القرار بشكل جماعي، وبصورة تشبه الاحتكار والتكتل ضد المستهلك، وضد مبدأ المنافسة، وهذا يحدث رغم أن بعض المصانع لا يؤيد الزيادة، لأن خلفه تقف إدارة ناجحة تحقق له الأرباح المستهدفة!... لكنها إرادة الفاشلين!... وفي الأسبوع ذاته أعلنت مصانع المشروبات الغازية عن عزمها زيادة الأسعار، أو تصغير حجم العبوات، في تكتل آخر ضد المستهلك، وكل هذا يحدث دون أي تعليق من الجهات المعنية!...

ما الحل؟!

إن الوضح يحتاج إلى تدخل من عدة جهات، وعلى مستويات عدة، حتى لا تتأزم الأمور أكثر مما هي، ولعل أول شيء ينبغي اتخاذه والإسراع فيه هو تنفيذ ما سبق أن صدر من مجلس الوزراء، من قرارات، في شهر جمادى الثاني الماضي، ومفادها:
1 ـ إنشاء وكالة في وزارة التجارة والصناعة تسمى (وكالة الوزارة لشؤون المستهلك) تضم إليها جميع الأنشطة المتعلقة بخدمة المستهلك.
2 ـ تقوم كل من وزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة الزراعة، ووزارة التجارة والصناعة، ووزارة الصحة، والهيئة العربية السعودية للمواصفات والمقاييس، والهيئة العامة للغذاء والدواء، ومصلحة الجمارك، كل فيما يخصه، بتعزيز دورها في مجال حماية المستهلك، وتفعيله من خلال وضع المعايير والمواصفات الخاصة بالسلع والمنتجات التي تقدم للمستهلك، كما أن عليها الرقابة والتحقيق من تطبيق تلك المعايير والمواصفات.
3 ـ إنشاء جمعية أهلية تسمى (جمعية حماية المستهلك) تعنى بشؤون المستهلك ورعاية مصالحه والدفاع عنها، وتبني قضاياه لدى الجهات العامة والخاصة، ومساندة جهود الجهات الرسمية، ونشر الوعي الاستهلاكي، وحماية المستهلك من جميع أنواع الغش والتقليد والاحتيال والخداع والتدليس، ويكون لهذه الجمعية، جمعية عمومية من المواطنين الذين تتركز اهتماماتهم في مجال حماية ورعاية شؤون المستهلك!
لقد أردت التذكير بهذه القرارات، بعد أن مضى أكثر من ستة أشهر عليها، دون أن نرى أيا من خطوات التنفيذ!...