د. محمد سعد
كان إحساسي هو مزيج من مشاعر الدهشة والألم عندما قرأت تقريرا نشرته جريدة هاآرتز ldquo;الإسرائيليةrdquo; في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تتحدث فيه عما أسمته ldquo;عودة الحقوقrdquo;، وتطرق التقرير إلى الخطة التي وضعها وزير استيعاب المهاجرين ldquo;ياكوف ايدريrdquo; لعودة 25 ألفا من المهاجرين إلى الكيان الصهيوني وكلهم من العلماء وأصحاب العقول والتخصصات النادرة، بالإضافة إلى الميزانية الضخمة التي وضعتها الحكومة لإعادتهم والمميزات الهائلة التي تنتظر من يعود إلى ldquo;إسرائيلrdquo;.
تطرق تقرير هاآرتز أيضا إلى الخطة التي تبذلها الحكومة لاستيعاب وعودة 700 ألف يهودي من المواطنين العاديين إلى ldquo;إسرائيلrdquo;، والإغراءات التي تنتظرهم من حيث ضمان الحصول على وظيفة والرعاية الصحية المتميزة والإعفاءات الضريبية وغيرها.
كثير من التفاصيل وردت في التقرير لو اتسع لها المجال فإنها ستزيد من غيظ وحنق كل من يقرأ هذا المقال اذ إنه من دون شك سيتبادر إلى الذهن المقارنات بين اهتمام ورغبة ldquo;إسرائيلrdquo; في عودة هذه العقول المهاجرة، والجهود التي تبذلها الدول العربية في الإطار نفسه.
ويأتي هذا في الوقت الذي تأتي ldquo;إسرائيلrdquo; في المرتبة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة من حيث معاهد الأبحاث والقدرات العلمية، وفي المرتبة الثانية بعد ألمانيا في عدد المهندسين قياساً على عدد السكان، وفي المرتبة الرابعة بعد اليابان والولايات المتحدة وفنلندا من حيث استيعاب التطورات التكنولوجية.بالإضافة إلى وجود سبع جامعات عبرية ضمن أفضل 500 جامعة في العالم، ووجود 11 عالماً صهيونياً ضمن الفائزين بجوائز نوبل.
في الحقيقة ان الدول العربية هي أحوج ما تكون إلى تبني مثل هذه الخطط حيث هاجر من مصر فقط وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أكثر من 824 ألفا من حملة الشهادات العليا والتخصصات المميزة، بالإضافة إلى حوالي عشرة آلاف يعملون في مواقع حسّاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، من بينهم ثلاثون عالم ذرّة يخدمون حالياً في مراكز الأبحاث النووية، ويشرف بعضهم على تصنيع وتقنية الأسلحة الأمريكية الموضوعة تحت الاختبار، كما يعمل 350 باحثاً مصرياً في الوكالة الأمريكية للفضاء ناسا،إضافة إلى حوالي ثلاثمائة آخرين يعملون في المستشفيات والهيئات الفيدرالية، وأكثر من ألف متخصّص بشؤون الكمبيوتر. وتكمن المشكلة في الخطورة الهائلة التي يلمسها الجميع على مستقبل الدول العربية الأمني والاقتصادي إذا ما استمر الأمر على هذا المنوال، وفي هذا الإطار أعد الباحث العراقي الدكتور وليد الحيالي دراسة مطولة توصل فيها إلى أن التكاليف المالية و الاجتماعية الضائعة من هجرة العقول العراقية أكثر من مليار و700 ألف دولار، بالإضافة إلى أكثر من 4 مليارات دولار هي خسائر الاستغناء عن هذه العقول، وقس على عدد العلماء العراقيين بقية العلماء العرب في الخارج.
أصبحت هناك طرق عالمية لقياس تطور الأمم في مجال البحث العلمي تم إقرارها من منظمة اليونسكو، وتتضمن هذه المعايير نسبة عدد العلماء والباحثين بالنسبة لعدد السكان والأبحاث العلمية المنشورة وبراءات الاختراع المسجلة في أوروبا والولايات المتحدة. وللأسف فان المؤسسات البحثية الضخمة داخل وخارج الجامعات العربية - باستثناءات نادرة - لا تنتج شيئا،دعك من الأعداد الوهمية لرسائل الدكتوراه والأبحاث فهذه جميعا لا يعتد بها ما لم تكن منشورة في إحدى الدوريات العالمية المعروفة، والحقيقة المفزعة أنه خلال السنوات العشرين الأخيرة بلغ عدد الأبحاث العلمية المنشورة من دول العالم العربي 43 بحثا فقط في جميع المجالات ولم تنشر المجلتان العالميتان Science وNature خلال النصف الأخير من القرن العشرين وحتى الآن بحثاً عربياً واحداً، بالإضافة إلى أن مجموع ما تم ترجمته من كتب إلى العربية من عصر المأمون حتى اليوم لا يعادل ما تترجمه إسبانيا في عام واحد، وهذا يفسر المستوى المتدني للتقدير العالمي للبحث في عالمنا العربي.
إن المشكلة لا تكمن في ضعف اقتصادات الدول العربية على الإطلاق، وإنما في أولويات الإنفاق حيث يبلغ ما ينفق على شراء السلاح مثلا حوالي 100 مثل ما ينفق على البحث العلمي، وإذا ما استثنينا الجهود والتوجهات الرسمية مؤخرا لبعض الدول العربية، مثل الجهود المبذولة من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر في دعم مسيرة العلم والعلماء والبحث العلمي، وعلى وجه الخصوص المبادرة الخلاقة التي أعلن عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي بإنشاء ldquo;مؤسسة محمد بن راشد آل مكتومrdquo; لإطلاق جهود التنمية العربية الإقليمية، التي خصص لها وقفاً بمبلغ عشرة مليارات دولار تستهدف إعداد أهل المعرفة ومجتمع المعرفة في منطقتنا وذلك بتقديم الدعم للعقول والقدرات الشابة والتركيز على العطاء للبحث العلمي والتعليم والاستثمار في البنية الأساسية للمعرفة. أما باقي الدول العربية فالأمر يحتاج إلى إعادة نظر حيث إن الإنفاق الحالي رغم ضآلته يحتاج إلى كثير من الترشيد وهو ما نطالب أن يتم وفقا لخطة حقيقية مدروسة تؤدي لنتائج ملموسة، وهو أول الحلول التي سنفرد لها الجزء الثاني من المقال.
كاتب اقتصادي مصري
- آخر تحديث :
التعليقات