بقلم محمد الأمين عيتاني
فيما البلاد غارقة في سجال سياسي وأمة دستورية عقيمة وفراغ رئاسي، يعيش الاقتصاد اللبناني حال تدهور صامتة تؤدي الى تآكل كل مقومات نجاحه وصموده.
فشلل الازمة السياسية ينعكس بطبيعة الحال شللاً اقتصادياً ويتسبب في تفريغ الوسط التجاري من مقومات الاستمرار وتعطيل مفاعيل مؤتمر باريس 3، وكل ذلك والمعارضة لا تزال على موقفها الممعن في تعطيل المؤسسات، واخذ الاستحقاق الرئاسي رهينة لتحقيق مطالب أقل ما يقال فيها انها ترمي الى الانقلاب على اتفاق الطائف الذي أرسى دعائم السلم الأهلي.
ونتيجة هذا التعاطي السياسي غير المسؤول، يفقد لبنان العديد من الفرص التي كان في امكانها تحقيق نمو اقتصادي يساعد في تخفيف العجز الاقتصادي وتوظيف استثمارات تساهم في ايجاد آلاف فرص العمل، وخصوصاً في ظل الطفرة النفطية الخليجية.
صحيح ان ثمة عدداً من المؤشرات الايجابية مقارنة مع عام 2006، الا ان ذلك لا يمنع من القاء الضوء على بعض القضايا الاقتصادية الملحة التي يجب ان تشكل ارضية صالحة متوافق عليها لبدء معالجتها حتى قبل انجاز الاتفاق السياسي على القضايا الخلافية التي نشهدها اليوم.
لذلك نرى من المفيد التذكير بتجارب اقتصادية يمكن ان نستنبط منها افكاراً ونستشرف منها آفاق الحلول لاقتصادنا المتعثر.
فالعديد من الدول الصغيرة تمكنت من استنباط انظمة اقتصادية متطورة مكنتها من تأمين نمو اقتصادي ملحوظ في فترة قياسية، على رغم قلة عدد سكانها وافتقارها الى الموارد الطبيعية. ونذكر في هذا السياق مجموعة النمور الآسيوية وايرلندا وسويسرا.
ان ارتفاع دخل الفرد واعادة تأهيل البنى التحتية لهذه البلدان مؤشر على نجاح تجاربها الاقتصادية، وهذا ما وفّر لمواطنيها والمستثمرين فيها حياة اجتماعية وتجارية رفيعة المستوى.
ولقد تحقق هذا النجاح الملحوظ لهذه البلدان من طريق اعتمادها لمجموعة من الانظمة الاقتصادية والسياسية المتطورة التي مكنتها من الاستفادة من موقعها الجغرافي، وقدراتها الداخلية، وازدهار المناطق المحيطة بها، كذلك سمح لها بوضع استراتيجية ناجحة استشرفت من خلالها المستقبل بثقة وطموح.
فهل للبنان ان يتعلم شيئاً من نجاح هذه الدول؟ واذا صح ذلك، فما هي هذه الدروس وكيف يمكن الاستفادة منها لضمان انتعاش اقتصادي سريع يقودنا الى التفوق؟
ارتكز ازدهار النمور الآسوية الاقتصادي على نموذج يقوم على الاستفادة من قدرة البلاد الداخلية لأبعد مدى، مما آتاح لها فرصة التفوق في انتاج البضائع الاكثر رواجا وتصميمها. اسهم توافر العلم والخبرة واليد العاملة الرخيصة في فتح الاسواق الخارجية امام صناعاتها على مدى واسع وأمن لها عائدات جيدة. ولقد اعتمدت هذه الدول على مهارة مواطنيها والتزامهم تنفيذ استراتيجية اقتصادية للصادرات الطويلة الأمد، مما أتاح لها كسب العملة الصعبة التي استثمرت بدورها في التحسينات المستمرة للانتاج، وهذا ادى الى تحسين جودة البضائع وتخفيض سعرها، وأوجد دينامية بين امكانات الانتاج والقدرة على التصدير. وهذا هو الدرس الرئيسي الذي نستخرجه من هذه العملية، والمتمثل بالاستراتيجية الطويلة الأمد القائمة على الموازاة بين القدرات الداخلية ومتطلبات الاسواق الخارجية، من اجل ضمان استمرارية الخطط الاقتصادية وتقدمها.
فايرلندا مثلاً كانت بلداً فقيراً شهد لأعوام طويلة هجرة العديد من مواطنيه (المثقفين والعمال)، وقد هرب هؤلاء المهاجرون بسبب الظروف الاقتصادية السيئة وصعوبة الوضع السياسي. الا انهم تمكنوا من تحقيق نجاحات باهرة اينما ذهبوا. وهذا مكنهم من مساعدة افراد اسرهم، الذين لم يغادروا ايرلندا، من طريق التحويلات المصرفية اليهم او تسهيل معاملات هجرتهم. ثم ما لبثت ان نعمت ايرلندا بالسخاء والعيش الرغيد اثر انضمامها الى الاتحاد الاوروبي، فتم تحويل الكثير من الاستثمارات النقدية اليها لضمان الجدوى الاقتصادية ورفاهية مواطنيها. واستثمرت هذه الاموال من طريق اعتماد انظمة متطورة في مجال الخدمات الحيوية، كمراكز الاتصالات، وتطوير البرامج الالكترونية والتكنولوجية. وسمحت اليد العاملة الرخيصة، مقرونة بالمهارات ذات المستوى العالي وسلاسة النظام الضريبي للكثير من الشركات الانتقال الى ايرلندا، كذلك اتاحت للعديد من المهاجرين فرصة العودة الى ديارهم والاستثمار بكثافة في قطاعات الانتاج.
ان تدفق الاموال من المناطق الاوروبية جعل من ايرلندا مركزاً اقتصادياً ناجحاً دفع بها الى مرتبة البلدان المتقدمة في العالم. فتمتع مواطنوها بالنعيم والثروات نسبياً وانعكست اتجاهات الهجرة بعودة المهاجرين.
هنا تكمن اهمية الاستقرار السياسي والشفافية الاقتصادية لضمان استقطاب السيولة النقدية من الدول المزدهرة المجاورة.
اما العبرة الاخرى فتكمن في الاستفادة من شتات المهاجرين بطريقة فاعلة لدعم ازدهار الاقتصاد. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من طريق وضع خطة تمويل طويلة الأمد، وحماية الاستثمارات بأنظمة قضائية رصينة، وتوافر ما يكفي من مشاريع الاستثمار الخاصة، التي تتناسب مع القدرات الوطنية، والتي توفر ميزة تنافسية ليس من السهل نسخها او استخدامها في الدول الأخرى.
ويستند نجاح سويسرا الى الاستفادة الكلية من الظروف الجغرافية والسياسية التي توفرها الدول المحيطة بها. فعندما شهدت اوروبا حقبة الحروب، حافظت سويسرا على موقعها كملاذ آمن لاموال جميع المواطنين والدول الاوروبية. ولم يحتل الألمان سويسرا، ولكنهم عوضاً عن ذلك، فاستخدموا نظامها المصرفي لحماية اصولهم. واعتمدت الدول الاخرى، على الرغم من دمارها، على المصارف السويسرية لضمان المدفوعات وتخزين امكاناتها الثمينة.
لقد نجحت سويسرا في بناء نظام مستقر، بغض النظر عن التحديات العديدة التي واجهتها على مر السنين. وعلى رغم ان شعب سويسرا غير متجانس ويضم الكثير من المجموعات العرقية والدينية، الا ان هذه المجموعات اتفقت جميعها على اهمية دور بلدها على المدى الطويل، فقامت بتنفيذ هذه الاستراتيجية على نحو صحيح، واستخدمت كفاياتها المصرفية بنجاح، لا بل عملت على انفاذها في جبه التهديدات المحتملة (مثل الحفاظ على السرية المصرفية بغض النظر عن مطالب العديد من المصادر لاسقاطها).
ومن الدروس التي يمكن استخلاصها من سويسرا، هو ان الاستراتيجية الاقتصادية ليست في حاجة الى ان تكون معقدة، بل يمكن ان ترتكز على القدرات المتوافرة لضمان أعلى مستوى استفادة منها. اما الدرس الآخر فهو استثمار الموقع الجغرافي بطريقة ذكية مما يؤدي الى سهولة تعزيز قدرات البلد. لقد شددت النظريات الاقتصادية على اهمية استخدام الموقع الجغرافي في بناء الثروات، وقد تكون سويسرا افضل مثال لتأكيد ذلك.
فكيف يمكن تصنيف وضع لبنان في ضوء ما تقدم؟ من البديهي ان الدروس التي يمكن استخلاصها برزت بوضوح في المعلومات التي اوردناها. اما التنفيذ، فيبقى التحدي الأكبر. بيد انه لا يتعين ان يكون احادي السبيل، اذ يتمتع لبنان اذا ما استندنا الى كل ما تقدم من عوامل القوة التي تسمح بنجاح بلدان اخرى وهي:
- موقع البلاد الجغرافي في منطقة تشهد ازدهاراً كبيراً: quot;ففي ظل الطفرة النفطية نتيجة ارتفاع اسعار النفط، تتضاعف اموال الخليج التي يمكن ايجاد طريق لها الى لبنان لاستثمارها اذا ما سمحت البيئة الاقتصادية والمناخات السياسية بذلك.
- شعب مفعم بالحيوية اثبت نجاحاته في جميع انحاء العالم وعمل على تحويل العملة الصعبة الى دياره.
- القدرات الداخلية التي يتمتع بها اصحاب المهارات العالية (والمثقفون) مقرونة بالتكاليف المنخفضة نسبياً، فضلاً عن الخبرة والالمام المهم بالعديد من القطاعات الاقتصادية.
اما ما لا يملكه لبنان ويحتاج الى تأسيسه وايجاده في اقرب وقت ممكن، فهو العوامل الآتية:
1 ndash; استراتيجية طويلة الامد مبنية على العناصر السابقة الذكر.
2 ndash; انظمة قضائية وضريبية شفافة وكفية (شفافة وليس ضعيفة) لحماية الاستثمارات والمستثمرين من المشاكل غير الضرورية.
3 ndash; خطة عمل ملموسة وهادفة لضمان مشاركة شتات اللبنانيين المهاجرين في انعاش البلد اقتصادياً.
4 ndash; نظام سياسي متين وموثوق به بحيث يتم استئصال الفساد وابعاد الخلافات السياسية عن الاقتصاد.
5 ndash; مشاركة فاعلة لكل من القطاعين الخاص والعام في عملية جذب فائض اموال البترول النقدية التي تتراكم في دول الخليج.
اذا بدأنا تنفيذ ما تقدم، ما من شيء يمنع بلدنا لبنان من التحكم بمفاصل استشراء الدين العام في محاولة لاطفائه ومن ثم بدء مرحلة الألف ميل نحو التحول الى نمر اقتصادي آخر في منطقة الشرق الاوسط.

نائب بيروت