د. عبد العزيز مسعد الوذيناني
في اليوم الأول من منتدى الرياض الاقتصادي طُرحت ورقة عمل عن تطوير الفوائض المالية للدولة وكيفية توظيفها، وطالبت ورقة العمل بإنشاء شركة استثمارية مملوكة للدولة تقوم بإدارة هذه الفوائض المالية واستثمارها من أجل تنميتها لتستفيد منها الأجيال المقبلة لكيلا يكون مصيرها شبيهاً بالفوائض المالية التي حققتها الدولة في الطفرة الاقتصادية الأولى، حيث ذهبت تلك الفوائض أدراج الرياح دون أن يستفيد منها البلد وأهله.
أنا أشاطر القائمين على منتدى الرياض الاقتصادي هذا الحرص على مصلحة هذا البلد الطيب وأهله، وأن تستثمر موارده الناضبة (البترول) الاستثمار الأمثل من أجل تقدمه ورقيه ورفعة شأنه، وكذلك أٌكبر فيهم استشعار المسؤولية الملقاة على عواتقنا جميعاً تجاه الأجيال المقبلة، ولكني أختلف معهم في الكيفية التي يجب أن تُدار بها الفوائض المالية للدولة، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: هناك مثل أمريكي يقول: quot;مَن لا يتعلم من التاريخ حكم عليه أن يعيدهquot;، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات المبعثرة هنا وهناك، التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، فإن القطاع العام مستثمر فاشل، ولم يزدهر أي اقتصاد في العالم سواء أكان قديماً أم حديثاً تسيطر عليه الدولة، ولنا في تجربة الدول الشمولية عبرة.
ربما يقول بعضهم شركة سابك أنشئت من قبل الدولة، وهي اليوم من كبريات الشركات العالمية، أنا لا أختلف معهم على مكانة شركة سابك اليوم، فهي حالة استثنائية على مستوى التجربة السعودية ولكن لو توافرت الإمكانات والدعم غير المحدود، فضلاَ عن الحصول على المواد الخام بأسعار أقل ما يُقال عنها أنها تنافسية لأي شركة في العالم مهما كانت لأصبحت هذه الشركة إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فإذا ما قورنت quot;سابكquot; مع أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة من حيث متوسط العائد على الأصول المستثمرة فإن المقارنة ليست في مصلحة quot;سابكquot;.
ثانياً: تكوين الشركات الاستثمارية التي تُدار بعقلية القطاع الخاص ربما يكون مناسباً، بل ضرورياً للصناديق العامة مثل صندوقي التقاعد والتأمينات الاجتماعية، حيث إن هذا يتلاءم مع أهدافها الأساسية، فالتزامات هذه الصناديق أكبر بكثير من مساهمات المشتركين فيها، وبهذا يكون لزاماً عليها أن تستثمر أصولها في مجالات ذات عائد بحيث تكون التزاماتها دائماً أقل من أصولها، فهذه الصناديق، وإن كانت حكومية، أهدافها تختلف كلياً عن أهداف الحكومة.
ثالثاً: إذا افترضنا تكوين مثل هذه الشركات السيادية (المملوكة من قبل الدولة) التي ستكون تحت تصرفها موارد مالية في غاية الضخامة، فإن هذه الشركات ستبحث عن اقتصاديات آمنة (فيها قوانين تحمي الملكية من المصادرة والابتزاز) للاستثمار فيها، حيث إن اقتصادنا ليس لديه القدرة على استيعاب الفوائض المالية الضخمة المتوافرة للدولة، فضلاَََ عن أنه ليس من مصلحة الاقتصاد السعودي أن يسيطر عليه القطاع العام.
الأسواق الآمنة التي تتوافر فيها حماية لرؤوس الأموال المستثمرة هي السوق الأمريكية (الاقتصاد الأكبر في العالم)، السوق اليابانية (ثاني أكبر اقتصاد في العالم)، والسوق الأوروبية المشتركة، إذا استثنينا الاقتصاد الياباني بحكم أنه مرَ بحالات كساد اقتصادي معظم العقدين الأخيرين، فإن أكثر من 60 في المائة من الاستثمارات الأجنبية، وكذلك الفرص الاستثمارية هي في السوق الأمريكية، وبناء عليه فإنه من المعقول أن نستنتج أن الشركات السيادية (السعودية) لا بد أن توجه جل استثماراتها للسوق الأمريكية، هذا ربما يكون مقبولاً قبل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) التي جميعنا يعرفها، ولكن في عالم ما بعد هذا التاريخ أصبح العالم بأسره يتوجس من كل شيء له صلة بالعرب بوجه عالم بالسعودية بوجهٍ خاص، ويزداد الأمر سوءاً عندما يتعلق الأمر بالحكومات، حيث أصبحت مهاجمة العرب ومصالحهم الاقتصادية شيئاً مقبولاً من الناحيتين الأخلاقية والاجتماعية (راجع التغطية الإعلامية والهجوم الذي قاده الكونجرس الأمريكي بجناحيه الديمقراطي والجمهوري على شركة موانئ دبي عام 2006). هذه النظرة لا أتوقع أنها ستتغير في المستقبل المنظور، ما يجعل الشركات السيادية، والسعودية على وجه الخصوص، عرضة للحملات الإعلامية والسياسية المغرضة، وهذا سيؤدي إلى تضييق الخناق على الاستثمارات السعودية، ليس السيادية منها فحسب، بل سيطول هذا الاستثمارات الخاصة، وبهذا يكون ضرر الشركات السيادية علينا أكبر بكثير منافعها المتوقعة.
أخيراً: أعتقد أنه من الأفضل لنا وللأجيال المقبلة أن تستثمر الفوائض المالية في مشاريع البنية التحتية التي تتطلب استثمارات ضخمة مثل التعليم، ونظام المواصلات، وشبكة الاتصالات، والمياه، وغيرها من المشاريع الكبيرة الضرورية لخلق بيئة مناسبة لتنمية اقتصادية مستدامة، فالخدمة التي يمكن أن نقدمها للأجيال المقبلة هي أن نترك لهم اقتصاداً مزدهراً وقوياً يستمد قوته مما ينتجه الاقتصاد السعودي من سلع وخدمات بدلا من ترك مستقبلهم مرهوناً لموارد ناضبة.
- آخر تحديث :
التعليقات