محمد حسن علوان
لا أحد يتوقع أن تعاود أسعار الغذاء العالمي الانخفاض وحدها حتى لو انخفضت أسعار النفط لأن عوامل أخرى ستظل قائمة. ومن أهمها انخفاض نمو القطاعات الزراعية في العالم عن معدلات النمو السكاني، وقد تعلّقت بعض الآمال بأفريقيا في إنقاذ العالم من هذه الأزمة بما تملكه من أراض خصبة، وأيد عاملة رخيصة. إلا أن انعدام البنية التحتية، وانخفاض الأمن الاستثماري في دول أفريقيا بخّر هذه الآمال، وفي أحسن الأحوال فإن تأهيل أفريقيا للإنتاج الزراعي العالمي الذي يعيد التوازن إلى أسعار الغذاء يتطلب سنواتٍ طويلة من العمل.
ماذا عن البلدان الزراعية التي تملك البنية التحتية فعلاً، لماذا لا تزيد من إنتاجها الزراعي لتغطية العجز العالمي؟ الجواب هنا متعلّق بقانون المرونة الاقتصادي الشهيرElasticity، فالمزارعون عندما يجرون حساباتهم يجدون أنه لكي يحققوا ربحاً من توسيع مزارعهم فإن الأسعار يجب أن ترتفع عشرة بالمئة عن كل واحد بالمئة من زيادة الاستثمار الزراعي. وبما أن الأسعار مرتفعة أصلاً، فإن المزارعين يتوقعون عدم إقبال المستهلكين، وبالتالي يحجمون عن زيادة إنتاجهم، ويكتفون بالأرباح التي تحققها لهم الأسعار الحالية.
إذن، وحسب هذه الظروف، سيظل هناك دائماً بشرٌ أكثر، وغذاء أقل يحصل عليه من يدفع أكثر. وبما أن المحللين الاقتصاديين أعلنوا استحالة انخفاض أسعار الغذاء العالمي في المستقبل القريب، فإن حكومات الدول المتضررة توقفت عن بذل محاولات يائسة لخفض الأسعار العالمية، أو إعادة توجيه الاقتصاد العالمي لمصالحها، لأن ذلك لم يعد حلاً واقعياً تقدر عليه. فلا أحد يمكنه أن يجبر الصينيين على استهلاك لحوم أقل، ولا أن يمنع الأمريكيين من قيادة السيارات الخضراء، ولا أن يطلب من الهنود التوقف عن الإنجاب، ولا أن يناقش الأوروبيين في قوانينهم البيئية الصارمة، ولا أن يجبر المزارعين على قبول أسعار أقل وإلا توقفوا عن الإنتاج كما فعلوا في روسيا، أو وجهوا محاصيلهم إلى معامل الإيثانول كما فعلوا في أمريكا.
وبالتالي اتجهت الحكومات إلى الحلول الداخلية بعد أن عجزت عن الحلول الخارجية، وانصرفت إلى محاولة توفير المناخات القانونية والتجارية التي تخفف العبء جزئياً على المواطن، وراحت تحاول إقناع الناس بالتكيف مع أسعار الغذاء المرتفعة، ومحاولة مساعدتهم على مثل هذا التكيف الصعب. وهو تكيفٌ صعبٌ فعلاً حتى على الدول الغنية، لأن الناس تعوّدوا على الغذاء الرخيص طيلة الثلاثين سنة الماضية، وأصبحوا ينظرون إلى الغذاء الرخيص على أنه حقٌ مكتسب، وليس سلعة يفاوضون عليها كبقية السلع.
ولكن الحلول الداخلية محدودة، وتكاد تنحصر كلها في ستة إجراءات اقتصادية وتجارية وقانونية تقليدية وهي: (1) محاولة تحسين دخل المواطن حتى يتمكن من توفير الغذاء، (2) تغيير التعرفة والضريبة الجمركية لإنعاش المنافسة وتخفيض جزء من الأسعار، (3) مراقبة الأسواق والأسعار لمنع التجار من رفع أسعار بعض السلع التي لا علاقة لها بالأسعار العالمية، ولكنهم يستغلون ذلك كحجة، (4) دعم السلع الأساسية والضرورية حتى تنخفض أسعارها على المستهلك النهائي، (5) رفع الوعي الاستهلاكي لدى المواطن وتوجيهه إلى شراء ما يحتاجه، وليس ما يتمناه، (6) الحل الشيوعي: تثبيت أسعار الأغذية الضرورية أو بعضها بقوة القانون.
أغلب الدول المتضررة من ارتفاع أسعار الغذاء قامت باستخدام واحد من الحلول السابقة، أو مجموعة منها، حسب ظروف كل دولة، ونوعية قوانينها، وحجم اقتصادها. فروسيا مثلاً، حديثة العهد بالاقتصاد الحر، فوجئت بارتفاع الأسعار، فلم تجد حلاً إلا في من عهدها الشيوعي السابق، فاستخدمت الحل السادس، وقررت تثبيت سعر الحليب والبيض والخبز رغم أنف التجار، فلا يحق لأي منهم أن يبيع أياً منها بغير السعر الثابت الذي حددته الحكومة. وبالطبع فإن هذا القانون أدى إلى إفلاس المزارعين وتجار الأغذية لأن التكلفة ترتفع بسبب السوق العالمي، والسعر ثابت بسبب القانون المحلي، مما أدى إلى تلاشي الربح تماماً. فلم يعد أمام التجار والمزارعين أي دافع للاستمرار في الإنتاج، فاختفت أغلب البضائع من الأرفف، ولم يبق إلا خيارات قليلة أمام المواطن الروسي من بضائع قليلة الجودة غالباً. وربما كانت الحكومة الروسية تدرك أن هذا الحل سيفشل حتماً، ولكن بعض القرارات الاقتصادية يتم تبنيها تحت ضغوط سياسية مؤقتة، مثل الانتخابات، فمثل هذا القرار في روسيا تم اتخاذه قبل الانتخابات بفترة قصيرة، لجذب الناخبين البسطاء، ولم تظهر نتائجه السيئة إلا بعد الانتخابات.
الفلبين اختارت الحل الثاني، وقامت بخفض الضريبة الجمركية لاستيراد النفط لخفض أسعار الوقود، حتى ينفق المواطن الفلبيني ما وفره من سعر الوقود على شراء الغذاء. أما أستراليا، الدولة الرأسمالية الغنية، فلم تجد حكومتها من بين كل قائمة الحلول المتاحة إلا الحل الخامس، وهو رفع الوعي الاستهلاكي، فأصدرت الحكومة (مشكورةً!) تحذيراً للناس من ارتفاع أسعار الغذاء، ونصحتهم بالاستعداد لذلك سواء بتغيير عاداتهم الغذائية وسلوكهم الاستهلاكي. وفي المغرب، اختارت الحكومة المغربية تطبيق الحلين الثاني والسادس، فقررت تثبيت سعر الخبز فقط دون غيره (بحجة أنه لا يوجد سبب لارتفاع أسعار الخبز أصلاً، لأن الرغيف يتطلب كماً يسيراً جداً من الدقيق، بينما التكلفة الرئيسة في سعره تكمن في اليد العاملة التي تعجنه وتخبزه وليس في مواده الأولية)، وقامت الحكومة المغربية أيضاً بتخفيض الرسم الجمركي على الاستيراد لرفع مستوى المنافسة لعلها تخفض الأسعار. أما دول الاتحاد الأوروبي، فقد قامت بعض الدول بإيقاف الدعم الحكومي للمزارعين بما أنهم صاروا في غنى عنه، وقررت توجيه هذا الدعم إلى قطاعات أخرى تخفف العبء على المواطن في النفقات الصحية مثلاً، فتسمح له بتوفير (يوروات) أكثر لشراء الغذاء. وهو صورة من صور الحل الأول (تحسين دخل المواطن).
أما دول الخليج عموماً فقد اختار أغلبها تشكيلة من الحلول الخمسة الأولى، بمستويات مختلفة من دقة التنفيذ. فسعت إلى تحسين دخل المواطن عن طريق رفع رواتب الوظائف الحكومية، وإيجاد مصادر أخرى للدخل مثل الاكتتابات وغيرها. كما أصدر أغلبها دعماً إضافياً للسلع الضرورية أو استمر في الدعم السابق، ووقعت اتفاقية السوق الخليجية الحرة فيما بينها لإلغاء التعرفة الجمركية وتخفيض الضرائب، وقام بعضها (مثل الإمارات) بفرض رقابة عالية على التجار لمنعهم من رفع أسعار ما لا يوجد مبرر لرفع سعره، بينما ظلت هذه الرقابة في دول أخرى، مثل السعودية، أقل من المستوى المأمول. وأسهمت الصحافة في زيادة الوعي الاستهلاكي للمواطن عن طريق متابعة ارتفاعات الأسعار، وتحويلها إلى قضايا رأي عام كما قامت صحيفة الوطن مثلاً عندما تناولت قضية الألبان.

*كاتب سعودي