327 مليار دولار الإستثمارات في أبوظبي وحدها:
حمى الإستثمار العقاري في الإمارات تحول التركيبة السكانية إلى مرض عضال

تاج الدين عبد الحق من أبوظبي
تثير الأرقام التي تشير إلى قيمة المشروعات العقارية التي ينتظر تنفيذها في إمارة أبوظبي خلال السنوات القليلة المقبلة، دهشة لدى الكثيرين لا بسبب ضخامة تلك الأرقام، ولكن للكيفية التي ستهضم بها الإمارة هذه المشاريع التي ستغير وجه إمارة أبوظبي بالكامل. ومن المنتظر أن تسلط الدورة الثانية لمعرض سيتي سكيب الذي ينطلق في 13 أيار/مايو المقبل المتخصص في عرض المشروعات العقارية الضوء على عدد من المشاريع السكنية والسياحية والترفيهية في الإمارة، والتي تصل تقديرات المبالغ المستثمرة بها الى أكثر من 1,3 تريليون درهم أي ما يزيد عن 327 مليار دولار أميركي.
وتعطي أزمة الإسكان الخانقة التي تعاني منها أبوظبي وارتفاع الإيجارات زخمًا لعملية البناء والتعمير التي حولت إمارة أبوظبي الى ورشة إعمار، لكن الانخراط في عمليات التعمير لا يحجب المخاوف والهواجس التي يبديها بعضهم إزاء ما تخلفه من آثار على صعيد خلل التركيبة السكانية.
وعلى خلاف دورات التنمية العقارية السابقة، فإن السوق المستهدف لهذه المشاريع لا يقتصر على الإماراتين بل على الأجانب سواء كانوا مقيمين حاليًا أو قادمين جدد. ومع ان السلطات المحلية في أبوظبي وضعت ضوابط لتملك الأجانب للعقارات من خلال تخصيص مناطق يسمح فيها البيع للأجانب أو من خلال اعتماد مبدأ التأجير الطويل الأمد للأجنبي والذي يمتد لفترات تتراوح بين 50 و99 عامًا، فإن هذه الضوابط لا تبدو كافية لتهدئة المخاوف التي أطلت بوضوح في مؤتمر الهوية الوطنية الذي عقد في أبوظبي وجعلت شخصية أمنية بحجم ضاحي خلفان تميم قائد شرطة دبي يصف عمليات البناء العقاري الحالية بأنها عملية هدم للامارات نفسها في إشارة الى ما يعتبره تهديدا للهوية الوطنية.
والملفت للنظر ان الوتيرة المتسارعة التي تتم فيها عمليات البناء والإعمار لا يقابلها جهد مواز على صعيد حل معضلات التركيبة السكانية التي تبدو لبعضهم بأنها أزمة مستعصية ومرض عضال لا براء منه. ومع ان الرسميين يعطون إشارات غامضة عن جهود تجري خلف الكواليس بهدف معالجة الخلل في التركيبة السكانية إلا أن هذه الإشارات غير كافية لتبديد القلق العميق الذي تشعر به نخب فكرية وإعلامية بل وبرلمانية.
ومن ابرز الجهود التي تجري خلف الكواليس ما يتم في إطار لجنة التركيبة السكانية التي يرأسها وزير الداخلية الشيخ سيف بن زايد ال نهيان. على ان رئاسة الشيخ سيف للجنة لا يعني ان المعالجة المنتظرة ستأخذ طابعًا امنيًا، فالمشكلة من التعقيد والتشعب اللذين لا تستطيع معه جهة واحدة إيجاد حلول قابلة للتطبيق .
ويشكل الطابع الفيدرالي لدولة الإمارات معظلة في محاولات علاج خلل التركيبة السكانية إذ ان اي حل لا بد ان يعكس رؤية توافقية بين مختلف الإمارات الأعضاء في الاتحاد وهي رؤية تتباين بسبب اختلاف الأولويات والموارد. كما أن أي حل يجب ان يكون قادرًا على احتواء وتلبية المصالح الخاصة الضيقة الى جانب المصالح العامة للدولة ككل . ولعله بسبب الفشل في إيجاد صيغة توافقية تجمع المحلي والاتحادي وتجمع الخاص والعام، هو الذي أدى الى فشل كل المحاولات التي جرت على مدى السنوات الماضية لإيجاد مخرج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها مشكلة التركيبة السكانية .
وحتى الآن، فإن الصوت الأعلى بين الذين يحذرون من خطر التركيبة السكانية هو للذين يدعون الى إبطاء عملية الإعمار الحالية وتكيفها حسب الاحتياجات المعقولة. لكن يبدو ان صدى هذا الصوت العالي يتردد في واد أصم، إذ لا يظهر في الأفق ما يشير الى اي توجه الى تغيير وتيرة البناء الحالية خاصة مع توفر الموارد المالية الهائلة التي نتجت عن ارتفاع أسعار النفط وعن تحسن أداء قطاع الخدمات فضلاً عن قدرة الاقتصاد الإماراتي على استقطاب استثمارات إقليمية وأجنبية بمليارات الدولارات .
ولا تقدم الأصوات التي تحذر من خطر التدفق غير المنضبط للعمالة الأجنبية حلولا واقعية للمشكلة ، وجل ما تفعله بعض هو التحذير من الانعكاسات الأمنية والاجتماعية لوجود تلك العمالة ، دون ان يكون لها برنامج بديل للإحلال خاصة في القطاعات التي لاتلقى جاذبية عند نظرائهم من المواطنين .
وليست مشكلة التركيبة السكانية هي المشكلة الوحيدة التي أفرزتها الطفرة العمرانية الحالية ، فهناك أزمات أخرى جاءت على شكل توابع لتلك الطفرة ومنها الغلاء والتضخم . ومع ان هذا الغلاء يبدو جزءًا من مشكلة عالمية إلا ان له وجهًا محليًا يتمثل في ارتفاع الإيجارات التي تشكل النسبة الرئيسة والمكون الاساسي في مشكلة الغلاء والتضخم
كما ان من توابع الطفرة تصاعد حمى القروض الشخصية التي وضعت مئات الآلاف من المواطنين والمقيمين تحت وطأة قروض تتصاعد قيمتها عاما بعد عام وتهدد بأزمات تداعى لطرحها والتحذير منها المجلس الوطني الاتحادي فضلاً عن الصحف ووسائل الإعلام. وتشكل عمليات المضاربة على العقارات والتي لا تزال النسبة الكبرى منها على الورق ابرز الدوافع للاقتراض. ويرى المحللون ان اي تباطؤ في حمى المضاربة الحالية سيكشف مراكز مالية لكثيرين، وعندها فإن كرة الثلج العقارية ستفصح عما تحتها من مخاطر.