سعود بن هاشم جليدان: احتضن قطاع عزة رغم صغر مساحة الكثير من اللاجئين الفلسطينيين من المناطق المحتلة بعد نكبة عام 1948م. وتبلغ مساحة القطاع نحو 360 كيلومتراً مربعاً ويؤوي مع ذلك نحو 1.5 مليون نسمة، وبذلك تبلغ الكثافة السكانية في الوقت الحالي 4166 شخصاً للكيلو متر المربع، وهي من أعلى المعدلات على مستوى العالم (معدل الكثافة السكانية للمملكة 12 فردا لكل كيلو متر مربع). ويمثل اللاجئون نحو 85 في المائة من سكان القطاع، ويقطن معظمهم في مخيمات لاجئين ويتلقون مساعدات من منظمة الانروا (وهي المنظمة المكلفة بإغاثة اللاجئين الفلسطينيين والتابعة للأمم المتحدة).

وتشن إسرائيل منذ إنشائها كل أنواع الحروب على العرب بشكل عام. وتخص الأراضي المحتلة في فلسطين بجميع أشكال الحروب والمكر والتآمر. وتشن حرباً اقتصادية لا هوادة فيها على الأراضي الفلسطينية وبالخصوص قطاع غزة. ومع معاناة قطاع غزة من تدفق اللاجئين الفلسطينيين قبل عام 1967م ومحدودية الموارد المتاحة للقطاع قبل الاحتلال الإسرائيلي إلا أن القطاع تعرض لأبشع أنواع الاستغلال والابتزاز بعد الاحتلال. وعانى قطاع غزة ولا يزال يعاني من حرب اقتصادية شرسة تشنها إسرائيل بمباركة وتساهل معظم دول العالم. وقد تعمد الاحتلال الإسرائيلي إحداث دمار واسع وعميق لاقتصاد قطاع غزة الضعيف أصلاً، والذي كان يعاني من حشر مئات الآلاف من اللاجئين في مساحة جغرافية محدودة وبنية تحتية متخلفة. ولم تقتصر ممارسات إسرائيل على التدمير المتعمد لاقتصاد قطاع غزة بل عمدت على مر السنيين إلى جعله مركز اعتقال كبير للفلسطينيين تستطيع شن حملات قتل على سكانه دون مراعاة أو التزام بأدنى القيود الإنسانية أو الأخلاقية.

وقد أدت ممارسات إسرائيل ونجاحها في إفقار القطاع إلى تحويله إلى مصدر للعمالة الرخيصة التي تدعم رفاهية الإسرائيليين. كما نجح تدمير البنية الاقتصادية الأساسية في تحويل القطاع إلى سوق مستهلك للسلع والخدمات الإسرائيلية لتكتمل حلقة استعمار القطاع. وقد حاربت إسرائيل خلال الأعوام الـ 40 التي حكمت فيها القطاع نمو الصناعات المحلية لمنع استقلال الفلسطينيين بصناعاتهم عن إسرائيل. ودفعتهم إلى ربط كل الصناعات والنشاطات الاقتصادية في القطاع وباقي الأراضي المحتلة بالاقتصاد الإسرائيلي. وتمكنت من تحقيق أهدافها من خلال ممارسات التدمير والمصادرة والضرائب وإغراق السوق المحلية بمنتجات رخيصة (وخطرة في بعض الأحيان)، وإهمال تنمية البنية الأساسية والطاقات البشرية والمادية بل سعت قدر المستطاع إلى تدميرها. وسعت إسرائيل باستمرار إلى منع القطاع من الاستقلال بصناعاته لأنها تعلم جيداً أن ربط القطاع اقتصاديا باقتصاد إسرائيل يمنعه من الاستقلال الفعلي عنها. فالاستيراد عن طريق إسرائيل والتصدير عن طريق إسرائيل والمواد الأولية تأتي من إسرائيل. كما أن إجراءات إفقار القطاع وتدمير الاقتصاد المحلي والفارق الكبير في الأجور يجبر كثيرا من العمالة للتوجه للعمل في إسرائيل. إن قطاع غزة هو حالة حية تجسد صور الاستعمار التقليدي الذي مارسته الدول الاستعمارية ببشاعة في القرون الماضية. وتتفوق بشاعة الممارسات الإسرائيلية على الممارسات الاستعمارية السابقة في كونها تتعمد الإيذاء والقضاء على الشعب وإجباره على ترك دياره وإحلال المهاجرين الصهاينة بدلاً عنه.

وقد بنت إسرائيل خلال الاحتلال العديد من المستعمرات الإسرائيلية التي كانت تخدم أهدافها الاستعمارية. حيث كانت هذه المستعمرات مقرات للمتعصبين الصهاينة الذين لا يتورعون عن التدمير والقتل والترويع. وكانت هذه المستعمرات قواعد أمنية بالقرب من التجمعات السكانية الفلسطينية. وبلغ عدد المستوطنين اليهود قبيل الانسحاب من القطاع نحو ثمانية آلاف مستعمر كانوا يتحكمون في أفضل 40 في المائة من أراضي القطاع الزراعية ويسيطرون على معظم موارده المائية. واستفاد هؤلاء المستوطنون من رخص الأيادي العاملة المدفوعة بالفقر والعوز للعمل في مزارع المستوطنين. وبهذا أتمت إسرائيل حلقة استغلال الأراضي الزراعية في قطاع محدود الموارد وسيطرت عليها، كما استنزفت الموارد المائية للقطاع من أجل تحقيق أكبر العوائد للمستعمرين الصهاينة. وفي المقابل عاش نحو 80 في المائة من سكان القطاع تحت مستوى دخل دولارين في اليوم للشخص (أي تحت خط الفقر) وضمن مناطق سكانية عالية الاكتظاظ وبنية تحتية سيئة. ولم تنجح ممارسات إسرائيل في إخضاع القطاع للسيطرة الإسرائيلية بل أدت إلى تنامي مشاعر الحنق والغضب لدى السكان. وأصبح قطاع غزة مصدراً لمتاعب إسرائيل. وتحول القطاع إلى بؤرة عصيان وثورة ضد المحتل. ورغم الظروف الاقتصادية السيئة في القطاع إلا أن المقاومة الباسلة لسكان القطاع أجبرت إسرائيل على تركه دون قيد ولا شرط. وقد حاولت إسرائيل تصوير انسحابها من القطاع على أنه تسامح من جانبها وسعي للسلام، وأخفت فشلها في حكم القطاع رغم كل عوامل القوة المادية التي تملكها والممارسات المنحطة التي كانت تقوم بها.

ويتعرض القطاع هذه الأيام لهجمة عسكرية همجية شرسة ووحشية من عدو لا يرحم. ويضرب القطاع أروع صور الصمود في مواجهة إسرائيل وتحمل حصار شديد وظالم. إن صمود القطاع أثناء الاحتلال الإسرائيلي وبعده وخروج العديد من رموز المقاومة الباسلة أمثال الشيخ أحمد ياسين أفسد خطط إسرائيل في إخضاع القطاع وتصفية القضية الفلسطينية. ورغم المآسي التي تحدث في القطاع إلا أن التطورات الأخيرة أثبتت أن هذه الأمة ما زالت تزخر بالخير وقادرة على إنجاب الأبطال ومواجهة التحديات