تواجه الليرة التركية أزمة حقيقية بحاجة إلى معالجة كلاسيكية براغماتية تقليدية واقعية، تمت تجربتها سابقًا في الاقتصادات الرأسمالية، وأتت بنتائج ملموسة. المطلوب هنا خطوات اقتصادية ونقدية محكمة. فأسوأ ما تحتاجه تركيا الآن هو التصعيد الإعلامي، والارتجالية غير المدروسة.

إيلاف من لندن: خلال أربعة أسابيع ماضية، خسرت الليرة التركية ربع قيمتها منذ اندلعت الحرب التجارية في ظل قصة القسّ أندرو برانسون، ومطالبة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإطلاق سراحه فورًا من دون شروط.

الرد التركي الرافض لطلب ترمب زاد الأمور تعقيدًا، وزاد الضغط على العملة التركية، حيث لامست القمية الصرفية 6.50 ليرات في مقابل الدولار قبل أسبوع. انتعشت الليرة قليلًا بعد التدخل القطري باستثمار 15 مليار دولار في قطاعات المال والمصارف التركية، لكنها تبقى 40 في المئة أقل من قيمتها منذ بداية عام 2018.

مما لا شك فيه أن تركيا ستنهض مرة أخرى، وتستعيد عافيتها الاقتصادية، لكن الحرب التجارية بين تركيا والولايات المتحدة ازدادت استفحالًا، بعد إعلان تركيا عن إجراءات انتقامية، ردًا على فرض رسوم أميركية على الفولاذ والألومنيوم المستورد من تركيا. في المقابل، سترفع تركيا الرسوم الجمركية على السيارات والأرز والمشروبات الروحية الأميركية ومنتوجات "آي فون" وغيرها من السلع. ولا تزال حرب الاتهامات المتبادلة ووضع اللوم على الطرف الآخر مستمرة، بل زادت الطين بلة.

حلول براغماتية
الحلول البراغماتية لعلاج أزمة الليرة لها بعدان: الأول، تخفيف حدة التوتر السياسي، من خلال الديبلوماسية الهادئة وتخفيض اللغة التهديدية المتبادلة؛ والثانية، التوصل إلى اتفاق في موضوع القسّ المعتقل والأمور العالقة الأخرى.

على الصعيد الاقتصادي، الأمر أكثر تعقيدًا. لا تؤدي أزمة الليرة إلى انهيار الاقتصاد التركي، الذي يبلغ حجمه حوالى 860 مليار دولار، أي ما يعادل 7 في المئة من حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي. لكن، هناك عجزًا في الميزانية، وهناك مديونية ضخمة وتضخمًا ماليًا، ولا علاقة لهذه العيوب بالقس المسجون أو بتصريحات ترمب العدائية، وليست مؤامرة، بل مشكلات اقتصادية تعانيها الدول من الأرجنتين، مرورًا بجنوب أفريقيا، وثم بمصر واليونان. لم تهبط تركيا، ولن تهبط، إلى الدرك الأسفل الذي تحتله دول فاشلة، مثل زيمبابوي وفنزويلا. لكن، يجب اتخاذ خطوات عملية لعلاج الخلل.

انتقدت صحف المال والأعمال، مثل "وول ستريت جورنال" و"فايننشال تايمز" عدم استقلالية المصرف المركزي التركي وعدم قدرته على اتخاذ خطوة سريعة مفروغ منها لدعم الليرة ومكافحة التضخم، وهي رفع أسعار الفائدة لجذب الاستثمارات والودائع المقومة بالليرة التركية، وتشجيع الإدّخار، وتقليل الإنفاق الاستهلاكي على السلع المستوردة.

خطوات ضرورية
رفع أسعار الفائدة إحدى الأدوات المهمة التي تلجأ إليها البنوك المركزية لتعزيز الاستقرار النقدي المالي ولتشديد السياسة النقدية واحتواء التضخم السعري والمحافظة على تنافسية العملة المحلية وجاذبيتها بوصفها مخزن للقيمة.

كذلك، تحتاج الأسواق استقرارًا وإزالة المجهولية وحالة عدم اليقين. لذلك، استرجاع عنصر الثقة في الأسواق والقطاع المصرفي من خلال سياسات حكيمة غير تهورية أمر مهم. وكخطوة احترازية، البدء في التفاوض مع صندوق النقد الدولي من أجل ترتيب حزمة إجراءات إنقاذية، وهذه تستدعي سياسة تقشفية في الداخل، مثل تقليل الإنفاق الحكومي، وربط الليرة مع عملة قوية، مثل اليورو أو الدولار. فالحديث عن ربطها بالروبل الروسي أو الرينمنبي الصيني يبدو مغريًا سياسيًا، لكن لن يجدي اقتصاديًا.

على السلطات التركية عدم تجاهل مطالب رواد الأعمال، وأخذ وجهة نظرهم على محمل الجد. رجال الأعمال الأتراك يعرفون من خبرتهم وممارستهم الفرق بين الخطوات المجدية والخطوات الترقيعية. وبحسب "فايننشال تايمز" في 11 أغسطس، يريد رجال الأعمال خطوات فعالة لعلاج الأزمة، وليس خطابات سياسية. العديد من الشركات التركية يرزح تحت مديونية ضخمة. وانخفاض الليرة يجعل تسديد الديون والفائدة المتراكمة عليها أمرًا صعبًا وباهظ التكلفة، لأن القروض والمديونية مقومة بالدولار أو اليورو، ومع كل هبوط لليرة التركية يرتفع عبء الديون.

تطالب الشركات ورجال الأعمال الحكومة بتبني سياسات نقدية صارمة ومحكمة ترافقها خطوات تقشفية، والعمل على حل النزاع مع الولايات المتحدة كأمر عاجل ومهم.&

سياسات نقدية محكمة
يجب أن ترافق ذلك سياسات نقدية محكمة لإعادة الاستقرار إلى أسواق الصرف والتعاملات في العملات مع إجراءات تقشفية مؤلمة، كما حدث في اليونان ودول أخرى.&

قد تلجأ الحكومة إلى فرض قيود وأنظمة رقابة نقدية ورفع أسعار الفائدة، كما أشير إليه سابقًا، وأخذ خطوات تحفيزية للاستثمار وتشجيع السياحة.

في تقرير نشرته "وول ستريت جورنال" في 14 أغسطس الحالي، تم تسلّيط الضوء على المديونية الثقيلة التي ترزح تحت وطأتها الشركات التركية، وبلغت قيمة القروض بالعملات الأجنبية في هذا العام 293 مليار دولار.&

هناك تقارير من مصارف أوروبية، مثل مجموعة "إيه بي إن أمرو" الهولندية تعبّر عن مخاوفها من أن تركيا قد لا تستطيع الإيفاء بالتزاماتها، وقد تخفق في تسديد تلك الديون، حيث إن إجمالي المديونية يزيد بما قيمته 200 مليار دولار على قيمة الأصول التي في حوزة تركيا.
&
خلال 12 شهرًا من الآن يتعيّن على المؤسسات الخاصة غير المالية أن تعيد جدولة ديون خارجية بقيمة 66 مليار دولار، والرقم للقطاع البنكي يبلغ 76 مليار دولار.&

ماذا ستفعل الحكومة التركية؟
بحسب مصادر البنك المركزي التركي سترتب الحكومة حزمة من القروض لمساعدة الشركات الصغيرة والمتوسطة على خلق حالة من الاستقرار في السوق وتنشيط الاقتصاد. كذلك دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وأصحاب الأعمال من دون تحديد أي قيمة مالية لهذه المشروعات.

كذلك، تقديم دعم إلى الإنتاج المحلي لمجموعة من السلع المستوردة وتسهيلات للاستثمار والمستثمرين ودعم أنشطة البحث والتطوير. كما أشارت وكالات الأنباء إلى أن تركيا وشركاتها ستقوم بتسديد سندات بالعملات الأجنبية تصل قيمتها إلى نحو 3.8 مليار دولار في أكتوبر، على الرغم من أن هبوط الليرة التي خسرت 40 في المئة من قيمتها منذ بداية العام سيرفع كلفة السداد.

وسيكون شهر أكتوبر الأثقل من حيث سداد السندات، حيث ستصل قيمة أصل المبلغ إلى ثلاثة مليارات، فضلًا عن 762 مليون دولار هي قيمة الفائدة.

كانت هيئة التنظيم والرقابة المصرفية التركية والبنك المركزي التركي قد اتخذا خلال الأسبوع الماضي مجموعة من الإجراءات التي تستهدف الحدّ من عمليات بيع العملة التركية وشراء العملات الأجنبية، وهذا أبطأ تراجع العملة التركية، لكنه في الوقت نفسه قلّص مستوى السيولة النقدية الأجنبية المتوافرة في السوق التركية، ما أثر في نشاط المستثمرين الأجانب في هذه السوق.

امتعاض.. ولكن!
ازدادت أوضاع الليرة كآبة، نتيجة قيام وكالاتي "ستاندرد آند بورز" و"موديز" في الأسبوع الماضي بخفض الدرجة التصنيفية لتركيا إلى منطقة "غير استثمارية"، كما حذرت وكالة "فيتش" من الإجراءات التي تتبعها البلاد في الوقت الراهن لكونها غير كافية.

كما تتوقع وكالة التصنيف الائتماني "ستاندرد آند بورز" أن ينكمش الاقتصاد التركي في العام المقبل، مع تأثير سلبي للعملة على ميزانيات الشركات.&& &

يتمركز القلق في أوروبا حول منع انهيار تركيا اقتصاديًا، فهي عضو فاعل في حلف "ناتو"، وساهمت في استقرار أوروبا من خلال استيعاب ملايين اللاجئين، وتحتل موقعًا استراتيجيًا مهمًا وحيويًا، ولهذا يقر الاتحاد الأوروبي بأن تركيا مهمة جدًا لاقتصاد أوروبا واستقرارها السياسي، ويجب منع انهيار هذا البلد، على الرغم من الامتعاض الأوروبي من بعض سياسات أنقرة وتصريحاتها.&