سعيد الحسنية : زعموا أنه على ساحل بحر الأبيض المتوسط توجد سلطنة صغيرة تدعى quot; أرزستان quot; .يتميز شعب هذه السلطنة بالذكاء والطموح الكبير والرغبة الجامحة بالبحث والمخاطرة وبحبٍ كبيرٍ للأسفار ، فكان اولادهم يبصرون النور على متن السفن التي تجوب عرض البحار باحثة عن أرضٍ جديدة يعلمنّ أهلها الحضارة ويبيعونهم ابتكاراتهم ويروجون تجارتهم.
كان أبناء تلك السلطنة يعيشون بهناءٍ وسعادةٍ عارمة ما أثار غيرة جيرانها وحقدهم .
اجتمع هؤلاء الحاسدون المارقون، واتفقوا فيما بينهم على اختيار عددٍ من السحرة والمشعوذين وإرسالهم إلى تلك السلطنة الهانئة ليبثوا فيها شرورهم وأحقادهم لتدمير ذلك الصرح الحضاري الذي يخافونه ويحاولون الحد من مده الحضاري إلى بلادهم وإيقاظ شعوبهم من سباتهم العميق.
تسلم المشعوذون مهامهم وأخذوا ينفخون نار التفرقة والعنصرية في صدور أهل quot; أرزستان quot; الطيبين ، إلى أن تحقق هدفهم وأشعلوا تلك النار التي لم تهدأ وتيرتها لسنوات وسنوات ، ونجحوا في دفع شعب تلك السلطنة إلى الاقتتال فيما بينهم إلى أن خارت قواهم وتعبوا من الحرب فأخذوا يرجون جيرانهم لإنقاذهم من شر بلوتهم، وإطفاء نيران الحرب بينهم .. وبعد أخذٍ و ردٍ وتوسل ورجاء، طلب الجيران من سحرتهم إخماد تلك النيران وهكذا كان ، وعاد الهدوء والسلام إلى ربوع تلك السلطنة. ولكن... أبى السحرة مغادرتها وبقوا فيها يكتبون التعاويذ منتظرين الفرصة السانحة لإشعال عود الثقاب أمام برميل البارود.
وبعد ردحٍ من الزمن تمكن أولئك السحرة من اقتحام رأس قائد حرس السلطان التلاعب به وتحويل ذلك الحارس إلى لعبة في أيديهم وإيهامه بأنه الأذكى وان شخص مثله يستحق أن يكون سلطانا .
وهكذا يوما بعد يوم اقتنع ذلك الحارس بكلام السحرة وأخذ يُعد العدة لتحقيق حلمه إلى أن جاءت الساعة وتحققت النبوءة التي وعد بها .
ومرت السنون وذلك الحارس سلطان متربع على العرش يدوس بقدمه رعيته متوهماً أنه رجلٌ ذكي وحاكمٌ عادل ومحاربٌ شجاع ، وباسلٌ في الجهاد لدرء المخاطر ومجابهة المؤامرات غير آبه بصرخات الأمهات ونواح الأرامل واستجداء الشيوخ. امتلأت زنزاناته بأبناء بلده دون أن يرأف لهم قلبه أو يرف جفنه ، بل كان ينام كل لياليه قرير العين ، ناسجاً أحلامه الوردية ومعداً خططه العسكرية ، ليستيقظ في اليوم التالي ويرتدي بزته المرقطة ويتجه نحو ميدان القتال ، كل يوم على هذا الحال ، يقف في وسط الميدان ، والناس يتحلّقون حوله وهو يصرخ شاهراً سيفه المسلول معلنا الموت لعدوه الممقوت ، والناس يتعجبون من حركاته وكلماته ، يهمسون في سرية نفسهم : quot;لا حول ولا قوة إلا بالله ... شافاه الله ،..quot;. وفي كل مرة يطل طفل صغير من خلف أمه ويسأل ببرأته المعهودة :quot; من يحارب هذا الرجل يا أماه؟quot; فتضمه أمه إلى صدرها وتهمس بأذنه : quot; أنه مجنون يا ولدي..يحارب طواحين الهواء..هسسسquot; !!
استمر ذلك السلطان على تلك الوتيرة اليومية، مصارعاً شرساً لأوهامه ، ما دفع الكثيرون إلى تلقيبه بـ quot;دون كيشوت العربquot; إلا أن الكثيرين رفضوا ذلك اللقب معتبرين أن هيهات بينه وبين دون كيشوت ..فهو نقيضه تماماً ، لا قيم عنده ولا رادع لظلمه..
وما انفك ذلك السلطان يستيقظ كل صباح كعادته، ليمارس هوايته في مقارعة أوهامه وظله الذي يترآى له على ضوء الشموع بعد أن غابت شمس الحق عن ربوع سلطنته..ويوماً بعد يوم بدأ يلاحظ غياب المتفرجين والمراقبين والمصفقين له أثناء حربه الضروس مع عدوه غير المرئي والمجهول .. وجد نفسه وحيداً في ميدان المعركة، لا يأبه له احد او يكترث بوجوده الى ان ثارت ثائرته واستشاط غضبه ، فأصدر فرماناً ملكياً يقضي بجلب الجماهير إلى قصره بالقوة ، وحضورهم معاركه الطاحنة مع طواحين الهواء والتصفيق له بعد انتهائه من إلقاء خطبته المعهودة وغير المفهومة .
واستمر ذلك السلطان على تلك الحال إلى أن جاء يوم وطفح كيل ذلك الطفل الذي ما برح كل مرة يطل من وراء ظهر أمه ويسألها : ماذا يفعل هذا الرجل ؟؟ولكن هذه المرة لم يسأل أمه بل اقترب من السلطان وقال له : ما بك أيها الأبله ؟ من تحارب ؟ لا يوجد أحد أمامك؟هل أنت مجنون ؟
أثار كلام الصغير السلطان فاستشاط غضباً وناراً واحمرت وجنتيه فهجم على الطفل البريء صارخاً في وجه:quot; يا أيها الخائن والعميل ..أنت سبب خراب بلادنا الجميلة ، واشتداد الأزمة المالية ..أنت عدو وحدتنا الوطنية..أنت تتآمر علينا وتريد دفعنا إلى توقيع اتفاق سلام مع أعدائنا ..يا لك من خائن ..سألقنك درساً لن تنساه.
ثم رفع يده وصفع ذلك الثائر الصغير على وجهه المستدير..ولكن ما كان من الصغير إلا أن أستجمع أقصى ما يتسع فمه من لعاب وبصقه على وجه السلطان ، الذي سرعان ما أخذ وجهه يحترق وكأن ذلك اللعاب قد تحوّل من شدة غضب براءة الطفولة إلى ماء أسيد ونار مشتعلة .. وعندها أخذ يصرخ الملك ويتأوه من وجعه .. فخرج مسرعاً من قصره هارباً وما زال حتى اليوم هائماً على وجهه في أرض السلطنة محاولاً استعطاف الناس دون جدوى.توالت الأيام وتولّى فيها عرش السلطنة مجموعة من الحكماء الصالحين كولاةٍ على العرش إلى حين يكبر الثائر الصغير ويحكم البلاد بالعدل والصلاح .عاش السكان بسعادة ورخاء بعد أن فر السحرة إلى ما وراء الحدود والبحار، وأوصدت خلفهم كل الثقوب وأزيلت الآثار والثغرات، وبقي حارس السلطان القديم يسرح كالمجنون يبكي على وجهٍ محروق ويولول على ملكٍ مفقود.
- آخر تحديث :
التعليقات