علي فواز : الساحة لم تعد تتسع، تكاد تختنق بما تكدّس فيها، تكاد تتقيأ كل ما مرّ عليها وما زال يصب فيها، من أشياء، وأفكار، وأحياء، وشهداء، وقصائد، وزجل، وأغان وطنية، ومتظاهرين، وناقمين، ووطنيين، وثوريين، وصنّاع قرار، إضافة إلى بعض أدواتنا التي نسيناها هناك... بصل للوقاية من القنابل المسيّلة للدموع، حجارة وبيض للهجوم على القوى الأمنية، يافطات كُتبت على عجل، كبريائنا الذي يتدلّى كنهدين في الستين من العمر، وبعض فتاوينا العجيبة، وعزتنا الوطنية.
كل هذه الأشياء موجودة في الساحة، وأكثر من ذلك. فبيننا وبين الساحة ثمة عشق سري، وتواطىء تاريخي، وموروث تمتد جذوره إلى زمن الأبيض والأسود، إلى زمن quot;العينquot; وquot;مختار الضيعةquot; وquot;الناطورquot; في نسختهم الأولى، الأصلية. فلا يكاد يجتمع لبنانيان إلاّ وتكون الساحة ثالثهما، بروحها أو بوجودها الحسي أو بذكراها العطرة. فالساحة في قاموسنا ليست مجرد مكان مفتوح على الهواء الطلق، بل هي أقرب ما يكون إلى الأرزة، إلى العتابا والميجانا والكبة النية والعرق البلدي.
بهذا المعنى لا بدّ أن يلتقي وديع الصافي حلوته في الساحة quot;بالساحة التقينا بالساحة/ عليها جوز عيون شو دبّاحةquot;، وينازله نصري شمس الدين بالساحة أيضاً quot;أنا سيد المعنّى والفصاحة/ بهالساحة العليّي وبكل ساحة/ وسيفي بيمسح الأعدا بحدّو/ متل ما بتمسح الأرض المساحةquot;، وسيارة فيروز لم تجد لها مكاناً لتتعطل فيه أفضل من ساحة ميس الريم quot;وصلْنا على ساحة ميس الريم/ وانقطعت فينا العربيةquot;، أما طفل مرسيل خليفة فتراه يقف بالساحة قبل أن يستشهد quot;وقّف بالساحة ينده رفقاتو/ وكان هدير الطيارة أقوى من كل الأصواتquot;. ولا عجب بعد ذلك أننا عندما نريد أن نفرح أو نحتفل، فإننا لا نجد مكاناً أنسب من الساحة quot;زيّنوا الساحة والساحة لِنا/ ليلة الساحة فينا مزيناquot;
وتتسم ساحتنا بخاصية فريدة تحصّنها ضد الصدأ والاندثار والتحلّل، وهي بهذا المعنى أقرب إلى الحداثة منها إلى الماضوية، وأقرب إلى التجدّد من التحجّر إلى جانب جرن الكبّة. إذ تراها تحمل في طياتها مرونة التغيير وليونة التكيّف، ما يجعلها قادرة على أن تغيّر جلدها من دون أن تتغيّر.
شاهد معي من هنا مثلاً ساحة وسط بيروت، والتي لا تتجاوز مساحتها مزرعة شيخ في الرياض، أو حرم جامعي في شيكاغو، أو متنزه وطني في طوكيو. ساحة وسط بيروت هي ذاتها ساحة الشهداء، والتي سرعان ما واكبت التطورات حتى صارت تُدعى ساحة الحرية، وهي ذاتها أيضاً ساحة 8 آذار وساحة 14 آذار، وهي ساحة رياض الصلح وساحة بشارة الخوري، وهي الساحة التي صارت رمزاً لإعادة بناء لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، والساحة التي سوف تتحوّل إلى خطوط التماس المقبلة عندما تشتعل جميع الساحات!
من هنا إلى أين؟ (تيمناً بالجملة الشهيرة لأبو الساحات النائب وليد جنبلاط)
إلى ساحة جديدة بإذن الله طالما أن الساحة الوطنية تكاد تتقيأ ما فيها ومن فيها، وإلى أن توّلد الأخيرة من نفسها ساحات جديدة، ثم تتوحّد هذه المخلوقات الصغيرة في ظل ساحة جامعة أكبر. وإلى ذلك الحين، سنبقى نسمع المذيع في النشرة الإخبارية يقول لنا كلّما اجتمع اثنان، إنهما كانا يناقشان الأوضاع المطروحة على الساحة.