نصر جميل شعث
مازلت أذكر طموحَ ذلك الطفل الذي كَبُر وأصبح الآنشاباً، يعمل في أحد أجهزة السلطة الفلسطينية؛ كان طموحَه أن يصبح رئيساً، لا ليحكم الناس على هواه، أو يمتلك سلطةً حباً لها، ولكن لتمكّنه السلطةمن توفير متطلبات عيشهالكريم. يمكن النظر إلى هذا الطموح نظرة أبعدَعندما نطّلع على التحديات الثابتة والمتغيرةفي حياة الشباب في المجتمعات العربية الفتية :كنسب البطالة والفقر؛ وانعدام الأمن بشكل عام .
من سياسة بعض الدول أن تظلّ الطاقات الشبابية تحت سقف الجوع بغية تفريغهافي إطارتلبية احتياجات المعيشة. وهنا يمكننا الاستعانة بهرم ماسلو لتحديد الدوافع التي تجعل من مغادرة الشباب لأوطانهم أمراً مبرّراً . ولعلّ حاجات الأمنهي الدرجة أو العتبة المهمة التي تقف عليها أسباب ودوافع الناس في هذه الأوقات . في ضوء ما تقدم التقيتُ بعينة من الشباب الوافدين إلى الإمارات العربية المتحدة من بلدان عربية عديدة: مصر، الجزائر، الأردن ، المغرب ، تونس ، السودان ، الأهواز .. وسألتهمعن الأسباب التي حذت بهم للمجيء إلى الخليج . كان في ذهني سبب واحد، وهو أنهم يبحثون عن تحسين ظروفهم المادية وحسب، غير أن ما صرّح بهبعض أفراد العينة جعل الثابت متغيّراً أمامي.
الشاب عثمان، من الجزائر، أعزب، يبلغ من العمر 33عاماً، صرّح أنّ طبيعة العلاقة مع الأب هي السبب المباشر لسفره، مشيراً أنّ حريته لا تسمح له بالبقاء تحت إدارة تقليدية يصنعها الأب. يقول : quot;لا قنوات اتصال بيني وبين والدي، على الرغم أن البيت كان يجمعناquot;، مضيفاً : quot;كان هذا الوضع يؤثر سلباً على الأسرة بشكل عام، ويخلق فجوة . موضحاً أن سفره لم يكن من أجل توفير ظروف معيشة أفضل ، فظروف العائلة جيدة. ولكن الدافع المباشر هو تحاشى الصدام مع أبيه بالسفر. مستدركاً أن نيته كانت تتجه لأوربا : فرنسا أو إسبانيا .. لكن بعد أحداث التفجير في 11/ سبتمبر2001، ضاق الخناق على طموح سفره إلى هناك، فسافر إلى دبي. لكنه ما يزال ينظر إلىالخليج كواسطة لإمكانية سفره إلى أوروبا .
سامر:شاب سوري، مهندس معماري، غير متزوج، يبلغ من العمر 30عاماً، يعمل لدى شركة مقاولات شهيرة في إمارة الشارقة. تحدث طويلاً عن مزاجه الحاد والصدام الذي سرعان ما كان يتحوّل إلى أزمة بينه وبين أبيه، إبان وجوده في سوريا. وصرّح بأن عدوى الصدام مع أبيه تكاد تصيب علاقته بالعاملين حوله، ولم يُخفِ شعورَه بالذنب والشفقة في الوقت نفسه . وتطّرق إلى معاناته الشخصيةجراء رؤيته لزملائهممندرسوا معه في الجامعة وكانوا فاشلين، يتمتعون الآن بنفوذ وحظوة لدى بعض المؤسسات؛ لأنهم أبناء ذوات. في حين أنه الأجدر بالمكانة التي تقلدوها !
الشاب أشرف، من مِصر، غير متزوج، جاء يعمل في الإمارات، ويبلغ من العمر 28 سنة. لطالما بقي مهووسا بالفرق المهمّ بين الدرهم الإماراتي والجنيه المصري، طموحه هو العمل عشر سنوات في الخليج، ثم العودة إلى مصر ، للمساهمة في إنقاذ الأسرة من سوء الأحوال المعيشية، وتدبير نفقة الزواج.. ما كان يلفت الانتباه أثناء الحديث مع أشرفهو أسلوبه الضحوك الذي غفر له النظرة الحسابية الجافة للدراهم والجنيهات.
أما إبراهيم الشاب التونسي، الذي يراوح أوائل العشرينيات من العمر، تحدث باعتزاز عن بلده؛ معتبراً أنها إحدى بنات أوروبا. مشيراً أنه لا دافع مادي وراء مجيئه إلى الخليج؛ فما توفّره تونس له أفضل بدرجات كبيرة مما توفّره البلدان العربية الأخرى للشباب هناك. يقول: ( 1.2 ) دينار تونسي يعادل (1) دولار أمريكي، و (1.5) دينار يعادل(1) أورو تقريباً .كانت اندفاعة شبابية هي التي دفعته إلى السفر . سألته : هل يمكن اعتبارك سائحاً إذاً ؟ أجاب : quot;لا . لكن عليّ أن أضيف دائماً إلى تجربتي رصيد من معرفة البشر والعالم. كان يتحدث كما لوكان مثقفاً عميقاً، وكان دائم الضحك.. عندما تطرّقت للسياسة، قال : دعني من العرب، أنت الآن في شارع الرقة بدبي ، ابتسم وانظر إلى جمال هذه المرأة الخلاسية !
عدنان شاب سعودي ، في أواسط الثلاثينيات، كان يعمل في بلاده وأموره مستقرة، لكنه خلال زياراته الترفيهية لدبي، وقع في حب امرأة أوزباكستانية، فتزوجها وأخفى الأمر عن أهله وعن حكومة بلاده التي تشترط أن يمرّ الزواج بالأجنبية عبرها. حاول التوفيق بين عمله في السعودية والتواصل مع زوجته في دبي . كان برنامجه الذي أرهقه مالياً يقضي بسفره نهاية كل شهر أو شهرينإلى دبي بحجة تغيير الجو، على أن يبقى في دبي لأيام معدودة، ثم يغادرها وهكذا.. بقي على هذا الحال قرابة العام، حتى أصبح مثالاً للموظف غير الملتزم لدى الجهة السعودية التي يعمل فيها. فقرر أن يترك العمل ويبقى جوار زوجته التي أحبها، وأنجب منها طفلتين لم يستطع تسجيلهما في الأوراق الرسمية، ومع انهيار مركزه المالي بات يفكّر في ترك زوجته الأوزباكستانية أو ترحيلها إلى بلادها، معللاً أنّ كل الإجراءات الرسمية لاصطحابها معه للسعودية لم تنجح. وغضب الأهل على الشاب عدنان ومنع عنه الدعم المادي، وأصبح يرى نهاية محتومة لزواجه ..كان مطلوب منه ترك الأجنبية وتدبير طريقة للعودة إلى السعودية في أسرع وقت ممكن بالطفلتين . أما الأوزباكستانية التي قبلت به زوجاً لتحسين ظروفها، فسوف يُهربها عدنان عبر مياه الخليج من جهة إيران، لأن إقامتها في دبي مخالفة، فضلاً عن أنّ زواجه منها جلب له الفقر والدمار الشخصي، كما يقول . وتركت عدنان وهو أمام هذا التحدّ الكبير .
ثامر شاب في أواسط العشرينيات من عمره ، خفيف الظلّ ، من منطقة الأهواز ، جاء زيارة إلى الإمارات. وتخلّص من كل أوراقه الثبوتية، رغبةً منه في الانضمام لسجّل quot; البدون quot; والبقاء والعمل، هروبا من الظروف الصعبة التي يعيشها العرب في منطقة الأهواز بسببمساوئالاحتلال الإيراني،على حد تعبيره . وكغيره يَجد أنّ الأمنأحد الحوافز التي دفعت به لاختيار هذا المصير. يقول أن له خالاًيعمل في الكويتسيساعده في شراءأوراق رسمية ليحصل علىجنسية اللاجنسية quot; البدون quot;. وعندما سألناه عن أسرته : أمه ووالده ، قال إنه على اتصال مع أمه ، ويحنّ إلى طقوس الحياة الأهوازية . أما عن عمله الحالي ، فليس له عمل ثابت، مرةً يعمل مع شركات التعاقد بالباطن، ومرةفي المنطقة الصناعية بالشارقة أو في تحميل البضائع على متن السفن التي ترسو في خور دبي .. وهكذا.

كانت تلك حكايات شباب وفدوا للإمارات من بلدانهم العربية، قد تكون حكايات العمالة الهندية أو الشرق أسيوية أشدّ وقعاً في الضمير الإنساني . إلا أن حكايات بعض المغتربين العرب فاجأتنابما تحمله من أبعاد إنسانية قد يغفل عنها الكثيرون.