"قال لي: أنت معنى الكون كلّه" (النفـريّ)

ـ 1 ـ

تعتمد الأسس الأولى لأيّ دين على مجموعة من المعارف والقيم الأخلاقية منها الأمان والتسامح والمحبة والخدمة وتطوير إنسانيّة الإنسان والتكامل من خلالها. ولا يخلو الدين الإسلاميّ من هذه المقولات العامّة ومحاولات تطبيقها على السلوك الإيمانيّ من خلال تأريخه الطويل الذي امتلأ بأشكال مختلفة من الاعتقادات و الرؤى الخاصة والعامّة بالنسبة إلى تشغيل مفهوم الربوبيّة وتفعيل حركتة الواقعيّة والتشريعية والتي أنتجتْ رؤى متباينة للنظر إلى هذا المفهوم فتعددتْ من خلاله الحقائق الربوبيّة، وبالتالي طبيعة المعتقدات والارتكازات التى يتمّ من خلالها تفعيل الحقائق المتعلقة بالربوبيّة التي انتجتْ نماذج متعددة من الأرباب ينتمون إلى التسمية الكبرى للربّ الواحد الأحد ويختلفون في تطبيق آلية العمل وطرق الاتصال وتنظيم الذاكرة الدينيّة وشحنها بما يتناسب مع إيمان كلّ فرقة بتفسير معالم الغيب الواحد. وهذا ما حصل في كلّ المنظومات الدينيّة والتي تشظت وتعدّدتْ بسسب العوامل الزمينة واختلاف الإنسان في التفكير والرؤى. وهذه التنوعات المختلفة انتجتْ تراثاً كبيراً من المعارف والعلوم والاعتقادات والقيم والحكمة، لكنها خلّفتْ وراءها دماراً لحضارات، ودسائس وخيانات واغتيالات وقتلى لا عددَ ولا إحصاء لهم، قتلى همْ في الحقيقة ضحايا اختلاف العبارات... لا أكثر.
إنّ كلّ هذا التراكم المخيف من الهزائم الإنسانيّة أمام عبارات مقدّسة ترك شروخاً عميقة في التعامل مع الحقيقة المطلقة بل أدّى في أحيان كثيرة إلى التخلي عنها للأبد، مما دَفع دياناتٍ كثيرة إلى مراجعة قاسية لتأريخ الشرّ والعنف فيها بحيث استطاعتْ أن تجدّد وتطوّر بعض أساليبها في التعامل مع الإنسان والواقع وجعل هذه الأساليب أقلّ توحشاً وعدوانيةً، وتمكنتْ من أن تقصي أشكال العنف وتدميرالذات الإنسانيّة، وأن تكفّ عن إزاحة كلّ ما يتعارض معها بدموية مباحة، وهو ذات الأمر الذي حدا ببعض الديانات إلى هجر ربّ الحرب ومن ثمّ التعاطي والحياة بواقعية صريحة وشفافية حقيقيّة حيناً ومفتعلة حيناً آخر، حيث أقرّتْ هذه الديانات ـ مجبرةً أو مختارةً ـ فصلَ الدين عن جوانب زمنية ودنيوية قابلة للتغيّر والتبدّل وأخذتْ تهتمّ بالجوانب التربوية والروحيّة وحثّ الناس على الإنتماء اليها بوسائل الترغيب والخدمة ونبذ لغة الموت والدمار. كلّ ذلك من أجل ضمان استمرار وجودها وكسب ثقة الناس بها وبالربّ الذي تؤمن به.
أما الدين الإسلاميّ فما زال يستخدم الخطابَ المدشِّن للحرب والموت، وهو أمر يصدق على كلّ مذاهب الإسلام، وإنْ اختلفتْ الصياغات هنا أو هناك أو عُطّلتْ لمصالح خاصة أو عامّة.
إننا لا نريد وضعَ الإسلام في دائرة الإتهام بقدر ما نصبو إلى توضيح العلاقة التبادلية (للحياة والموت) بين الربّ وعباده في داخل المنظومة الدينيّة بشكل عامّ، والإسلاميّة بشكل خاصّ، وإننا في هذا البحث نتبنّى أسلوب عدم الفصل بين تعاليم الربوبيّة والسلوك الواقعيّ للمتدينيّن، فنحنُ لم نجدْ أيّة مسافة واقعية بينهما إلا على صعيد البحث والتنظير، فعلى الصعيد الواقعيّ لا نلحظُ أيّ مبرّرٍ حقيقيّ لهذا الفصل سوى الرغبة في عزل الرب عن أخطاء مربوبيّه كونه في دائرة التقديس والمحرّم، وإن الأخطاء لا تصدر إلا من الإنسان لمحدوديتة. وفي حقيقة الواقع السلوكيّ للمتدينيّن لا يغدو فصلٌ كهذا متصوّرَاً كونهم يمتثلون ويطبّقون تعاليم وتشريع الربّ الذي أُنتج وفق ملامح محدّدة وانعكسَ بشكل مباشرٍ أو غير مباشر في هذا السلوك التدينيّ الذي يتوحّد مع النظام التشريعيّ للربّ ويجد له سلوكاً تعبدياً يتمثّلُ في اتخاذ عدّة أوامر وجوبية لها أشكال مختلفة تكشف معظمها عن صرامة وقسوة في تشكيل الحياة الدينيّة ابتداءً من صنوف الاستعباد الفكريّ والمعرفيّ والسلوكيّ للإنسان، وتهميش فئات مهمة في المجتمع وتسفيه وجودهم كـ" المرأة، الطفل، العبيد والفقراء"، وانتهاءً بزجّ الناس في طرقٍ مفضية إلى الموت، مثل قرار الحرب مع الآخر، أو إباحة دمه. إذْ أن سلوكاً كهذا له أصل ربوبيّ، باعتبار أن الربّ شجّع أو أمر بهذه الأفعال. ولم يجد المطبقون لهذه الأوامر أيّ مخرج آخر، تأويليّ أو تفسيريّ، بغية إنتاج سلوكٍ تسامحي متماثل مع إنسانيّة الإنسان بشكل مجرد. وبذا فان كلّ الأفعال التي تطبق على أرض الواقع من قبل أيّة مجموعة معتنقة لمبادئ معينة أوعقائد دينيّة أو أيّدلوجية إنما هي مرتبطة بأمثلة علوية أوسماويّة أو غيببة، وهي في حقيقة الأمر تمثل سلوك الرب الفعلي، إذْ ليس هناك فصل بين أوأمر الربّ والسلوك الدينيّ أو تطبيق آلية العمل الربوبيّ على الواقع. مثال ذلك استيلاء تيارات دينيّة هدفها إزاحة أيّ كيان لا يؤمن بمعتقداتها وبشكل دموي. وهذا السلوك يعبّر بوضوح عن السلوك الربوبيّ وحقيقة الرب الذي يعتنقون. وهذا ما يصدق على الحركات الأصولية المتشددة من سلفية وتكفيرية، كما على بعض الجماعات الشيعيّة المسيطرة في الزمن الحاضر على الجهد الاعلامي في مدار صراعها الداخلي (أيْ مع غرمائها من الطائفة نفسها أو في اقتتالها مع المذاهب الإسلاميّة الأخرى)، كما في صراعها الخارجي مع الديانات (أو بالاحرى مع الأرباب الآخرين لديانات أخرى حسب افتراضنا).
نرى ان صعود(ربّ) التيارت التكفيرية في الواقع الإسلاميّ والعربيّ، متأتٍ من كونه ربّ الحرب المعادل ـ بشكل صريح أو خفيّ ـ لكلّ ما في الثقافة العربيّة من جذور خرافية أدّتْ إلى استيلاء الشكل العنفي والتوحشي على معظم تأريخها، فكان من الطبيعيّ أن يلبّي هذا الرب السلفيّ طموحاتهم العنفية المتفشية في خطاباتهم باشكال مختلفة. فهو يعتمد بالدرجة الأساس (في استنباط سلوكه ومبادئة الصدامية و خطاباته وشعاراته) على الأصول المقدسة للدين في (الكتاب والسنّة) من خلال التأكيد على الأحاديث الحربية والجهادية والتي يتمثل بها دائماً ويسعى إلى تكريسها باعتبارها هي وجه الدين الحقيقيّ ومن ثمّ ليعطي شرعية لتطبيقها لاحقاً لأنها في الواقع تختصر هويّة الربّ المعبود من قبلهم أو بما يمثّل الهويّة الربوبيّة الطامحة إلى الاستيلاء على كلّ شي عن طريق الحرب والموت.
هذا الربّ السلفيّ ترك آثاره واضحة في سلوك معتنقيه فتراه يمارس لذة القتل والتدمير ببرود على أيدي أتباعه المؤمنين.
علينا هنا أن نبيّن الفرق بين المعنى الربوبيّ وبين المعنى الإلهيّ. فالأول معطى فعليّ وسلوكيّ لهويّة الربّ المختار من قبل جماعة ما وفقاً لتصوراتهم وقراءتهم لوقائعهم التأريخيّة والعقائدية وهم ساعون بذلك إلى رسم ملامح هذه الربوبيّة سلوكياً بقصد التأكيد على ان هذه الصورة تمثّل المعنى الإلهيّ الأوحد. وهم في كلّ ذلك يتحرّون التطابق العمليّ مع النصوص والخطابات الإلهيّة الأولى المعتمدة لديهم.
أما المعنى الإلهيّ فهو المثال المعطى الذي لا يخصّ أحداً بعينه أو طائفة دون غيرها، المعبّر عنه (في الوجود بشكل عام والدين بشكل خاص) بالصفات والأسماء الذاتيّة لحقائق الوجود وتأثيراتها على الحياة والعالم والإنسان.
غالباً ما نُظر للربوبيّة باعتبارها مرادفة للألوهية، غير انهما في الحقيقة متباينان أشدّ التباين. ففي حين يرشح من مفهوم الألوهية معنى هو من الشمول بحيث يصعب على كلّ فرقة ادعاء حيازته لوحدها، نرى ان الربوبيّة هي محض حقائق دينيّة متكثّرة، متنوّعة، منحوتة بأزاميل ثقافة قوم ما وتذوقهم واستحسانهم، مصطبغة بمناخ حياتهم وطبيعتهم وتأريخهم، ومتلوّنة بوقائعهم وبأعرافهم المهيمنة. فلا يمكن ـ والحالة هذه ـ أن يصار إلى توحيد هذه الحقائق الربوبيّة المتكثّرة، ومن العبث السعي إلى هذا الهدف، ذاك ان مبتغى كهذا إنما يتعارض مع السنّة الوجوديّة التي لا تنفكّ عن خلق حقائق متباينة حدّ التصادم. وليس أمام الديانات إلا الإقرار بمراتبية الفهم الإنسانيّ في استيعاب التنوّع والإختلاف في الواقع والحياة باعتبار ان هذا التفأوت في الفهم حقيقة حتمية. ومن الأجدى العمل على محاولة إقناع (أرباب) الأديان بترك التغالب المؤدي إلى الاقتتال، والتأكيد على مبادئ الحكمة والتعاليم الأخلاقية التي يزخر بها كلّ دين، تلك التعاليم والمبادئ التي تكاد تنطمس بسبب قوّة حضور الأرباب المهيمنين.

2

الربوبيّة هي الجوهر المعرفيّ والوجوديّ المتمثل في كيانات تشريعية وتعاليم سلوكيّة وذاكرة إيمانيّة تحدّد هويّة الربّ وسلوكه التأريخيّ المتواصل والمنعكس في طقوس وممارسة الإيمان في الحياة والواقع بشكل فرديّ أو جماعي وتحت تسمية دينيّة عامّة أو خاصة. وتعتبر هذه الذاكرة الإيمانيّة هي الحقيقة الربوبيّة للديانات والمذاهب والملل، فلكلّ دين (ربّ) يمثّل بشكلٍ حضوريّ معظم الصفات التأريخيّة والواقعيّة لمربوبيّه من التذوّق لتفاصيل الحياة والمناخات المعرفيّة والسلوكيّة وحتى الأمزجة العامّة والخاصة. وتنقسم هذه الحقيقة على امتداد حركة الزمن والتأريخ إلى أرباب محليين أو مستقلين لمفاهيم معينة في مذاهب وملل وحركات، وبالتالي لا تنتهي عملية صناعة الأرباب ما دامتْ هناك مدارت متعددة للوعي والمعرفة والسلوك واختلاف في عملية الإختيار الإنسانيّ للشكل أو الحقيقة التي يريد أن يرتبط بها أو تمثل طموحاتة وتحقّق أمنياتة فلا يمكن على سبيل المثال أن يجتمع الربّ المسيحيّ والربّ الإسلاميّ على حقيقة واحدة مرتبطة بالذاكرة الإيمانيّة لهما، ولا يعترف الربّ اليهوديّ والربّ المسيحي بالربّ الإسلاميّ إطلاقاً, مادام كلّ منهم يحمل الحقيقة الإيمانيّة المتمثلة بذاكرته. وهكذا بالنسبة إلى مذاهب الدين الواحد فلا ترى هؤلاء الأرباب مجتمعين بشكل كامل رغم الإتفاق العام على الارتباط المصيري في نفس التسمية(الله) مع الافتراق في الحقيقة الربوبيّة، بين المسيح الكاثوليكي والبروتستاني وبين الربّ الشيعيّ والآخر السلفيّ وهكذا إلى ما لا نهاية.
إن هذه الحقائق الربوبيّة تتمتع باستقلال كاملٍ في تمثيل صورة الله وادعاء حيازته لجهة هذا الدين أو تلك الطائفة، وليس هناك من إمكانية لتوحيد هؤلاء الأرباب إلا في مدار التجريد العامّ للمعنى الإلهيّ بدون أيّة ذاكرة دينيّة، وهذا ما لم يحصل ولن يحصل، لأن كلّ الديانات والمذاهب تدّعي الحقّ المطلق، أما الآخر فيمثّل الباطلَ.
ومما يؤكد عدم الفصل أو صعوبة التمييز بين الذكراة الإيمانيّة والربّ المعتَنق، ذلك التراث السلوكيّ للمتديّن والذي لا يقوم باستحضار أيّة فعاليّة إيمانيّة خارج مدار هذه الذاكرة التي هي حقيقة الربّ المنحوت فيها، فإنْ كانت هذه الذاكرة مليئة بالتعاليم الإنسانيّة والخير المطلق والسلوك المنتَج لخدمة الحياة والإنسان والعالم فإنّ ناتج ذلك سيكون سلوكاً مماثلاً أو متقارباً مع هذه التعاليم. وإنْ حدث العكس وكانت تلك الذاكرة ملأى بالشرور، كالعنف والتدمير والتوحش، فمن المؤكد أن هذه الصفات العنفية ذاتها سوف تظهرسلوكاً دينيّاً في الحياة بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذه الصفات والأوامر التطبيقية والسلوكيّة في المنطومة الواقعيّة للدين هي في الحقيقة معبّرة عن الشكل الواقعيّ لظهور الربّ في هذه الحياة.
إنّ الإشكاليّة الرئيسية هنا، تكمن في الفصل الصوَري بين العباد والربّ، أو الدين والربّ، أو الذاكرة الإيمانيّة والربّ، بينما الحقيقة أن كلّ ذلك ظهورات لحقيقة واحدة تندرج تحت السلوك الإيمانيّ والفعل الواقعيّ لحركة الدين في الحياة وهى بمجموعها تمثل حقيقة الربّ المعتنَق، ولا شيء خارج هذه العملية إلا من باب الإطلاق الوهمي الذي هو من اساسيّات السلوك الدينيّ الذي يجعل هذا المفهوم الربوبيّ مفهوماً غير مدرَك، لا لصعوبة هذا المفهوم بل لنظام وآلية عمل الديانات التي تركتْ هذا المفهوم سائباً أو مفتوحاً بأوسع أبوابة للتأويل والترميز،وهي اذ فعلتْ ذلك فلسبب أساسيّ ورئيسيّ يتمثّل في انتزاع الصفة الإطلاقية للمعنى الإلهيّ وإضفائها على المعنى الربوبيّ، ومن ثمّ الهمينة التامّة على المعنى الإلهيّ بحيث لا تدخل أيّة معرفة أو تخرج إلا من خلال مدار الدين، وباختصار، تهميش أيّة معرفة أو ثقافة تريد أن تتحاور أو تشكك أو تتساءل حول ماهية الحقائق الغيبيّة أو الإلهيّةالدينيّة أو الشكل الواقعيّ لها، بحيث تغدو أيّة قراءة أخرى فاقدة للمصداقية والشرعيّة مالم يكن لها بعد أو تمثيل دينيّان، أيْ ما لم تكنْ تلك القراءة مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالربوبيّة الدينيّة والذاكرة الإيمانيّة.
لهذا كلّه نستطيع القول ان الربوبيّة الدينيّة (أيْ عملية اجتراح ربّ الديانات الذي هيمن على المعنى الإلهيّ و تمثّل في صفاتة وأسمائه) هي محاولة لها صواباتها وأخطائها في قراءة المعنى الإلهيّ المطلق، إلا ان الإشكاليّة التامّة في الإدراك الدينيّ للمعنى الإلهيّ هي إشكاليّة استلاب هذا المعنى وحصره في رؤية واحدة تطورت ضمن حدود المعرفة الدينيّة فقط، ولم تجدْ لها منافذ أخرى للظهور بحيث تتكون لها مصاديق واقعية أخرى لا تلتمس بالضرورة البناء الشكلي أو االسياق التركيبي للدين، فنحن لم يعد بمستطاعنا أن نعرف الله أو نبحث عن هذا المعنى المطلق خارج مدار الدين، فالله الذي تعرّفنا علية أو تصورناه أو اعتقدنا به هو فقط الربّ الدينيّ. وليس لـ(الله) وجود خارج مدار الدين كما هو واضح عبر التأريخ.
أيّن هو الله خارج الديانات؟ سؤال لانجد له إجابة مطلقاً إلا بشكل محدود وضيّق وفرديّ. لهذا سنحاول في هذه الدراسة أن نفصل بين ما هو إلهيّ أيّ المعنى الإلهيّ المطلق في الوجود الذي هو كلّ الوجود بدون تمايز من خلال السنّة الكونية والإنسان الذي هو جوهر الحقيقة الأرضيّة لهذا المعنى، وبين الحقيقة الربوبيّة وإمكانية هذه الحقيقة في تسخير القدرات الإنسانيّة في صناعة الأرباب عبر زمن الإنسان الأرضيّ. ولانريد من هذه الدراسة تهديم البنى الدينيّة أو محاولة تضييق معانيها بل سنقوم بعملية تفكيك آليات النظام الدينيّ في ارتكازاته الجوهرية من خلال صناعته للأرباب عبر التأريخ وليس من خلال النتظيرات التأريخيّة للدين التي حاولتْ إلغاء الزمن والبعد الإنسانيّ في عملية ترتيب الشواهد الدينيّة للحقائق الربوبيّة وربطها بالعوالم الإلهيّة، وسيكون شاهدنا تأريخ المعرفة غير المنحازه والشواهد الوجوديّة للمعرفة في إثبات الصناعة الربوبيّة والكيفية الظهوريّة لها، وصفات الأرباب من خلال الشكل التنظيمي للدين الواقعيّ وبيان ملامح الربّ الدينيّ من خلال قراءة ما هو مقدّس عبر التدوين الخطابيّ للربّ أو الممارسة الواقعيّة لمعتنقيه، وسيكون الدين الإسلاميّ هو الشكل الدينيّ الأول لهذا البحث لأنه الدين الذي يهمّنا على صعيد الواقع الذي نعيشة والوطن الذي نحن نتمي اليه، وهو يواجه مشاكل كبيرة في زمننا الحاضر ولم يحاول المسلمون الاعتراف بها أو حتى البحث عنها، وهم الآن في مفترق طرق: إما التقوقع على الذات وتضخم الأنا الإسلاميّة المتعالية وإدامة الشعور بوهم الأفضلية، أو محاولة التخلي عن الصفات والسلوكيّات التي تدعو إلى التصادم والعنف والتوحش وتطوير آليات العمل الدينيّ والسلوكيّ لخدمة الإنسانيّة وتهذيب مفهوم الربوبيّة والانفصال عن بعض الأشكال التأريخيّة المقدسة غير المنتجة لأيّ معنى إبداعي، سماويّاً كان أم أرضيّاً.
إنّ معظم المشاكل الإسلاميّة تنطوي تحت ما هو مقدس أو ما لايمكن التفكيرفيه، وأصبحت هذه المشاكل تسيء بشكل مباشر أوغير مباشر للمعنى الإلهيّ كونه انحصر أصلاً في الرؤية الدينة فقط، حيث تخلّتْ الديانات بشكل عامّ، والدين الإسلاميّ بشكل خاص، عن المبادئ الأولى لظهور المفهوم الدينيّ الذي يمثّل حالة روحية هائلة ومنتجة للمبادئ والقيم المفضية إلى مناخات المحبة والسلام واالتسامح وتنظيم ملكات الإنسان بغية بناء هذا العالم الذي يعيش فيه هذا الكائن المسمّى (إنسان).
على الضدّ من ذلك فنحن نرى ان هذه الديانات أصبحت مصدراً من مصادر القلق وإشاعة التوحش والرعب وتهديد الإنسان واستلاب أجمل صفاتة الوجوديّة وهي مدار(إنسانيّتة). إذ ان الإنسانيّة ـ في زمنها الأرضيّ أو السماويّ ـ ساعية إلى إنجاز مشروع (الإنسان) الذي لم ينجزْ بعد. وقد شاركتْ الديانات في هذا المشروع بتقديم نماذج إنسانيّة رائعة اختصّتْ بالحكمة والمعرفة الخالصة لمسيرة الإنسان الوجوديّة والمعرفيّة، وساهمت في بناء نموذج للإنسان. وبما ان الديانات هي بحث الإنسان الدائم عن عوالم اتصاله بالمجهول أو الغيب أو المطلق أو الطاقة الوجوديّة أو الله (وكلّها أسماء دالة على معنى واحد)، فهي رحلة لاتخلو من الأخطاء، وان إضفاء العصمة على هذه الرحلة الدينيّة هو عبثٌ أوصل الديانات إلى أن تشهد انهيار مفهومها الإنسانيّ الذي اجترحتْه هي ذاتها، وأصبحتْ إنسانيّة الإنسان عدوَّ الديانات الأول. وهو انحرافٌ يشكّل الآن أخطر مظاهر الدين في زمننا الحاضر. وهكذا فالديانات التي كانتْ في بداياتها مشاريع لانقاذ الإنسان من التية الوجوديّ وربطه بعوالم أكثر سعة وحكمة ومعرفة، قد استهلكت نهاياتها بتحطيم كلّ ملكات هذا الإنسان وتهميشه لصالح لحظات زمانيّة اتسعتْ بحيث قّلصتْ هذا الوجود الإنسانيّ. إلى أن وصل بها الأمر في نهاية المطاف إلى أن تتبنّى ـ بشكل مقصود أوغير مقصود ـ مشروع إزاحة الإنسان من الوجود كلّياً.

3-

الربّ ذلك السلوك الإرادي للإنسان في استحضار ما هو إلهيّ, أو بمعنى آخر هو ذلك الإختيار الاراديّ للإنسان في تكوين صورة الله في العالم، وتلك الرغبة الوجوديّة لتحديد ملامح المعنى الإلهيّ في كينونة معينة أخذت أشكالاً مختلفة منذ بدأ التفكير الإنسانيّ في الظهور إلى أن اكتسبتْ حقيقة أبدية في أنماط التأريح والواقع والمعرفة والحياة، ذلك أن حقيقة الربوبيّة متلازمة تلازماً دلاليّاً مع الحقيقة الإلهيّة ولا تتمّ التفرقة بينها في عالم الإجمال، ولكنْ يمكن النظر اليهما بوضوح في عالم التفصيل وفق المدارات الوجوديّة والمعرفيّة للعالم والإنسان حسب الرؤية الإشراقية والتي تعتبِر ما هو إلهيّ (بسيط الحقيقة الوجوديّة التامّة، سارياً في كلّ الوجود بدون تمييز أو تشخيص أو تفاضل بين المراتب الوجوديّة). هذا إذا نظرنا إلى الوجود من جهة ما هو إلهيّ، أما الحقيقة الربوبيّة فهي مرتبة تفصلية منتزعة من الحقيقة الإلهيّة، صنعها الإنسان ليقابل ما هو إلهيّ أو ليستطيع ان يظهِره إلى الوجود بصفات الإطلاق والكمال. وهكذا فإنّ الربوبيّة تكوّنت مع الظهور الزماني للإنسان وصُنعت في مدارات التفكير الإنسانيّ المتصل بالحقيقة الإلهيّة المطلقة، لهذا تنوعت الأرباب لأنها تشكلت وفق لحظات تأمليّة لحقائق إنسانيّة متطورة في أزمان أناسٍ ما "مثل الأنبياء"، أو من خلال حضارات لها عمق خيالي أسطوريّ وتأملي وربما فلسفي.
الحقيقة الإلهيّة (وهي كلّ الوجود وبسيط الحقيقة) ليس لها ملامح محددة أو حدود ذاتيّة لوجودها، بل هي فكرة أزليّة متلازمة تلازماً ذاتياً مع الوجود الإنسانيّ. ليس لها مراتبية ذاتيّة ولا تشخيص صوريّ لوجودها، ليس لها عبيد أو أنظمة تسلطية على الإنسان في اختيار الشكل الإيمانيّ أو الحياتيّ ولا تفرض عليه أيّ شكل تعبّدي أو طقسي محدّد، فحرية الإنسان من أصل الحرية الإلهيّة في الوجود وفق حقيقة السنّة الكونية والإتقان الوجوديّ لنظام الكون، نظراً لعدم وجود المسافات الزمانيّة والمكانية بينها وبين الوجود.
والوجود هو الإبداع المتواصل من أصل الوجود الذاتي لهذه الحقيقة، ولغتها العطاء المطلق بلا حدود ولاتمييز بين مراتب الوجود ولها الحضور التامّ في عالمَي التفصيل والإجمال، وشريعتها المطلقة هي السنّة الكونية المرسومة في النظام الوجوديّ والروحيّ للعالم.

4-
تمارس الديانات سلوكاً معرفياً في مكوّناتها الأولى للوصول إلى ما هو إلهيّ وتبقى مشدودة إلى هذه الحقيقة وتتبناها كمنهج للدعوة إلى ما هو غيبيّ ومبدأ مطلقاً يتلاءم مع الصفات الإطلاقية للغيب. ولا ينفكّ الدين عن مفارقة أساسيّة متمثلة في أنه يعلن أولاً إطلاقية الربّ الدينيّ وشموليتة للحياة والإنسان ثمّ سرعان ما يهدر هذه الإطلاقيّة أو يقيّدها تدريجيا أثناء ممارسة الربّ فعاليته الحضوريّة التي من خلالها يتدخل في كلّ المجالات الإنسانيّة.
إنّ الإشكاليّة الرئيسية في الديانات عدم اعترافها بفقدان مساحات القيمة الإطلاقية والإلهيّة أثناء تطبيق النظام الدينيّ على ما هو دنيويّ مما يؤدي إلى تصدع النظام الدينيّ وتوقف إبداعاته الإنسانيّة ومصادرتها إلى ما هو ربوبيّ، ثمّ استهلاك مفرداتها التشريعية لأسباب عدّة، منها إطلاق وشمولية التشريعات وفرض النظام الربوبيّ على كلّ البشر وممارسة الفعل التسلطي والحاكمية الحتمية للربّ المصنوع، وعدم التميز بين ما هو إلهيّ وما هو ربوبيّ، والإنشداد إلى لحظة ولادة الدين في زمن الأنبياء لصدق هذه اللحظة في انتمائها إلى الإلهيّ، وغضّ النظر عن عدم صلاحية هذه اللحظة المقدسة للأزمان التالية بفعل عوامل يمكن إجمالها بحركة الزمن والإنسان والتأريخ،فلحظة الرسالة لا بدّ أن تكون بالضرورة فاقدة لقيمتها التواصلية مع ما هو إلهيّّ.
تشترك كلّ الديانات، الوضعية منها أو التوحيدية، في فقدان هذا الإطلاق على صعيد الواقع الفعلي، لكنها تروم المحافظة عليه في مجال الوهم الدينيّ أو الذاكرة إلايمانيّة وأخيراً في مجال الوهم النظري أو الاكاديمي، وفق المقولة السابقة والتي تبين التنوّع الربوبيّ والتطور الزمني للأرباب وعدم وجود مسافة مادية أو معنوية بين السلوك الربوبيّ والسلوك الإيمانيّ للمتدينيّن. من شأن هذا الأمر أن يجعلنا نشكك في تصنيف الديانات إلى توحيدية وأخرى وضعية أو إشراكية، بل يمكن القول ان الديانات تتحول وتتغير انتماءاتها للإلهيّ بحسب الكينونة الربوبيّة المتمثلة في الواقع الإيمانيّ من كيانات مجسمة على شكل منحوتات تمثل الأرباب فتسمّى حينها ديانات وضعية أو اشراكية، أو إلى كيانات لغويّة مقدسة يتشكل بها الربّ على شكل خطابات وتعاليم مجردة وتسمّى ديانات توحيدية. والديانات الأخيرة هي التى جسدت المعنى الإلهيّ في كيانات لغويّة سُميّتْ بالخطاب الإلهيّ الذي سيصبح في ما بعد الكتاب المقدس أو الدستور االتشريعي لمعتنقي الدين والمؤمنين به، وسيكتسب القدسية المطلقة كونه الخطاب الإلهيّ للأنبياء فهو نتاج اللحظة المقدسة التي تكلّم بها الله وتحدث بواسطة ما، أو بشكل مباشر مع أنبيائه، وبلغتهم التى ستكتسب بدورها القدسية أيضاً تبعاً لقدسيّة لحظة الكلام الإلهيّ كونها اللغة التي امتلكتْ من الطهارة ما جعلها محلّ اختيار الله لها في تبليغ كلامه.
إن كلّ هذه اللحظات (التى ستتحول إلى ذاكرة إيمانيّة) تمارس شيئاً فشيئاً فعلها الانفصالي عن الزمن والتأريخ الإنسانيّ وتتحول من الحقيقة الإلهيّة إلى الربوبيّة حيث تتلبس الشكل الأول للظهور في تمازج غريب بين الكيان النبويّ والكيان اللغويّ بدون أيّ فاصل أو تشريح للكيانين واقعياً. وبالنتيجية الفعلية للمارسة الدينيّة سيصبحان محور التقديس المفضي إلى انتاج ما هو ربوبيّ والانسلاخ عن فكرة الألوهيّة الأولى (رغم التمسك بها لغويّا كما ذكرنا). فعندما يظهر الربّ الدينيّ في الواقع والحياة يختفي تماماً المعنى الإلهيّ. إذ الحقيقة الربوبيّة حقيقة مشتركة ومنتزعة معظم صفاتها الإطلاقية من الحقيقة الإلهيّة وتتشكل معظم تفاصيل وجودها من الرغبة والبحث في تشكيل صورة الله في العالم والبحث عن الهويّة الذاتيّة. فالربّ إذاً حقيقة دينيّة ومحاولة إنسانيّة لاستقطاع جزء من الحقيقة الإلهيّة. فمن خلال تأريخ الديانات وتكرار إنتاج الأرباب وفق المناخات والضرورات الإنسانيّة وظهور المشاكل التأريخيّة والاعتراضات والتشكيكات المعرفيّة والوجوديّة في الأرباب السابقين تتكرر المحاولة للبحث عن شكل يمثّل هويّة وحقيقة جديدة قادرة على استيعاب احتياجات الإنسان وتطوره، ومن خلال عملية إنتاج الأرباب في أيّ واقع معين أو امة كانت صغير أو كبيرة وانقسام نفس المفهوم في الديانة الواحدة يستوجب وجود جملة من المشاكل متعلقة بالأرباب السابقين وسنذكر بعض هذه المشاكل، منها:
- انسلاخ القدسية العليا عن الربّ أو الأرباب السابقين بفعل الممارسات الاعتقادية العشوائية واستغلال هذه الحقائق لمصالح طبقة معينة.
- تشظي الأرباب وانقسامهم بفعل الزمن.
- عدم توفر حقائق معرفية كافية وتوقف القدرة العلمية لتغطية تساؤلات جديدة وتأملات عميقة في الكون والوجود.
- توسيع دائرة الصفات القهرية والجبارية للأرباب السابقين وممارسة الظلم المتعمد ضد طبقات معينة واستغلال جهود طبقات من الناس لصالح طبقات أخرى.
- إهمال وترك الأسس الأولى التى قام عليها الدين أو المبادئ الأول للأرباب كالأخلاق والحكمة والمعرفة الروحيّة الخالصة.
- تطوير الملكات العقلية والروحيّة للإنسان بفعل الزمن والتجربة والتأمل وعدم قدرة الدين القديم والربّ المعتنق على توفير إمكانيات وعمق جوهري في المعرفة والعلم والتشريع في مجالات مختلفة مما يدعو الواقع والإنسان إلى البحث عن حقائق جديدة.
- ظهور طاقات جديدة وعميقة في المعرفة والتأمل بعونٍ من حقائق إنسانيّة لها عمق وإدراك مميز، وروحانية كونية ومفاهيم جوهرية عن العالم والكون متمثلة في الأنبياء أو المعلمين الأوائل…الخ.
- ظهور خلافات عقائدية حول مفاهيم أو افكار متعلقة بالربوبيّة أو المعنى الإلهيّ في تأويل أو تفسير بعض الخطابات المتعلقة بالكتب أو المبادي الأولية للدين.
- تخمة الأرباب واستيلاؤهم على معظم المفرادات الحياتيّة وإنتاج اشكال مختلفة من السلطة والاستحواذ على حياة الإنسان وأفعاله وسلوكة مما يحث الإنسان على التخلص من العبودية الاستحواذية للأرباب وتحكمها التامّ في حياته ووجوده.
- الاختلاف حول الحقائق المرافقة للفعل الأول والظهور الدينيّ المتمثل في أصحاب الأنبياء أو تلاميذه الأوائل وفي قابلياتهم وإخلاصهم وولائهم للحقيقة الربوبيّة، ومن هو المؤهل لقيادة الدين بعد موت الأنبياء والبحث الدائم عن الهويّة الفعلية لجماعات مرتبطة بعوامل مشتركة كالتأريخ أو الاعتقادات أو افكار معينة.

5-
الربّ هو شكل الحضور الإلهيّ والذي نحن نطلبه ونحدد ملامح وجودة ضمن المدار المطلق للمعنى الإلهيّ الذي هو(بسيط الحقيقة) وهو كلّ الوجود حسب التعبير العرفاني. هذا الفصل السلوكيّ والحقيقيّ بين ما هو إلهيّ وما هو ربوبيّ يقع ضمن مدار عالم التفصيل، أي ضمن الواقع الإنسانيّ والتأريخيّ لحركة الإنسان وصراعه مع المفاهيم المكوّنة لذاكرته والتي من خلالها يحدد شكل الربّ الذي يريد وإظهار ملامح وانعكاسات الذاكرة التي تبنّتْ الإنتماء إلى هذا الربّ أو شاركت عبر استمرارية الزمن في بنائة أو توضيح صور ظهوره وفعاليته في ترجمة النصوص الأولى أو قراءة الربوبيّة وفق الواقع المعاش أو التحولات الكبرى التي حصلت في مجالات الحياة الأخرى، كلّ تلك العوامل أسهمتْفي رسم صورة الربّ.
من هنا فالمهمة الأساسية لصناعة الربّ بظهوراته الأولى تقع على عاتق حقيقة واحد ة يقوم بها رجل واحد (النبيّ) يستطيع ان ينجز الشكل الحدودي للرب وتشاركه حشود تأريخية تتكاتف إيمانيّاً وتجنّد كلّ قدراتها العقلية لإثبات صلاحية الربّ الجديد وقدراته الفائقة من خلال تأويل النصوص المقدسة وتكرار التساؤلات التفسيريّة، وضخ القدرة التأويليّة والخياليّة للنصوص بغية خلق لغة متواصلة ومتجددة وفعالة في التاثير واحتواء زمن المؤمنين وصنع ذاكرة جاهزة يتمّ توارثها من جيل إلى جيل وتحمل كمّاً هائلاً من رموز التقديس المفرط الذي لا يّترك مجالاً عقلياً لمعتنقيه يتيح لهم التفكير والتأمل إلا من خلاله وعبره.
وتتكرر هذه الممارسة على طول الزمن الظهوريّ للدين في عملية تجدّد دائم من أجل تجميل صورة الربّ وشرح نظامه وسياقات عمله وخطاباتة وشرائعة بعونٍ من اللغة التي دوّن بها الخطاب الإلهيّ، تلك اللغة التي من خلالها تتكون مملكة الربّ الدينيّ أو المعنى الربوبيّ للدين. ولهذا حاولت المعرفةُ الصوفية أن ترتقي بالربوبيّة إلى ما هو إلهيّ، فقد كان بعض الصوفية طامحين إلى الخروج من مدار الربيوبية و الديانات إلى ما هو إلهيّ و مطلق، ينظرون إلى الوجود من مدار الإله المطلق لا من دائرة الربّ المستحضَر من ذاكرة الإنسان أو من خلال عوامل تأمليّة لها بعد معرفي وسلوكيّ خاص وبحقائق تجريدية وتأمليّة كالأنبياء مثلاً والمعلمين الأوائل والأئمة. فمن آثارهم التي تركوها لنا نرى المتصوّفة ـ في سلوكهم ومعرفتهم ـ ينظرون إلى الإنسان كجوهر وجوديّ ومركز تجاذب القوى الوجوديّة والمعرفيّة. ورغم انهم حاولوا الخروج من السياج الدينيّ، إلا انهم عمدوا أيضاً إلى تفسير عوالم الغيب والحياة والإنسان وفق رموز وإشارات تشترك مع الترميز التجريدي لبعض الخطابات الدينيّة، كما ان بعضهم استطاع أن يفلت من تراكمات الربّ الدينيّ، والبعض الاخر ـ وهو الأعمّ الأغلب ـ وقع في مطبات الذاكرة الدينيّة ولم يخرج عن المدار الدينيّ وشارك في عمليات تضخيم الربوبيّة الدينيّة، وتبنّوا الفهم الديني الناصّ على عدم اعتراف أرباب الديانات أن مدار الدين هو أحد المدارات في الوجود وهو رحلة الإنسان في خرائط المطلق الإلهيّ، ذاك أن الاعتراف سيكون الركيزة الأساسية في تواصلية الديانات وتغيّر كثير من سلوكياتها ومناهجها الإقحامية والثابتة في تجميد أيّ نشاط إبداعي للإنسان وتشويه ملامح الإبداع الإلهيّ الذي لا يّتوقف عن التواصل والعطاء كما هو مدرك من السنّة الكونية.
فالدين منذ تشكّل تأريخة الظهوري على هذه الارض في الشكل البدائي له، حتى عصرنا عصر التقنيات، يتواصل في جهد دائبٍ ودائم لإنتاج الأرباب وبأشكال مختلفة وحضورات لها عمق معرفي وفكريّ أحياناً، أو تصورات سطحية أحياناً أخرى. إذْ الربّ حقيقة مُنتَجَة مصنوعة من الشكل الإدهاشي للإنسان، وتواصل الهمّ الذاتي والتساؤلي والفطري له في معالم الغيب المطلق والمزاحمة القهرية والحتمية للقلق الإنسان الوجوديّ المتعلق بالموت والتفكير بالعوالم الأخرى أو الرغبة الذاتيّة للإنسان في الانتقا ل إلى العوالم الأخرى، والذاكرة المتراكمة لرحلة الإنسان في محاولة اكتشاف ومعرفة الامتداد الهائل للكون والحياة.. ولهذا نرى اختلاف الصناعة الإنسانيّة للربّ من دين إلى آخر وتتنوع أشكاله وفق الضرورات الزمنية والتأريخيّة ووفق الحاجة والمنفعة المادية والمعنوية، وتبعاً لشكل التواجد الإنسانيّ في بحثة عن الخلود تتشكل هذه الحقائق وتتنوع وتتكاثر داخل التراث الإنسانيّ بشكل واضح أو خفيّ. تتظافر كلّ هذه العوامل في عملية تحديد ملامح الربّ وترسم مملكته وصفاته وأفعاله وتحدد العلاقة بينه وبين عبيده. فعندما تتكوّن أيّة حقيقة ربوبيّة تتكوّن بجانبها حقيقة العبد. إذ لكلّ عبدٍ ربٌّ، ولكلّ ربٍّ عبدٌ بالنظر إلى الوحدة المتكثرة من جهة الأرباب والكثرة المتوحدة من جهة العباد والتي يتكوّن منها عبيد للرب الواحد، وأرباب تتشظى بفعل الزمن تبعاً لمراتبية الإنسان وتعدد مدار المعرفة والجهل.
تلك هي العلاقة الالتزامية بين العبد والربّ في تشكيل الخطوط الخرائطية لطرق الربّ بالنسبة لعبيده وطرق العبيد بالنسبة لأربابهم، وبمرور االزمن تتطور فكرة الربّ وتتنوع وفق الظروف المحيطة للإنسان وحجم الحاجة الوجوديّة في صياغة الربّ وحجمه وأهدافة في الوجود وكذلك وفق الضروروات الزمنية وتطور فكر الإنسان وإبداعه وإنسانيّته واستفادته من التجارب والأخطاء التأريخيّة في مسيرته الأرضيّة.
أما إصرار أهل الديانات في خلط (الإلهيّ والربوبيّ) فهو علّة الإرباك المؤدي إلى تعطل الديانات وتخلّفها وتمسكها بلحظة انبثاق الصناعة الأولى للربّ، أي لحظة ظهوره الأولى، وما ذلك إلا لقدسية هذه اللحظة التأريخيّة وقدسية صانعيها. وهذا الإنشداد هو ما جعل الربّ ينتمي إلى شكل من المعرفة الاستهلاكية يتوقف عندها الإبداع الإنسانيّ. ولهذا نرى ان الاديان تتباين في هويّات أربابها رغم دأبها على الاحتفاظ بالشكل الأول لظهور ذلك الربّ صاحب التسمية الأولى لهويتهم، كما في الدين الإسلاميّ، وفق الهويّة الانتمائية للتسمية الدينيّة وهو (الإسلام) الذي رسم ربوبيّة مطلقة لإله واحد احد يملك كلّ التفاصيل الوجوديّة وتوقف عند لحظة ولادة النصّ والخطاب اللغويّ المقدس االذي أصبح فيما بعد مادة التشريعات والقوانين والطقوس الدينيّة والتي تمتلك من القدرة الهائلة في تسييج ذاتها وحصر معتنقيها داخل إطارٍ تقديسي لا يمكن الخروج منه أو الانفلات من سلطة نصوصه المقدسة.
فالدين الإسلاميّ بشكل عام ورغم الإضافات والتحولات والانشقاقات التي حصلت في تأريخه منذ بدايات ظهوره الأول ونزول خطاباتة في بلاد الجزيرة العربيّة وحتى يومنا، إلا اننا نرى أن ملامح الربّ الإسلاميّ تظهر عليها الأمزجة والمناخات والتذوق العربيّ للمعرفة والطبيعة والحياة، وتنتسب تسمية الإسلام إلى المفهوم المجرد للانتماء إلى حقيقة الربّ الواحد الأحد وتظهر مصاديق هذا الانتماء في الشكل النبويّ للحقيقة المحمديّة كونها النموذح الأمثل والأرقى لهذا الانتماء الإلهيّ.
وفي ما يخصّ الديانة المسيحيّة فهي تننتمي ـ في تسميتها ـ إلى شخص المسيح والذي أظهر المعنى الربوبيّ في جسد عيسى بن مريم وسُميت على اسمه (المسيحية). أما اليهودية فتنتمي لحقيقة موسى التي بها صُنع الربّ اليهوديّ نسبة إلى العنصر اليهودي المختار من قبل الربّ لأفضيلية النوع اليهودي. وهكذا سائر الأديان القديمة ـ الكبيرة منها والصغيرة ـ وفق الانتماء الماديّ والمعنوي والتي تتبع تعاليم أخلاقية ومعرفية وسلوكيّة تتنسب إلى التأمل الأرضيّ تجاه ما هو سماويّ في صناعة الربّ الذي يختارونه لهويتهم الوجوديّة متناغماً مع التساؤلات الكونية والإنسانيّة التي من خلالها يترجم لهم الربّ الأجوبة ويسرد لهم تأريخ الأرباب السابقين ومسيرتهم وتوقفاتهم ونكران معتنقيهم أو تخلي البعض عن الالتزام الأول للعهد الدينيّ المقطوع بين الربّ والعباد، وممارسة النخبة الأولى المتمثلة في النبيّ وتابعية أو تلامذتة الطقوس والشعائر المستوحاة من الرحلة الدينيّة والسلوكيّة أو المستنبطة من النصوص والخطابات المقدسة ومعظم هذه النشاطات السلوكيّة والصراعات التأريخيّة للحفاظ على الشكل الدينيّ والتي حتما سيضاف لها الكثير بفعل التطور الزمني وحجم الصراعات الهائلة التي يمرّ بها الدين أو المذهب والتي ستصبح فيما بعد نظاماً للعبادة والتشريع أكثر قدسيةً وثباتاً من لحظة ظهوره وانبثاقه الأوّل ويكون الخزين التشريعي و القانوني الذي ينظم حياتهم وسلوكهم.
إنّ كلّ ذلك يمكن أن يترجم لنا رحلة الأرباب في التأريخ الإنسانيّ والذي خلّف لنا تراثاً هائلاً من المعرفة والعلم وكوّن أبعاداً حضارية في مسيرة الإنسان، لكنه في المقابل جعل الإنسان يدفع أثماناً باهظة راح ضحيتها أعداد كبيرة من البشر على أيدي بعضهم البعض وخاصة على يد أولئك الذين صاغوا لهم أرباباً مسلّحين هم في بزّة الحرب دائماً شاكي السلاح، فهل تأثر المربوبون بهذا السلوك التوحشي للأرباب، أم أن الأرباب ذاتهم كانوا ممثلين لتأريخ مربوبيهم، ومن خلاله مارسوا طقوس الحروب ولذة القتل والتغالب، وباسمه أحرقت جهود إبداعية كبيرة للإنسان وتركت اثاراً من العنف والإزاحة والتدمير مازلت تمارس إلى يومنا هذا؟


6-
صناعة الربّ من الإنجازات الكبيرة للإنسان في خلاصة تأمّله للمعنى الإلهيّ والذات الإلهية التي ما انفك الإنسان يبحث بشكل مباشر عن وجوده في دوائر معرفتها أو بشكل غير مباشر من خلال رحتلة التأريخيّة في المعرفة والسلوك والإنتاج الدينيّ الذي لابد ان يظهر بهيئة ما، تجريدية كانت أو تشخيصية، في كيان محدد. وتبدأ المقولات الأولى للظهور الربوبيّ إطلاقية حاملة للحكمة التأمليّة والمعرفة الخالصة والسلوك المجرّد والأساس الفعلي للبحث والتقصي في الحقيقة الإلهيّة، وغالباً ماتكون على يد نموذج إنسانيّ هُيئتْ له صفات إبداعية ومعرفية وسلوكيّة كبيرة استطاع من خلالها الاتصال بعالم الغيب. وتعتبر رحلة هذا النموذج في بداياتها ذاتيّة ومفردة، لكنها سرعان ما تتحول إلى طريق جماعية من خلال ترجمة التأمل في المعنى الإلهيّ الخالص إلى دعوة ومن ثم شريعة ما، ومن ثم هويّة محددة. و يسمّى هذا النموذج الاتصالي بـ (النبيّ)، أيّ صاحب النبوءة المتعلقة بالغيب وفق طرق سلوكيّة يتخذها للوصول إلى المعنى الإلهيّ. ويتكوّن شكل الربّ في رحلة النبيّ السلوكيّة وتتضح ملامح وجودة ويتكون شكله الظهوري على صورة النبيّ ذاته، وغالباً ما يحتلّ النبيّ أو الرسول أو صاحب الطريقة الإلهيّة صورةَ الربّ المطلق عند معتنقي ديانته الذين لا يجدون أفضل من صور أنبيائهم لتقريب صورة الربّ الجامع للحقيقة الإلهيّة، كما في الإسلام المرتكز على الحقيقة المحمديّة، أو الربّ المطلق الذي ظهر لعباده بصورة الجسد كما في المسيحية، أو الحقيقة الروحيّة للتجلي الفعلي لصور الوجود كما في البوذية، أو الحقيقة المخصوصة بالتنزلات الذاتيّة للالوهية في تجميع الحقائق الإلهيّة لشعب الله وإنقاذهم من الظلمات الطينية كما في اليهودية. وهكذا في كلّ الديانات تتشكل صورة الربّ على صور أنبيائه وأفعالهم وسلوكهم وتجربتهم التأمليّة لمعالم الغيب.

فهل بالإمكان القول ان كلّ الديانات التي ظهرت في هذا العالم عبر هذه الرحلة الإنسانيّة الطويلة هي ليستْ سوى قراءات في صفحات المعنى الإلهيّ، وان صناعة الأرباب جاءت من لحظات تأمليّة لحقائق متجردة استطاعت أن تؤسس لحظة إلهيّة لتكون ديانة ما، وطريقاً لإيصال الإنسان إلى إرداك حقيقة المجهول الغيبيّ، وان كلّ هذا التراكم الربوبيّ هو صناعة الإنسان المتامل في صفحات المعنى الإلهيّ.؟
إنّ هذا النحت الربوبيّ المجرّد كما في الديانات التوحيدية ـ بحسب الاصطلاح الدينيّ ـ أو المجسّد يكيانات إنسانيّة منحوتة أو المصوّر بشكل تمثيلي أو تشكيلي معين وفق الرسومات المعرفيّة والتدونية للكتب أو التعاليم أوالمقولات أو السلوك المقدس، إنّ كل هذه الأشكال التعبيرية تكوّن الخزين التشريعي والسلوكيّ والدعائي لكيان الديانات وهي كيانات ستصبح بدورها أشكالاً معرفيّة ودساتير تنظيمية تؤسس الذاكرة الدينيّة التي سيضيف لها المعتنقون فنوناً علمية وخزيناً إيمانيّاً كبيراً هو في آخر الأمر مصداقٌ للجهد التعبيري للديانات، وعاملٌ أساس في خلق مسافات معنوية بين هذا الخزين الربوبيّ وبين المربوبين، بحيث تصبح هذه المسافات تجريداً مثاليّاً هائلاً بعد أن يتمّ شحنها بما هو إلهيّ ومطلق لإضفاء الشرعية التقديسية عليها عبر الأزمنة، كما سيضفى عليها طابعَيْ الاستمرارية والإطلاقية الشمولية المستغرقة لكلّ الجهد البشريّ الممكن، في محاولة للاستيلاء على الزمن بكلّ أبعاده الماضية والحاضرة والمستقبلية، فيصار إلى شحن هذا المعطى الربوبيّ بكلّ الرموز التي تؤهله لهذا الاستمرار والتواصل , وتستولي شرعيته القدسية على التفاصيل الظهوريّة للربّ في تقديس اللغة التي تكلّم بها والعادات والتقاليد التي انسجمت مع المقولات الأولى للظهور، إضافة الى تقديس الأماكن التي كانت مسرحاً لهذا الظهور، وتداول التراث، الشفاهيّ منه والمدوّن، في سيرة الأوائل الذين رافقوا صناعة الربّ، وتقديس الأبطال الذين قدّموا أنفسهم قرابين له، ودافعوا عن لحظة الظهور الأولى للربّ، وهكذا يتشظى التقديس ليصل إلى أشكال الملابس وتصاميمها والادوات التي استخدمتْ وطرق المعيشة، بل يتعدّى ذلك ليبلغ تفاصيل جزيئة متعلقة بأمور مغرقة في شخصيتها وهامشيتها التصقتْ أو أُلصِقتْ بأشخاص الأنبياء والفئة الأولى المرافقة له في عملية تكوين الربّ الدينيّ، إلى أن تغدو هذه التفاصيل عادات تعبّدية إلزامية في كثير من جوانبها لأنها رافقت لحظات تكوين الربّ والهويّة الدينيّة التي تساوقتْ مع لحظة ظهور هويتهم ذاتها، ويتمّ تعميم هذا الإلزام على سلوك المعتنقين أو المتوارثين للهويّة الدينيّة وتتدخل بشكل إقحامي وتسلطيّ إلى حدّ لا تترك معه لهم أيّ خيارٍ آخر، حتى وإن كانتْ هذه التفاصيل الشخصية غير مؤثرة على أيّ سياق وجوديّ، فهي في مجملها حالات إنسانيّة ذاتيّة تعبّر عن سلوك ذاتي للإنسان والتدخل بها من قبل الأرباب الدينيّن يمثّل رغبة الهيمنة والتسلّط الإطلاقيّ الممنوح لهم من جهة التمثّل الإيمانيّ المطالب دوماً بهويّة تجمع معتنقيه على أمر سواء، وتوحيدهم في أدقّ تفاصيل معيشهم للتساوق مع هيئة الربّ الواحد، لتكتمل بذلك دائرة التسلط والحاكمية على صعيد المفاهيم والسلوك والتى سيكون لها تاثير سلبيّ على حركة الأمّة المعتنقة للدين. وتمثل هذه السلطة البعد التقديسي للدين والذي يحدد هويّة الربّ ويلزمه بالسلطة. فالربّ بلا سلطة حاكمة إنما هو ربّ مسلوب الارادة وغير مؤثر. ولهذا تعتمد الأديان في نشر أفكارها ودعوتها على ربوبيّة تمتلك صفات التسلط والحاكمية، وغالباً ما يستخدم السيف وسيلة للبرهنة على هيمنة الربّ الدينيّ على مجالات الحياة المختلفة.

7-
تتكون الملامح الأساسية للخرائط الربوبيّة في الواقع الدينيّ من عدة مراحل عديدة، منها:
- ظهور الفكرة الأولى، وهي إما تكون حاملة لملامح الحقيقة المطلقة (الله) والتوحيد التامّ لمسمّى المعنى الإلهيّ المتبعثر في الهة وأرباب، أو تكون بعيدة عن المعنى المطلق.
- الوساطة المباشرة في نقل الاخبار المنزلة من السماء بواسطة(النبيّ) من خلال وسيط (الوحي) أو بشكل مباشر أو نزول الله في الجسد كما في المسيحية، وإعادةكتابة التأريخ الدينيّ للاديان السابقة ونقل الاخبار للامم وأنبيائهاوربط الدين الجديد في الأبوّة الإلهيّة المتوارثة والشجرة الدينيّة
للأنبياء كونها المعبر الحقيقيّ عن المعنى المنقول من السماء حول أحوال الأنبياء واممهم ودياناتهم ورسم خرائط التكوين والخلق الأول للوجود والكائنات وفق التصور الدينيّ المنقول من خلال الخطاب الإلهيّ.
- تأكيد منطق الحكمة العليا والتمسك بهاوإعلاء المبادئ الإنسانيّة والوصاياالاخلاقية والوعود الإنقاذية من الظلمات والتسافل الإنسانيّ والظلم الوجوديّ للإنسان.
- رسم الملامح الأولى للدين الجديد في تصفية الأرباب السابقين وتحطيم القيم الاشراكية وتسفية وجودهم والحطّ من الشكل الظهوري لهم.
- إطلاق التعاليم الخاصة بالدين ورسم الملامح الأولى لظهور الربوبيّة بشكل أكثر قوّة ومعرفة وسعة للحياة وأمنيات الإنسان في كلّ العوالم.
- تحريم بعض الجوانب العرفية والقيم الدينيّة السابقة والتي تتصادم مع المبادي الأولى للدين وإزاحة البعض والاستفادة من شكل الحياة والواقع واللغة والثقافة والتراث وأمنيات الإنسان المؤجلة على صعيد الواقع أو الخيال.
- إطلاق الوعود العامّة والخاصة بالخلاص والإنقاذ وتغطية مساحات الأمنيات المؤجلة والوعد بتحقيقها قي عوالم أكثر سعة ورحمة من العالم الأرضيّ كأمنيات المتدينيّن في الجنة في الإسلام، أو الخلاص من كلّ الذنوب في المسيحية، أو الرجوع إلى الأصل الإلهيّ كما في اليهودية.

- تحشيد النصوص التي تدعو للتشريع ورسم واقع إلهيّ خاص بالدين وتنظيم المؤمنين وفق أنظمة مرتبطة بشبكة واسعة من خطوط الاتصال مع العالم الغيبيّ مثل الطقوس والعبادات والتعامل وفق أنظة معينة في طقوس الموت والزواج والبلوغ والتجارة والنوم واليقظة والعالم والمعرفة. الخ.
- يبدأ الربّ متعاطفاً مع الأرباب السابقين ويشخص بعض أخطائهم ويدعو أتباعهم بطرق الرحمة والحسنى للتخلّي عن تصوراتهم الدينيّة أوالعيش بسلام مع الظهور الدينيّ الجديد، ثمّ يتحوّل بشكلٍ تدريجي أو مفاجئ إلى محاربة كلّ الأرباب السابقين والأشكال الدينيّة الأخرى، حالما يتبنّى الدين الجديد صفات الإطلاق والشمولية فإنه يلزم الآخرين بشتى الوسائل لاتباع الربوبيّة الجديدة والتى تكتمل ملامحها مع اكتمال