ترجمة: نائل الطوخي


1
خط تل أبيب – حيفا، إلا ربع
تحت المقاعد، بين حقائب الركاب
تصطاد عيناكِ، عينا الظبية المرتاعتان، نظراتي.
سلام لانعكاسكِ
أشتهي معرفتكِ هذه الليلة عبر تلامس بؤبؤي العين الضيقين
لا أكثر ولا أقل

2
أخذت بالك؟
عندما تتفصد عيناي بالشرر
لا تشتعل أوراقك بالنار
كذلك يتحول البكاء إلى عادة بيننا كالرمل في عيني الرحال.
مثل حصاة في الحذاء تعودنا على وجوده المخدِر في حياتنا
لم أتوقف أبداً عن الرغبة فيك
غير أنك توقفت منذ زمن طويل عن الاعتذار
عصفور دقيق الجناحين يدق بمنقاره على شفتي، خبريني
كيف تعلمت التصالح مع جوعي
الذي يمزقني إرباً إرباً

3
وما هي الحقيقة التي تصر على التحدث الليلة؟

4
خط تل أبيب – حيفا، إلا خمسة
أجول وحدي في العربة كالنوم من مقعد لمقعد
رجاء، قربي ركبتيك من بعضهما البعض
حتى أتمكن من الجلوس و من أن أصف لك ما حدث في يومي بالتفصيل
مثلما كنت

5
طفلة صغيرة أنت يا قدس
زوجة رجل
ماما
لست ابنتك ولن أكون محبوبتك أبداً
وعلى أوقات متباعدة قبل الصباح
عندما تتساقط السحب على الكرمل متعدد الطوابق
يكون كتفاك عاريين بجواري على السرير

6
أعدك بألا أحصي تجاعيدك
وألا أزخرف الكعك بالشموع في عيد ميلادك عدداً لسنوات عمرك
إلا إذا وضعت شفتيك على جبيني
منقبضتين كقلبي
ساعة استيقاظي

7
دعي لمساتي تزهر بين ساقيك
يخلع الليل النهار من على جسده
لماذا لا تتعرين أنت كذلك؟

8
لكنني اشتهي نومك أكثر من جسدك.
اللحظة التي تعودين فيها لتكوني تلك الطفلة التي أمرت نفسك بهجرها.

9
كأنه يصلي، يضع شخص متدين البطاقات في الحائط
أهمس أنا لنوافذ جسدك:
"هاي، أنت لي" أتمتم خلف ركبتيك
"لا تتركيني"، من تحت أظافرك
"لا تدعيني أصحو أبداً" في الفراغ بين ثدييك.

10
أستيقظ نهاراً مرتاعة
نضجت لمستك تحت قمر ملتهب طول الليلة
ومع لسعة الشمس الأولى سنختفي
لا أفهم كيف استطعت المغادرة بهذه السرعة
أم أنك لم تكوني أبداً.

11
لو أنك لست أمي
ولا محبوبتي
فمن أنت؟
هذا فقط ما أعرفه
تنقسم السماء لاثنتين (دوماً هما اثنتين، لا أكثر)
هذه التي تسبق مجيئك، و تلك اللاحقة بذهابك

12
حقول مخضرة، مذهبة، ثم مصفرة
تغير عيناك لونهما كل يوم.
عندما أبكي يشتعلان بالقلق، حمراوتان كالحوذان
عندما ألج بداخلك يبيضان من المجهود الذي أبذله.
عندما أغادر، يتحول بؤبؤاك إلى السواد كالفحم، من المهانة.
وعندما أعود، عندما أعود
يصيران شفافتين، مثل لمساتك لوجهي.

13
تحبينني كما يحبون طفلاً
غضبانة، مشفقة، تشعرين بالحاجة
أحبك كما يحبون ماما
كارهة، خائفة، لدي طلباتي.
مغمضة العينين
أعي بقوة بأني وُجدت من عدم
وبأنه علي حمل الوجود والعدم سوياً.
توأمين بلا اسم مقرر مصيرهما سلفاً

14
أنت، التي تجتثين الحزن مني
وتوقظين الحياة بجسدي المتعب،
حتى أنت سأتركك يوماً ما
لصالح موت محسوس أكثر، أكيد أكثر
من حياة ممزقة
قصص حب قديمة، رسائل بلا مرسل إليه
عادة منهَكة
تنسال يوما بعد يوم على عتبة بابي

15
وأنت، بعينيك، عيني العظاءة
دعيني أضيع حياتي
كما يضيع الأطفال أغراضهم

16
يومياً أصحو على أشلاء النهار
أرتعش من البرد. وجهي محمر من الغضب، أُشَرّح الهواء بخطواتي
تعلق أسماك القرش بعيني، بكاحلي، بشعري.

17
"واصلي السير، حتى إن لم تجوعي،
ولم تشبعي، ستموتين حافية، مجهولة الاحتياجات
تغطيك الأخطاء كأنها الجلد،
كما لو أنك
يتيمة من ذاتك"

18
في الليل تدق السماء على اسمك بكواكبها. قمر خام يضحك لي.
ينبعج درب اللبانة تماماً عندما لا تقفين في الداخل
وتنبسط يدي إلى الدبة الكبيرة في شوق للطفولة
للحياة السابقة على الانفجار الكبير، اكتشاف ومداراة الضياع
الأكثر إقناعا والذي سأصل إليه يوماً، هذا الذي سبقك
أنت أيضاً

19
قد تبرق عيناك في الظلمة.
أقطف دباديب من شفتيك، بخبرتي في لغة الغابات
يستجيبون لي، يخلصون للغتك.
مثلهم، عارية أنتظر تقطيعي على اللوح الخشبي
انتظرتك لسنوات، انتظرت أن تفطميني عنك
بالبريق الأبيض لسكين نظراتك

20
غير أنني لا أرى عيني أمي.
وبدلا من سنوات طفولتها والتي هي طفولتي
وسنوات يتمها والذي هو يتمي
انغرست الكلمات، كملاءة تحت بطانية.
أنادي الوقت العابر والمسافة المتراكمة بيننا
في التجاعيد المحفورة في وجهها، نتذكر خيوط
الذاكرة بدلا منها
بالضبط مثلما أن علي أن أعيش
أن أعيش
وأن أموت بدلا منها

21
هي كانت أمي حتى هبوط المساء.
عندما لثمت الشمس ظهور الحيتان
أغلقت جفونها وقبضت وجهها.
تحممتُ بدموعي. نمتُ في غرفتي، مدفوعة نحو أعماق ناديتها فيها باسمها
كأنما أردت أخذها معي، فرتْ بعيداً إلى ساحة البيت.
رأت العصافير هذا وسكتت الأسماك
تحممتُ بدموعي

22
سأركض من بيت لبيت مطلقة ساقي، أزأر:
"من هي أمي؟ من هو أبي؟"
وبين الحين والآخر ستفاجئني يد دافئة ومواسية.
وبين الحين والآخر تقطع فراغ السؤال ضحكة سوداء وجامدة.
الاثنين هما ما أريد.

23
في حياة أخرى سوف أكون أمك
ولن أتركك
وفي حياة أخرى سوف تكونين

24
ازددت قبحاً لسنوات وسنوات، يا ماما،
كبرت و كبرت تحت كفيك الدافئتين
كطفلة، تصر قدماها على الخروج من أسر النعل.
في النهاية انعكست عيناي في عينيك
تنظران بخوف في المرآة الخالية التي نصبتُها في وجهك
ووجهك
رخام مشقق

25
الكماشة التي سرقت مني جسدك
أضحت أذرع نَدَبْتُها في طفولتي
يسيل دمي عميقاً، بالطول والعرض، انتهاء إلى الفراغ
وأعود إلى بطنك، حضن الأرحام كلها.

26
إذ لا تكونين موجودة، تنشق الأرض تحت قدمي عن صرخة.
تضحى السماء سبيكة واحدة فوق رأسي
في داخلها يأخذ القمر في التعاظم، بؤبؤ
المساء لهذا المغمضة عيناه أبداً
غير أن ذاكرته صاحية

27
صباح السبت، الشارع يجأر في نومه
لن يوقظه الحنين
ولكن، قد أميل رأسي، أتنصت للغة الأرصفة المتأججة
أعرف متى تعودين

28
ولن تعودي.
حينما غادرتِ للمرة الأولى
صليل التليفون، حفيف القفل،
وخطواتك في الشارع الرطب
تيقنت ساعتها، بثقة غير محدودة
أنني، منذ ذاك الحين، لن أسمح لك بالعودة

29
في الليل أنقش صورتكَ في ذاكرتي
شعركَ الأصفر يختلط بدمي.
ذقني حمراء، تأخذ في التحول إلى الأزرق
بينما أصابعك تقبض على رقبتي.
لا تتوقف حتى عندما أفقد الوعي.
تعرف، مثلي، أن ليس هذا هو الهواء الذي أحتاج لأخذ أنفاس عميقة منه
سيزيفة مرهقة
تُدحرجُ نصب محبتي

30
العاشرة ودقيقة، حيفا. الكمبيوتر شائط، التليفزيون يصفّر
بعد قليل سأخرج للشارع لأصيد الجسد الذي ينام بجواري في الليل
صدري يرتعش، عيناي حمراوتان، أظافري مقروضة حتى اللحم الحلو
أبحث عن ظلي، عندما أجده
سوف أتمكن من المغادرة أنا أيضاً

31
أنتِ
كنتِ فرصتي الأخيرة
كيف جرؤت على استنشاق كلمات مختلفة عن تلك التي علمتك إياها
كيف جرؤ جسدك، والذي هو جسدي، على جرح عيني بالاختلاف
كيف جرؤت على أن تولدي
وأن تغادري

32
تتناسخ صورتكِ في محبوبتي مراراً وتكراراً
أصحو في الليل وأرى وجهكِ ينظر إلي
بارداً ونائماً. ترف عيني، تختفين وتعود محبوبتي.
سوف أحمل دوماً نظرتك على ظهري الذي يأخذ في الابتعاد
سوف تحميلنني دوماً في رحمك المجتث

33
ما الذي تبقى؟ سوتيان مشبع برائحة عرقكَ
ندبة أو اثنتين في الورك
عشرات الصور المفرقة.
رأيتكَ في الأوتوبيس من فترة قصيرة،
جندياً مرهقاً، البندقية السوداء في يدكَ
مثل جثة في يد حفار قبور
لم أخف. فقط في أحلامي كنتَ تطاردني
وعيناكَ تطقان بالشرر

34
حبيبي، أصابعك لا تزال مغروسة عميقاً في حنجرتي
كل سعلة، كل نفس، يحمل آثارك.
تلقي طيناً في عيني. تشد شعري.
جماعة أخرى، صلعة أخرى، قسم أخر مني مغروس أنت فيه
أعمق كثيراً من أي نوم أو من مغارة غامضة أخرى.

35
لن أفارق أبداً. لن أهادن
سوف آخذ وأُضيع ما أخذته في نفس الآن
لم يكن دوري من قبل أبداً بهذا الوضوح
في غمضة عين سأكون مالكة العالم ويتيمته.

36
تحلق عينا أبي في فضاء الغابة.
نركض بين الأشجار الكثيفة حتى تنقطع أنفاسنا.
أنشُر أضلاعك يا بابا، ألصِق رقعة حمراء بقلبك،
عملية قلب مغلقة.

37
في النهاية،
نقبوا هم في قلبي.
أيديهم داخل جسدي، مغطاة بالقفازات، مطهرة من الإحساس بالذنب.
قناع على وجه طفلتي. سكاكين مسنونة في مواد التعقيم
تنعكس في أعينهم. تلميع الأسلحة في حرب ابتدأت لتوها
الروح ضد الجسد

38
انظر يا أخي إلى وجه الجراح الشاب
إلى عدسات نظارته اللامعة، إلى عيني النحلة الواقفة فوق رأسي
مصابيح سوداء وهادئة. بعد قليل سأموت
سآخذ مكانك في مدفن الأطفال، وأنتَ
فلتأخذ مكاني في مدفن موتى هذا البيت

39
لم أقم بدوري في الصفقة.
أنابيب سميكة في أنفي ويدي.
مرايل خضراء تغطيني كالأغلفة.
شخص ما يقرص ذقني ويقول: "هل ترون؟ إنها حية."
وأفهم أنا أنني فشلت. أنا حية وأنتَ لا تزال ميتاً.
كل ما سيأتي سيكون تكفيراً.

40
في الليل، لم أستطع مناداة النوم
قبضَتْ على ذراعي الدقيقة وحكت لي عن المرأة السيئة في الصالون.
أنار الضوء بؤبؤيها من ثقوب الكالون
عندما انبلج الفجر كنت قد عرفت:
هذه المرأة ولدتني، منعت أرحامها عن الآخرين.

41
سمعت دقات على الباب الحديدي
مالت عيناي، عينا الطفلة، بأسف
ظهرك يبتعد، يد البستانية على كتفي
قبل أن يمسني الحنين، يقبض الخوف علي.
أجري بتركيز، بكل قوتي أناطح المزلاج.
جبين، الناحية اليمنى، ندبة أولى.

42
في ليلة سمينة و لا نهائية للصف الثالث.
عندما تنتهي كل الأغنيات التي تعلمت إنشادها.
يلدغني الفهم. أفتح عيني
لن تكوني أنت هناك. وأحياناً أغمضهما بقوة حتى أرى بقعاً
وترفضين أنت الانمحاء.

43
ثعبان أبيض يلتف حول رقبتي لسنوات، ينتظر صابراً.
أصحو لأجد نفسي بجوار جسد غريب، نائم في سريري، مشدودة على امتداد الزمن المتمدد كالكارثة.
هذا سم الطفولة، المخدر الذي أدمنه
يتقدم في خطى سريعة، إلى داخل وعي أخرس عن معرفة الغيب
المخدر لا يقف أبداً

44
كل شتاء تتفتق ندوبي
ويتلقى جسدي البرد بخنوع
هو الوقت الذي لا أستطيع فيه كتابة كلمة.
أتغطى بنومي كجلد
غيرته فجأة، ذات ربيع، عندما أحببتكِ
وانتقلت إلى الصف الموازي للطفولة، سحرت نفسي في أحلامي.

45
"تعالي أيقظيني" أزفر في نومي القاسي
أغوص داخل الوسائد العرقانة والبطاطين الفلانيل المتهرئة
كبيضاء الثلج، ملتصقة بنومي، ليس من شيء في العالم بإمكانه إيقاظي
ما عدا لمس أهدابك لذقني، كفيك لبطني.
كذلك أتعلم أنا: فقط الجسد هو ما يتذكر.

46
في خماسين ألف تسعمائة خمس وتسعين
بدت لي مفاصل ذراع أختي المندوبتين كمناديل ورقية
نجلس على كراس بيضاء في فناء المستشفى
الجو حار.
أرفع رأسي وأتطلع إلى حيث تكون الشمس مستحيلة

47
من الطابق الرخامي قفزت إستي، من الغرفة رقم ست وثلاثون.
أحبت يورام جاءون أكثر من أي شخص آخر.
أقامت أختي لشهرين ونصف في غرفة رقم سبع وثلاثين
سرير أخضر بجوار الباب. تروللي مزود بعجلات.

47
حيث أبعد عنك مسافة مائتين كيلومتر وثلاث درجات حرارة
أكتب لك يا أمي
استرجع يومياً مغادرتك لي
وفي سن الواحدة والعشرين أجمع أنا لحظات الفراق
بصرامةِ جامع طوابع.

48
تحفر عيناك فيّ نَبْتَ الشعور بالذنب
الآن، يفصل بيننا حقل كامل من السنابل المحروقة.
لا أقول لك شيئاً. ولا أنت علمتيني الحديث.
إن كان الصمت هو اللغة الأم
فالشعر هو اللغة البنت

49
أنا حبلى بذاتي
مشتريات من البقالة. سفر بالأوتوبيس للجامعة.
ليلة خاملة أمام التليفزيون في الصالون
انظري إلى جسدي يزهر قبضة خفيفة.
كل نظرة من نظراتك، لدى اجتيازي العتبة
إبرة مجمدة بين ساقي

50
أنا العضو الغريب الذي لا يزال جسدك يرفضه
حتى بعد عشر، عشرين سنة من ولادته
ابنتك

51
إلى أين سوف ترمين الاغتراب
حادثة قربى الدم الواهية
العبث الذي بيننا؟

52
في الثالثة بعد منتصف الليل يحدد البرق، وبعده الرعد
نهاية الليل الذي يضربنا بأقفاله
أقبّل خصلة أمي التي تنفث هروباً
وأحل قبضة أصابع أبي من على حنجرته.
أغطي أختي التي تتحدث نائمة
أضع بينهم جلدي المجعد الذي غيرته
أخرج من البيت مغمضة العينين.
في الخارج فقط أفتحهما وأقول، في البدء همساً، ثم أصرخ بعد ذلك:
الآن، الآن
عائلة

مايا كوبرمان شاعرة إسرائيلية شابة من أصل بولندي، تعيش في حيفا

نائل الطوخي كاتب و مترجم من مصر

القصيدة مأخوذة عن عن دورية مِطاعام الإسرائيلية اليسارية