تطرق ميرلو بونتي في آخر كتاب له "العين والروح" – 1960- إلى العديد من الأسئلة التي كانت حاضرة في كتابه فينومينولوجيا الإدراك" 1945- phénoménologie de la perception، وهي نفس النظرة التي تتطرق إلى الرؤية والعلاقة التضادية بين الموضوع والشيء المتواجهيْن كمكونين مختلفين، مع استحضار بعدهما من خلال الرؤية التي تحدد هوية كل من الجسد والعالم في تمازجهما ليصبحا واحدا مركبا : جسد- عالم، وبذلك يصبح الجسد غير مستغني عن العالم وبدوره يصبح العالم منصهرا كليا في الجسد،يقول: " وتجربة الجسد تصبح هنا تجربة اللاقطيعة بين الأشياء والأنا". فاللغز الذي يتمحور حوله فكر ميرلو بونتي يجعل الجسد من جهة ناظرا، ومن جهة أخرى منظورا إليه، فهو الجسد الذي يتطلع إلى كل الأشياء ومن خلال النظر إليها يتعرف على الجهة الأخرى في قوتها الناظرة. -

فكيف يمكن للروح أن تدرك معنى العلامة ؟
- كيف للآخر بكل الاختلاف الذي يشكله أن يكون مرآة للأنا ؟
إن الآخر عندما يُختزل في نظرة الآخر إليه ترتسم إذاك العلاقة الفينومينولوجية بين الآخر كجزء من كل والكل كجسد خارجي، فتعدد النظر إلى الجسد من الآخر (آخرين) تحدده في استمراره كجسد سوسيولوجي ومن ذلك يبتعد الفضاء عن حدود كونه واقعا منطقيا لمناولة الأشياء وإدراكها بل يبقى الوسيلة التي تتحقق بها تموضعات الأشياء.
ولقد تطرق لوكر يسLucrèce (99-55 av.jc) في كتابه De la nature إلى العلاقة بين الجسد والروح التي تلعب بدورها دور الحارس والحامي للجسد ولا يمكن التفريق بينهما بدون تدميرهما. قد تكونا منصهرتين منذ لحظة نشأتهما ليعيشا قدرا واحدا وإدراكا مشتركا، ففي اتحادهما عند لوكريس وحركتهما يشتعل بداخل الإنسان توهج الحياة. فالجسد يُحرم من الإحساسات إذا تعطلت الروح. وانتهى Lucrèce بوضع فرضية لا تخلو من إدانة للجسد باعتباره قاصرا عن إدراك جوهر الشيء في ذاته عندما صرح بأن الجسد هو وسيلة فقط لعبور الأحاسيس فالروح تجد صعوبة في نقل تلك الأحاسيس ومن ثم افترض "أن الروح ممكن أن ترى جيدا لو تخلصت من العينين وتلك المنافذ التي تشوش عليها.
وقد عاد ميرلو بونتي في كتابه فينومينولوجيا الإدراك إلى طرح السؤال على وجودنا وقد قسمه إلى الشيء والوعي فاعتبر أن هناك معنيين فقط لكلمة وجود " exister " فقال بتواجده كشيء أو كوعي وجعل من تجربة الجسد الخالص هي من يبوح لنا بشكل الوجود المتعدد في معناه. والجسد الخالص بالنسبة لميرلو بونتي في كتابه الأخير الظاهر والمختفي (le visible et l’invisible) 1964- ليس فكرة لوعي دائم وليس شيئا ماديا ولكنه منبع إحساسات دائمة، ويعتبر الظاهر والمختفي فلسفة للكائن الخام، كثافة المادة الجسدية التي تجعله يرى الأشياء ويقترب منها ولكنه لا يتماهى معها وهذه المادة la chaire عند ميرلو بونتي ليست ذات الطابع المادي بل هي " تقوقع المنظور على الجسد الرائي، هي ما نلمسه فوق الجسد الملموس (...) la chaire ( التي للعالم أو لي ) ليست اعتباطية، عمياء لكن نسيجية ترجع لذاتها وتدعو لنفسها "
وبحسب ما طرح ميرلو بونتي من خلاصات حول التصور الفينومينولوجي، هناك قوله بجسد للروح وهناك روح للجسد وهناك " الشيازم" le chiasme التي تعني عنده " تحديد الروح بمثابة الجهة الأخرى للجسد " والجهة الأخرى تعني لديه أن الجسد غير قابل للوصف وهو جهة أخرى حقيقية التي يختبئ فيها. فبما أن للجسد جهة أخرى غير قابلة للوصف بالمعنى الموضوعي فهذه الجهة هي الجهة الأخرى للجسد.
بينما ميز رولان بارت ما بين العلاقة الحقيقية للجسد وما بين الشكل الذاتي له حيث قال " العلاقة البشرية هي أن جسد الآخر عندي ودوما صورة لأجلي، وجسدي دوما صورة من أجل الآخر، لكن ماهو أكثر وضوحا وأكثر أهمية هو أن جسدي بالنسبة لي شخصيا الصورة التي اعتقد أنها بحوزة الآخر عن هذا الجسد" (1).
إن الصور الشيطانية التي تحيد بالأجساد وتشوه مظهرها عن طريق الحب أو الغضب جعلت رولان بارت يمركز الإشكالية حول خصائص تلك الصور التي تصبح من المعطيات المباشرة بمجرد وضع السؤال حول الجسد. فالصورة تضع نفسها في رحاب النظر أو في تظاهرة جسدية لفكرة ما، فحيث هناك جسد هناك دائما استعراض ممكن للجسد الذي يحتوي على جانب فيزيائي ذو فضاء محدود.
هذا الفضاء قد يتعلق بالأساس بكل ماهو سيميولوجي من حيث أنه لا توجد هناك مثالية في الجسد يمكن أن تعادل مثالية الأعداد أو القيم. فالجسـد من خلال هذا المعطى يحيلنا مباشرة إلى المعطى الامبريقي ومن هنا " فالجسد المثال ليس دائما هو الجسد الحقيقي" (2 ).
رغم ذلك يبقى الإنسان متشبثا بالبعد المتأصل للجسد الخالص لكل واحد منا، ومن ثم يبقى قبل كل شيء جسدا حقيقيا مع الصور الحقيقية التي يعطيها عن نفسه والتي يعطيها لنفسه أمام الآخرين.
فحيث لا أحد يدرك جسده بشكل موضوعي فكل جسد هو بالضرورة عجائبي Fantasmé، ويبقى الخطاب النفسي- التحليلي هو الكفيل بتشخيص الأبعاد المعرفية التي تجعل الإنسان يختلف جسديا ضد طبيعة الأشياء الواقعية الممنوحة من طرف الطبيعة. فالجسد بذلك أصبح لعبة سوسيولوجية ذات وظيفة متخيلة، لمضاعفة أوجه مستنسخة من الصورة الاجتماعية المتجددة في جسد المجتمع، وهي سلسلة الصور التي كان من المفروض أن تبقى في الملكية الخاصة لكل جسد، ومن هنا نستخلص أن النموذج المثالي للجسد هو الذي يعزل باستمرار كل الاختلافات حول طبيعته إلى حدود التحييد الشامل للإخلاف الجنسي. وإذ تُعدِّد الحضارة من صورها حول الجسد ترسخ جسدا معينا مملوءا بالصحة والشباب وهي استيهامات تأبيد صورة جسد تصنع منه فخا للمتلقي في رغبة ليست له، ولهذا نعرف مع رولان بارت أننا عبر صورة الجسد لا نملك سوى ضعفنا.

الهوامش
1- Bruno Huisman/ Francois Ribes « les philosophes et le corps,Dunod, paris, 1992, p, 311

2 - Ibid, p :312.

مكناس في 30/10/2005 على الساعة: 12:23