اتساع المفهوم وتحديدات السياق

في أثناء تحديد ماهية أي مفهوم نواجه جملة من المشاكل العرضية، ولا سيما إذا كان هذا المفهوم معرباً. وفي أحايين كثيرة لا يخلو استعمال المفهوم من مشكلات حتى في حدود موطنه الثقافي ذاته الذي نُحت فيه. بالمقابل نرى أن ابتكار أو إدخال مفهوم فعال ما سوف يفضي إلى إيجاد طقم من المفاهيم المحايثة والتي بدورها ستدشن مساحات واسعة في الحقل المعرفي المعني بذلك الطقم، وربما في حقول معرفية مجاورة أخرى. فمهما كانت طبيعة المشكلات التي يثيرها ظهور المفهوم، فإن توسيع فرص التعامل معه والاشتغال عليه كفيل بتذليل المشكلات تلك أو التخفيف من عبئها، وتحقيق فتوحات واستبصارات وتعقيبات معرفية متناسلة. وحين ينطوي المفهوم على بعد وطاقة نقديين علينا توقع استثمارات أجدى وأنضج. ومفهوم (ما بعد الكولونيالية) الملحق بمفاهيم قارة مثل (الأدب والثقافة والرواية) ينتمي إلى الصنف الذي ذكرناه. وعموماً فإن مفهوم ما بعد الكولونيالية كما يذهب إلى ذلك ثائر ديب (لم يعد يقتصر في معناه على الثقافة القومية التالية لجلاء القوى الاستعمارية. فهو مفهوم يستخدم اليوم على نحو يطول أو يغطي كل الثقافة التي تأثرت بالسياق الإمبريالي منذ لحظة الاستعمار حتى يومنا الحاضر). أي أننا سنكون أمام فهرس ضخم منوّع، وعلى درجة هائلة من الاختلاف والتعقيد. حيث يكون من الصعب الوقوع على قواسم مشتركة كثيرة بين النصوص والخطابات الداخلة في ذلك الإطار، لكننا سنقع على أعمال أدبية مغايرة، كتبت في السياق الإمبريالي من قبل أولئك الذين لم يُعترف في البدء بإمكانيتهم في إنتاج ثقافة لها سرديتها الخاصة ـ المضادة ـ للسردية الغربية، والذين كانوا في يوم ما محض موضوع مبذول سلبياً أمام نظر الباحث أو الكاتب أو السارد الغربي. وفي مقدمة الطبعة العربية لكتاب الثقافة والإمبريالية يقول مؤلفه "إدوارد سعيد" (ولقد حاولت ـ في الكتاب ـ أن أظهر أن أدباً ونقداً جديدين قد بزغا منذ المرحلة العظيمة لفكفكة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. فللمرة الأولى يصبح الأفارقة والآسيويون ـ عرباً وغير عرب ـ الذين كانوا دائماّ موضوعاً لعلم الإنسان [ الأنثربولوجيا ] الغربي، وللسرديات الغربية، والنظريات التاريخية والتكهنات اللغوية الغربية، وكانوا في النصوص الثقافية الدليل السلبي على شتى أنواع الأفكار حول الشعوب غير الأوروبية الأقل تطوراً التي ظلت جواهرها ثابتة رغم التاريخ ـ خلاّقين لآدابهم وتواريخهم الخاصة، كما يصبحون أيضاً قراء ناقدين لسجل المحفوظات الغربي). وكلما اتسع نطاق التعريف أنضم إلى قائمة أدباء ما بعد الكولونيالية عدد أكبر، ولا يعد هذا الأمر مؤذياً طالما أننا لا نفرط بالغاية الأخيرة، وهي تكريس ديمومة خلق السرد المضاد.

* * *
إذا قيل أن الشرق صنعة بحسب عبارة دزرائيلي فإن الغرب، في السياق عينه، صنعة كذلك.. إنه عالم مصنوع ومقطّع ومعرّف ومؤخرط ـ من الخريطة ـ بموجهات المصالح الإمبريالية وتعالقاتها الإستراتيجية وممارساتها الخطابية. ومثل هذا الكشف خليق أن يكون مبتدأ كشوفات لاحقة، ترتبط بها، وتتمخض عنها، وتتزامن وتتوازى معها.. إنه مقدمة للتعرف على مآزق وتناقضات، ومن ثم تهافت الإيديولوجيا ـ وما تناسلت عنها من إستراتيجيات وفعاليات ـ الفوقتاريخية التي تحكمت بعقلية الإدارات الأكثر قوة وتأثيراً وتحكماً بالمصير البشري، ومستقبل العالم منذ ما يزيد على القرنين.
إن تفكيك الاستعمار في إطار أدب ما بعد الكولونيالية يبدأ من نسف فرضية زائفة مفادها جوهرانية ولا تاريخية ونهائية الاختلاف بين "نا" وبين "هم" كما ساقتها قرون من الممارسات الخطابية الغربية التي تبلورت في ظل اختلال علاقات (القوة/ السلطة ـ المعرفة) لأسباب لا يمكن إلاّ أن تكون تاريخية. ولقد بني على تلك الفرضية الزائفة الخطاب المنطقي/ العقلاني للاستعمار بتخريجاته وتسويغاته واستنتاجاته.
ما صنعه أدب ما بعد الكولونيالية بنماذجه المبدعة المتقدمة هو تعرية زيف المنطق ذاك، وهشاشته في استناده على أرضية رخوة.. أرضية رمال متحركة أطاحت وابتلعت الفرضية وما تأسس عليها. فصار هذا الأدب محاولة للتزحزح عن المهاد الإيديولوجي الموّجه بسلطة المستعمِر.. التنصل من الموجِّه، ومن المهاد الإيديولوجي الذي هو توليفة معقدة من اللغة والأسلوب والأفكار والقناعات، وطرق التخييل وحدوده، والتي تشكل في النهاية، ما نسميه بخطاب الغرب الذي أنشئ بدءاً في تساوق مع علاقات القوة التي أوجدتها المرحلة الكولونيالية. وهؤلاء الذين أطلقت عليهم تسمية أدباء ما بعد الكولونيالية هم كتّاب، في الغالب، من عالم الجنوب، يغادرون مساقط رؤوسهم في المستعمرات نحو العواصم المتروبولية، ويكتبون بلغة المستعمر (بكسر الميم) عن تجاربهم ورؤاهم إلى العالم. غير أنهم يحققون إزاحة في اللغة والأسلوب يناظر الإزاحة المكانية التي حققوها بإرادتهم، أو مضطرين. إن أدب ما بعد الكولونيالية يترشح قبل كل شيء من تجربة المنفى.. الهرب من وطن الولادة، وغالباً من وطأة الاضطهاد، إلى وطن آخر، وهذه المرة هو وطن المستعمر (بكسر الميم كذلك) فتنكسر قوقعة الهوية القديمة الثابتة نسبياً، لصالح هوية أخرى مركبة ومتحولة. وثمة حديث بهذا الصدد عن مفارقة الهوية.. التمزق بين مكانين أو أكثر.. بين ثقافتين أو أكثر.. بين انتماءين أو أكثر.. كذلك نجد أن ما يميز بعضاً من كتّاب ما بعد الكولونيالية هو تنصلهم من مرجعياتهم القديمة وممارسة النقد القاسي عليها، وحتى السخرية منها، كما حصل في حالة سلمان رشدي مع روايته (آيات شيطانية).
وعموماً؛ ألن يكون اتساع نطاق الانتماء والثقافة والمكان والهوية هو حركة تاريخية باتجاه أنسنة العالم، وأنسنة عولمته في مقابل ظواهر العنف واللاعدالة والتغريب التي تفرزها العولمة الرأسمالية الحالية؟.
يستعير كاتب ما بعد الكولونيالية شكلاً أدبياً غربياً بامتياز هو ـ الرواية ـ الرواية في تباينها عن الأشكال السردية الموروثة عند الشعوب التي خضعت للسيطرة الكولونيالية. وعملية الاستعارة يستثمرها هذا الكاتب ذاك لإنشاء سرد مختلف في طريقة التعامل مع اللغة والأسلوب ووجهة النظر.. ما يحدث هو "مصادرة" كما ينعتها إدوارد سعيد.. مصادرة من أجل أرخنة مغايرة/ مضادة نسمع خلالها صوت من لم يكن له صوت في الرواية الغربية (أفارقة كونراد في رواية "قلب الظلام" في سبيل المثال). فمع قلب شكل السرد الروائي الغربي يجري إنشاء سرد مضاد تتفكك معه نمطية العلاقات القديمة وتتبدل الأدوار، ويتغير المسار. فالرواية ما بعد الكولونيالية تتسع جغرافياً فتجعل نطاق حركتها على مساحة من العالم أوسع، وتوغل تاريخياً لتضيء صورة اشتباك الجذور الحضارية الغائرة في عتمة الزمان. وفي هذا كله تنهل من مرجعيات ثقافية متعددة فتكتسب قدرتها على الحضور والتأثير.
أن تمثل شيئاً أو أحداً أو شعباً معناه أن تسيطر عليه. فالتمثيل مقولة السلطة/ السيطرة، ومعناه أن ذلك الشيء أو الأحد أو الشعب مسيطر عليه، خاضع، وذلك التمثيل كان محاولة لمصادرة التاريخي لصالح الطبيعي، أي جعل ما هو قائم بحكم الشروط التاريخية المتبدلة كما لو أنه معطى لا يتبدل من معطيات الطبيعة.

* * *
لم تتعرض اللغة العربية إلى التدمير والقمع أمام اللغات الكولونيالية كما كان عليه الحال في المجتمعات الأفريقية بل على العكس، فالتجربة الاستعمارية، والتوتر الناجم عنها على صعيد العلاقات حفزت المجال الثقافي العربي وفي ضمنه اللغة على التجاوز والإبداع، ومن يتتبع تطور طرق وأساليب الكتابة العربية منذ عهد النهضة العربية في القرن التاسع عشر يمكنه تلمس ذلك، فلم يكن ثمة اغتراب بهذا الصدد بقدر ما كان هناك وعي بهذه الدرجة أو تلك لفجوة حضارية نشأت في خضم غفلة تاريخية طويلة الأمد. ومنذ البدء أنشأت الثقافة العربية خطابها باللغة العربية، ولم يحصل أن أزاحت اللغة الكولونيالية هذه اللغة بشكل جلي وملموس وحاسم وخطير في أي مكان وزمان عربيين مثلما حصل في بقاع أخرى من العالم (باستثناء نسبي في الجزائر والمغرب العربي). أما تجربة كتابة بعض من أدباء العربية المهاجرين إلى الغرب نصوصهم بلغات أخرى (إنكليزية وفرنسية، في الغالب) فتتصل بسياق آخر إلى حد ما، يشتبك ويتداخل أحياناً مع التجارب الذاتية لأولئك الكتّاب. ومثل الآداب كلها التي أنتجت في ما وراء البحار، في الأطراف التي كانت يوماً ما مستعمرة، فإن أساطين الأدب العربي عملوا وحاولوا الإطاحة بالتمركز الغربي حول الذات من خلال تفكيك خطابه وإعادة ترتيب عناصر ذلك الخطاب تمهيداً لإنجاز خطاب مختلف، لا متطابق، باستعارة ما يقترحه الدكتور عبد الله إبراهيم في مشروعه (المطابقة والاختلاف؛ بحث في نقد المركزيات الغربية).
إن إدخال الآخر/ الغربي في ضمن عمل إبداعي مرمّز كالرواية وتمثيله هو انعطاف خلاّق في المسار الثقافي العربي بصفته إنساناً ـ رجلاً أو امرأة ـ اعتيادياً أو شخصاً ذا مكانة وامتياز. وفي هذا السياق نقع على محاولات زائفة كثيرة، تفصح عن نرجسية استيهامية متهافتة، أو قصر نظر وضبابية في رؤية إشكالية العلاقة مع الآخر بابعادها، لا السياسية فحسب، بل الثقافية والأخلاقية أيضاً، في مقابل محاولات انطوت على قدر من التبصر والإحاطة التاريخية الجديرة بالإعجاب كما في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، وبعض من روايات عبدالرحمن منيف ولا سيما "مدن الملح" و "سباق المسافات الطويلة؛ رحلة إلى الشرق" وربما يجوز لنا أن نعد روايات لنجيب محفوظ عملت على تصوير مراحل تحولات المجتمع المصري، ولا سيما القاهري، خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين.. أقول ربما يجوز أن نعد تلك الروايات كسلسلة ذات اشتباك جلي اشتغلت في إطار ما سمي بأدب ما بعد الكولونيالية، ومنها "الثلاثية" و "السمان والخريف" و "زقاق المدق" و "ميرامار" و "ثرثرة فوق النيل".
في رواية "سباق المسافات الطويلة" لمنيف نلمس طبيعة أوجه من الصراع القائم، لا بين ما يسميه إدوارد سعيد "طرفي الفالق الإمبريالي" فقط، وإنما بين المراكز الإمبريالية ذاتها أيضاً للاستحواذ على مفاصل الثروة والسلطة في دولة شرقية نفطية هي إيران.. إن رجالات الاستخبارات البريطانية والأميركية في المدة التي قاد فيها مصدق ثورته وحكم، تناور وتتآمر وتتصادم، لا ضد هدفها "إيران" فحسب بل ضد بعضها بعضاً. وهؤلاء كلهم يتحركون على وفق ما يرسمهم ـ يمثلهم ـ عبد الرحمن منيف/ الكاتب العربي في عمل روائي ذي بنية جمالية وفكرية لها خصوصيتها. فهذا العمل يمثل إعادة سرد واقعة حقيقية من خلال جنس أدبي تخيلي برؤية لا تشبه المسرد الغربي لها بأي شكل.
أما في خماسية مدن الملح لعبد الرحمن منيف أيضاً تغدو الصحراء إطاراً ممسرحاً لتحولات أصابت صميم البنى والعلاقات بفعل ظهور الغرب ـ قوة اقتصادية وسياسية ـ من أجل النفط وأهداف إمبريالية أخرى.. كان كل شيء يتغير ببطء، ولكن بإلحاح أيضاً، على الرغم من محاولات حرّاس القيم والبنى والمؤسسات القديمة للإبقاء على روح عالمهم القديم.. كان القديم يتشبث بالحياة بإصرار عجيب، فيما الجديد يواجه ألف عائق في سبيله كي يولد.. كان بعض القديم يموت فعلاً، وبعض الجديد كان يجد قليلاً من الهواء ليتنفس.. كانت منتجات التقنية الحديثة ـ السيارة، الراديو، الهاتف، المنظار المكبر، الخ ـ تزعزع الأرضية الاجتماعية والقيمية لمجتمع عاش سباتاً طويلاً إلى حد أودت بأمير منطقة ـ داخل السرد الروائي ـ خضعت لمثل هذه التغيرات السريعة، إلى الجنون.
كان المجتمع المغلق ينفتح، بحكم الضرورة، نتيجة اكتشاف واستثمار النفط من قبل شركات أجنبية تجارياً، ومن ثم، وحتماً، ثقافياً.. المدن تنبثق في قلب الصحراء، وتحل مؤسسات حديثة محل مؤسسات البادية، ويتدخل عامل التعليم بصورة حاسمة، وتتصارع القيم والمعتقدات المكرسة والوافدة، وتتغير وإن بشكل محدود. وفي موازاة ذلك كانت التراتبيات الاجتماعية/ الاقتصادية تتبدل، ومعها تتبدل علاقات القوة/ السلطة في المجتمع.
كانت الإزاحة تحدث في رؤية الإنسان إلى المكان والزمان، وإلى هويته التي لم تعد صافية ومتبلورة وثابتة، وإلى الثقافة التي راحت تتخذ منحى آخر، وتتجه نحو أفق آخر. وفي موازاتها بدأ الإنسان الولوج إلى متاه غربة جديدة ذات ملامح لم يكن له أن يتعرفها قبلاً، مداها العالم والتاريخ. وفي هذا المناخ تحديداً يعثر كاتب ما بعد الكولونيالية على موضوعاته الأثيرة.

[email protected]