0 - مدخل عام عن خصوصيات رواية "حشيش":

تمثل رواية "حشيش" إحدى أهم الروايات المغربية التي صدرت حديثا، وتكمن أهميتها في خصائصها المتفردة، والتي تؤشر على جهد معمق بدل على كل المستويات، على مستوى اللغة والبناء الشكلي والمحتوى: أما على مستوى اللغة، فقد عمد، يوسف فاضل، إلى استعمال لغة فصيحة ورصينة، توحي دون أن تسقط في إسار البلاغة الفجة، ودون أن تغرق في الضبابية والالتباس. وهي إلى جانب ذلك تتألف من توليفة من اللغات الفرعية، التي تتصادى بشكل منسجم ومتلاحم. فلغة الوصف، مثلا، وهي تخلق شاعريتها المعهودة، تتجنب توليد الصور الذهنية المجردة، بل تعمل على تجريد فريد للصور المرئية أو المحسوسة "تعثر عند باب أسئلته" "يقف على عتبة هذا الصباح" " يجر ذيول الظهيرة" إلخ.. وهي في الغالب تعتمد على لغة الأشياء المألوفة، وعلى علاقات الإنسان بهذه الأشياء، وعلى علاقاته بالكائنات التي تحضر بوصفها رموزا. إن لغة الوصف وهي تمتح من هذا القاموس ومن هذه المرجعية، لتساهم في خلق التواؤم اللازم بين اللغة المستعملة وبين مستوى وعي الشخصيات المشكلة لعوامل الحكاية، تلك الشخصيات التي تتشارك جميعها في كونها بدون أفق معرفي، وبدون مرجعية فكرية ذات بعد نظري.. وعموما فإن اللحظات الوصفية، سواء انصبت على المحسوس أو على على الانفغال الداخلي للشخصيات، أو ركزت على المرئي الخارجي الفعلي أو المتصور من قبل الشخصية، فإنها تعبر عن الانفعال الموضعي الذي يكون السارد بصدد بنائه..

أما لغة السرد، فتتشكل من جمل سردية متنوعة وحركية، يخضع طولها أو قصرها لطبيعة اللحظة السردية. ويعود أمر احتوائها على الصور البلاغية أو خلوها منها إلى كثافة اللحظة المعبر عنها. كما أن هذه اللغة المنجزة انطلاقا من وعي حاد بلغة الكتابة الروائية، نادرا ما تفتح الباب أمام اللغة العامية، لأن الصوت غالبا ما يظل في هذه الرواية هو صوت السارد الذي لا يتنازل عن صوته لصالح صوت شخصية ما، إلا لماما. إذ لا نجد هذا الاستثناء متحققا إلا حين لا تكون اللغة المركزية قادرة على التعبير الدقيق عن الفكرة المشخصة.
أما البناء الشكلي المتميز، فيعود إلى قدرة الكاتب على خلق الانسجام بين كل أنواع التبئير وأنواع الساردين وخطاباتها. ذلك أن التواؤم والتوازن حاصل، بشكل فريد، بينهما: فرغم هيمنة التبئير الداخلي المتعدد المنصب على مريم وحسن والحاج والفيلسوف ورئيس الدرك ومولاي مبارك.. فإن الأنواع الأخرى تحضر لكي تؤدي وظائف أساسية تمنح النص قيم التلاحم والانسجام والتميز الدلالي.
ثم إن الحكاية التي تتألف من ثلاثة وثمانين فصلا، تخضع في تمظهرها للتنامي الخطي لزمن الأحداث ، لكن دون أن يأخذ هذا التنامي بعدا تسلسليا مستندا على السببية الزمنية، أو شكل مفارقات زمنية مبنية على العلاقات الفضائية المخبوءة وحسب. أما محتواها، فيتصل بقضية أساسية، تتجسد في بروز واقع اجتماعي موسوم بتفكك قاس ومؤلم لكل الروابط الإنسانية الممكنة. وعلى رأسها تفكك الروابط بين الفرد والوطن، بين الفرد والأسرة، وبين الفرد وذاته أيضا.
إن بنية إظهار رواية حشيش، وهي تتحقق وفق الشكل الموصوف سابقا، تمنح الرواية المغربية نموذجا جيدا يشجع على التواصل الجيد بين الرواية وعموم طبقات المتلقين، وذلك بفضل اهتمام المؤلف بسمات المقروئية اللازمة لتحقيق مثل ذلك التواصل الواسع.

وبما أن كل جزئية واردة في هذا المدخل، قابلة لأن تكون عنوانا للدراسة، فقد كان لزاما انتقاء بعض المداخل التي تستطيع مقاربة شكل البناء العميق لدلالة هذه الرواية، خاصة وأن هذا الشكل يبدو متخفيا خلف ظاهر الحكايات الصغرى المتعددة التي تنسج، في تداخلاتها وارتباطاتها الخفية، الدلالة الأكثر منطقية للرواية. وهي طبعا دلالة أيقونية مستنتجة انطلاقا من الفرض الاستنباط (Abduction) (1). وتحقيقا لذلك فقد تم انتقاء أهم المداخل التي توازن بين إظهار هذه الدلالات الأيقونية والشكل الظاهر المؤشر عليها، والذي يُجَلِّي في نفس الوقت البناء اللغوي وشكلي البنائين الحكائي والدلالي. وهكذا سيتم العمل في البداية على تحليل الصدى الوصفي المحايث للجمل السردية المشكل لأهم الحكايات الصغرى، ليتم الانتقال بعد ذلك إلى الحكايات بوصفها حوامل دلالية:

1- لغة الوصف بين كونها قوة تأشيرية وقوة أيقونية:

إن لغة الوصف وهي تتأرجح بين كونها تحدد المعنى حين تكون مؤشرة بشكل مباشر على موضوعاتها، وبين كونها ترسم صورة للمعنى، حين تكون محيلة بفضل الإيحاء الافتراضي على موضوع ممكن ما (أي حين يكون الموضوع أيقونة وحسب) (2)، تستطيع في بعض النصوص أن تجعل تحديد المعنى الظاهر، المساير لنمو الحكاية الأساسية التي تؤشر على الموضوع الظاهر، مدعما بحكايات أخرى، غالبا ما تكون موضوعات أدلتها الوصفية أيقونات تتطلب من المتلقي استنباطها. ورواية "حشيش" من بين الروايات التي يصدق عليها شكل البناء الدلالي السابق. وقد تحقق لها ذلك بفضل شكل بناء جملها الوصفية المحايثة للسرد وشكل ترابطات هذه الجمل وتجاورها. هذا الشكل الذي تمظهر في صورة، تحاكي في أغلب الأحيان، الجمل المنتجة من قبل (المرتفع) عن الواقع جراء مفعول مخدر ما.. أو مفعول فكرة ما تحول دون صفاء الرؤية والتفكير.. ويكفي من أجل التدليل على ذلك، أن نتملى الفصل السادس وما يصونه، أدلته الجزئية الممثلة في كلمات، من علاقات أيقونية مع فصول أخرى. حيث يقدم هذا الفصل فترة هامة من حياة الشخصية الرئيسية "مريم" وهي الفترة التي تتحقق في شهر (يونيو 1991) lt;lt; عثرت على هذه الغرفة بالمجان تقريبا خلفها المقبرة، الميناء تحتها. وحول كل هذا الغابة المترامية. وتستطيع أن تقول أصبحت لها غرفة بنافذة تطل على الفناء.. غرفة ضمن غرف أخرى موزعة حول ساحة مربعة.. وهي بداخلها كفرخة داخل بيضة أو كجنين عاد إلى رحم أمه(...) لن تمكث طويلا حتى لا تنخرها دودة العادة، ستجلس ريثما تتزود بالطاقة الضرورية لعبورها وتنطلق. اقتربت من الباب وقرأت أسماء النزيلات اللائي كن قبلها. قد يكن عبرن إلى الجهة الأخرى من محنتهن، الأسماء محفورة على اللوح عميقا كأنما كتبت بالأظافر..gt;gt;. بغض النظر عن دلالة وجود مريم في غابة مترامية لا حدود لها سوى البحر من جهة والمقبرة من جهة ثانية، فإن التأمل في هذه الفقرة، التي تشاكل فقرات عديدة أخرى، يفيد من خلال الوصف أن العالم الموصوف ليس فقط هو الفضاء الفعلي الذي تجسده الحكاية في "دار التطوانية"، إنه أيضا فضاء العبور من هذا العالم إلى العالم الآخر. ويبدو فضاء الغرفة كما لو كان تجسيدا بلاغيا للتصورات الشعبية المساوقة لوعي شخصيات الرواية بزمن المكوث في القبر. ذلك القبر الذي يصبح ، وفق المتخيل الأخروي، جسرا للعبور نحو موطن مآل الفرد، وخلال مسافة العبور الزمنية، يكون ذا منفذ على مكان مآل صاحبه. لذلك نجد لهذه الغرفة الموصوفة نافذة على "الفناء". ويتأكد ذلك، ليس فقط من خلال سخرية السارد: lt;lt; وتستطيع أن تقول أصبحت لها غرفةgt;gt; حيث تؤشر العبارة في علاقتها بالسياق على التنقيص من دلالة الغرفة والإيحاء بأنها شبه غرفة وحسب، بل يتأكد من خلال الوصف الحاضر في شكل صورة قائمة على التشبيه: lt;lt; وهي بداخلها كفرخ داخل بيضتهgt;gt; ومعلوم أن الفرخ هو صغير الدجاج الذي خرج من بيضته، أو lt;lt; كجنين عاد إلى رحم أمهgt;gt;. ومعلوم أيضا أن الجنين لا يعود إلى رحم أمه لأنه أصلا لم يغادره. إن هذه الصور، وهي ترسم ضيق الغرفة وظلمتها، ترسم أيضا فكرة الموت التي تتجلى في عدة صور كرستها بعض الثقافات مثل الرغبة في العودة إلى الرحم.. وتتآزر هذه الدلالة الأيقونية المخبوءة برغبة "مريمّ في عدم الاستسلام لدودة العادة. تلك الدودة التي تهدد الجسد بالانحلال قبل أن يقوم برحلته الثانية والختامية: رحلة العبور على السراط. مثلما تتآزر بقراءتها لأسماء من سبقنها إلى lt;lt;الجهة الأخرى من محنتهنgt;gt; إي إلى جهة الجحيم، مآل الكائنات الشيطانية التي لا تحفل الرواية إلا بنماذجها. ومن ثمة، لا غرابة إذا كانت كل الأسماء التي قرأتها مريم في غرفتها محفوظة: lt;lt; على اللوح عميقا كما لو كتبت بالأظافرgt;gt;.

ثم إن حرص مريم هنا على تجنب الدودة حتى تبقى في كامل لياقتها من أجل القفزة الأخيرة التي ظلت طوال الرواية تحلم بها وتحاول تحقيقها، هو حرص على الجانب المهم منها، أي على الجسد. وذلك لأن هذا الأخير خاضع لقوة النفس، التي هي بمعنى من المعاني قوة الشيطان، التي وحدها تسود وتؤطر سلوك وفكر كل ذات موجودة في عالم الرواية المتخيل. أما الروح، أما عالم الروح، عالم الإله والخير(3)، فلا وجود له إطلاقا. ولهذا فإن بقية الفصل تقدم وصفا مؤكدا للصورة الضمنية السابقة: فمريم وحدها تظهر في عالم معمور بالرجال فقط. إنها بدون شك بسبب، من ضلالها، تضل عن الطريق إلى طابور النساء نحو السراط، لتجد نفسها في غمرة الرجولة التي تعذب وتهين، وهي صورة تحيل على صورة الجلاد في رحاب السلطة الدنيوية والزبانية في رحاب جحيم العالم الآخر. وبسبب هذا الضلال، عوض أن تكون نافذتها (التي يبدو أنها لا تطل على الفِناء بل على الفَناء) مصدر تنفيس أو انتعاشة، كانت مصدر إذلال وتعذيب: lt;lt; وهي في حاجة إلى نافذة فوقها لا يطل منها رجل يبصق عليها عندما تمرgt;gt;. ولكي تتضح أكثر، هذه الروابط الأيقونية الخفية التي تقيمها اللغة، عن طريق قدرتها على إنتاج الدلالات الأيقونية، فلنتأمل علاقة هذا الفصل (الذي هو الفصل السادس) بالفصل ما قبل الأخير، الذي يرسم مصير مريم النهائي في عالم الرواية المتخيل. حيث تبدو مريم – مثلها مثل جميع شخصيات الرواية- تجتر الزمن اجترارا في انتظار الفوز العظيم، الذي يتخايل ظاهريا في اجتياز البحر نحو إسبانيا. الشيء الذي يجبرها من أجل التواصل مع الحلم الموعود، على أن تقطع ذلك البحر بأي شكل ووفق أي إيقاع. لأنه المآل الحتمي لكل كائن يشبهها..

إن تملي الأدلة الجزئية المشكلة للأوصاف، تفيد أن البحر قد أصبح أيقونة للجحيم والظلمة والعمق المخيف، كما أن الأوصاف المميزة لمركب الموت، تفيد، بفضل سمات الرخاوة والهشاشة والبطء، أنه أيقونة للسراط. ومن ثمة يصبح الشمال أيقونة دنيوية للنعيم المحلوم به. وبما أن مريم، مثل غيرها ممن حاولوا العبور، مسكونة بعالم شيطاني، فإن محاولتها الثالثة التي كانت بتوصية من الدرك - الذين وحدهم من بين سكان عالم الرواية المتخيل، يعفون أنفسهم من الانشغال بالهجرة إلى الشمال - قد رسمت لها النهاية المحتومة التي تنسجم مع منطق التفكير الشعبي بخصوص المذنبين وهم يعبرون نحو المآل الختامي. ويتمثل في السقوط في أول المسار فوق السراط. وهو سقوط مسبوق بزمن تعذيب أليم. وقد مظهرت الرواية هذا التعذيب ومنفذيه، في صورة اعتداء نفذه رجال أشداء غلاظ القلب. ومن الواضح أن الرواية عوض أن تمظهرهم تأكيدا للتصورات الشعبية في صورة رجال سود ذوي لباس أسود، جعلتهم يتمظهرون في صورة نصارى، وذلك دون شك انسجاما مع الأرض المحلوم بها. كما جعلت القضبان الحديدية المشكلة لأدوات التعذيب تتمظهر في شكل أعضاء أولائك الرجال الأشداء. وهكذا سطرت الرواية نهاية مريم، حيث تركت في بداية الطريق البحري الغامض بعد طقس التعذيب فوق مركبها الهش..

2- الحكايات الصغرى بوصفها أيقونات نوعية للحكاية المؤشرة:

إذا كان التحليل السابق قد ركز على الدلالات الأيقونية المرتبطة بالأدلة المقلصة (الكلمات) في علاقتها بالساقات التي تنتمي إليها، فإن مستوى التحليل الآن، سيهدف إلى استنباط الدلالات الأيقونية التي تصونها الحكايات الفرعية في علاقتها بالسياق الكلي للحكاية القاعدية والتي تشكل في كليتها الموضوع المؤشر عليه من قبل الرواية. وبما أن تحقيق هذا يتطلب أن نأخذ بالاعتبار آليات انسجام السرد، فلا بد من الاعتراف بداية بأن ضبط مجمل آليات انسجام السرد، يتطلب بحثا بكامله. ولذلك سيتم الاقتصار على التساؤل عن العلاقة الرابطة للحكاية القاعدية، بالحكايات الفرعية بوصفها مواد دلالية مجسدة لها:


2-1 الحكاية والحكايات الفرعية:
تطرح هذه الرواية تحديات إضافية على آليات الاختزال التي هيأتها بعض النظريات السيميائية، كتلك التي نجدها عند غريماس وتلامذته(4) أو عند فان ديك (5) أو عند إيكو (6) وغيرهم بما فيهم من استند إلى السيميائيات البورسية. وذلك لأن حكاية هذه الرواية، من جهة، مركبة من عدد هائل من الحكايات الصغرى، ومن جهة أخرى، لأنها خاضعة لمنطق اللاوعي، حيث التداعيات محكومة بمنطق العلاقات الأيقونية وحسب. وهي علاقة تنسجم كل الانسجام مع مفعول دلالة العنوان lt;lt;حشيشgt;gt; على الذوات المدمنة عليه والخاضعة لمفعوله. ورغم كل هذا، يمكن أن نغامر فنقول إن الحكاية تتمحور حول ظهور مفاجئ لشابة في العشرين من العمر، خلال صيف 1991، بإحدى مناطق عبور مراكب الموت بالشمال.. وبما أن سنن التبئير الذي انتهجه الكاتب، هو التبئير الداخلي المتعدد، فقد بدت مريم في البداية فتاة كتومة، بدون تاريخ حقيقي. إذ لا يعرف السارد عنها إلا ما تصرح به هي، مع العلم أن ما تصرح به ليس سوى حكايات مختلقة عن أصل مزعوم أو تاريخ خاص مختلف. وقد بدت تعيش على أمل وحيد هو العبور إلى الضفة الأخرى من البحر. وخلال زمن انتظارها المليء بالملل تتعرف على عائلة مولاي مبارك المؤلفة من حسن والحاج والفيلسوف. وقد مكثت عندها ثلاثة أيام. ثم ستتعرف بعد ذلك على التطوانية، وستمكث عندها بضعة شهور، لتنتقل أخيرا إلى دار امرأة كنتها بالشيبانية، وستمكث فيها إلى أن توسط لها رئيس الدرك لدى ثلاثة إسبانيين، من أجل نقلها إلى الضفة الأخرى. وهي الرحلة الختامية التي ستهلك فيها على أيديهم في البحر.. إلا أن حكاية مريم هذه ليست سوى الخيط الناظم لسلسلة من الحكايات المشكل لنسيج الرواية. فهناك حكايات فرعية لكل واحد تعرفته. مثلما هناك حكاية لكل فضاء تحركت فيه.
وإذا كانت العلاقات بين هذه الحكايات الفرعية واضحة لأنها تتضام في انسجام بفضل دخولها عن طريق روابط أصحابها بمريم، في ما يشبه علاقة التنضيد (7)، فإن بعض الحكايات الفرعية لا تدخل وفق نفس المنطق، بل وفق منطق آخر هو منطق الترابط الداخلي بين المدرك وغير المدرك والذي يضطلع به السارد وحده.
وسنعمل أولا على تحليل أشكال دخول هذه الحكايات ووظيفتها، ثم بعد ذلك سنحلل وظيفة حكايات مريم الموجهة قصدا لمسرودين لهم داخليين(8):


2-1-1 الحكايات المختلقة من قبل السارد:
تحفل الرواية بإدماج العديد من الحكايات الجزئية، التي تبدو في الظاهر ناتجة فقط عن ظهورها على شاشة وعي الشخصية المبأَرة، لكن أغلبها، في الواقع، لا تدخل إلا لكي ترصد إحساس الشخصية بمآلها أو لتشعرها بحقيقة تجربتها، أو بما يجب عليها فعله.. ولعل أولى هذه الحكايات المنفلتة من المنطق الواضح للترابط، هي الحكاية الأولى التي تدشن سيرورة القراءة. ولا ريب أن كل قارئ إلا وقد تساءل عن العلاقة الرابطة بين الفصل الأول وبقية فصول الرواية؟
ومن بين الأسئلة الملحة على كل قراءة أولى: لماذا الانفتاح على فصل الربيع، على زمن تفتح الأزهار تحديدا؟ ولماذا الإصرار على عابرية هذا الربيع؟ لماذا التقاط صورة كلبة هجرت الأطفال ولهوهم، وانزوت تنتظر ربيعها الذي: lt;lt;جاء على شكل كلب قذر، أسود، منتوف الشعر، ببقع بيضاء على ظهره كالأجربgt;gt; ثم بعد المواقعة lt;lt;اختفى الكلبان، ومعهما اختفى الربيع الذي استمر لأيام معدودة، الأيام التي ظل فيها الكلبان يعبران الزقاق ناشرين على طوله فرحهما الصغير، الاستثنائي، المجاني. أعقبتها أيام شواظ لم تسبق، لهيبها يسري على البشرة وفي العروق، وكأنها قطعة جزت من جهنمgt;gt; (ص:7)
إن هذه الحكاية، وهي تتصدر الرواية وتسبق ظهور الشخصية الرئيسية"مريم"، لتدعو إلى ربط علاقات أيقونية بينها وبين حكاية مريم. وتصبح هذه العلاقة ملحة إذا ما تأملنا بعمق نهاية الفصل الأول المنفتح على أيامٍ لهيبُها يسري على البشرة وفي العروق، وكأنها قطعة جزت من جهنم، وربطناها ببداية الفصل الثاني، الذي تولى تقديم مريم : lt;lt; لم أتجاوز العشرين عاما. ولم أعرف خلالها ولو قسطا مما يجعل الحياة هنية. أسير الآن على هذا الشفير ما بين الموت والحياة، موت أعانيه، أحبل به، وما بين حياة أنتظرها كما يُنْتَظَرُ البعثgt;gt;. وبتملي الحكاية الوصفية التي قدمها السارد قبل تقديمه لمريم، وربط علاقات أيقونية بين دلالاتها وبين دلالة هذه الفقرات من اعترافات الشخصية نفسها، لن يكون من المضني ربط العلاقات الأيقونية بين الربيع السريع الخادع وبين المتعة العابرة الناتجة عن علاقة عابرة أيضا، وبين الفرح الصغير الاستثنائي المجاني وبين المتعة المحرمة المجانية التي لا يستعار لها من وجهة نظر شعبية إلا تزاوج الكلاب. وليس من المضني كذلك، أن ندلل من خلال الروابط الخفية أن الكلب الأجرب الهرم أيقونة لخليل هرم دميم خَلْقاً وخُلُقاً. وبما الكلبة تنهي زمن مواقعة الكلب لها بالحمل، وبما أن مريم تعاني موتا رمزيا وتحبل به، فلا بد أن متعتها العابرة المحرمة بشبيه الكلب قد أثمرت جنينا تحسه موتا في أحشائها. ولكي نؤكد صوابية الدلالات الأيقونية السابقة، لنتأمل سياق الجملة الوصفية التالية والتي قدمت وفق صيغة التبئير الداخلي:lt;lt; واش نقدر نكون حتى أنا فرحانة شي نهار؟ أدرك فقط أن عصفورا في حجم الإبهام أفرد في دمي جناحيه. ومنذ ئد لم أقو على الاستمرار جالسة أو واقفة أو ماشية. ومنذها لا يسعني وضع: ما أريد هو أن أجدني في إسبانياgt;gt; (ص.36).
إن الجملة الوصفية المدمجة في هذا السياق السردي lt;lt;أن عصفورا في حجم الإبهام أفرد في دمي جناحيهgt;gt; يدل على الافتضاض وما قد يترتب عليه، أما الجمل اللاحقة المجاورة له في السياق، فتسجل الحسرة المشفوعة بالرغبة الملحاحة في الهرب من الذات في شكل هرب من الوطن ومن أهله ذوي الأحكام القاسية.. ومن أجل تأكيد أكبر، يمكن أن نمد الجسور الأيقونية بين الفقرات السابقة وبين فقرات مترابطة معها وإن كانت تنتمي لفصول متباعدة. ومنها الفقرات المخصصة للمرأة البدينة المعرفة في العالم الممكن للرواية فقط بخاصية(9): (ذات الأساور الذهبية العديدة)، والتي ظهرت على شاشة السرد وهي، تهم بالتبليغ عن شابة قامت بسرقتها، بعد أن كانت خادمة لها، ثم ظهرت في نهاية الرواية لتنصح بعدم تشغيل فتيات صغيرات بيضاوات، لأنهن إن لم يسرقن فلا بد أن تجدنهن في فراش الزوج. والاستناد إلى مبدأ التأويل المحلي (10) وتعميمه، فإن ذلك يعتبر إشارة إلى أن المبلغ عنها، هي مريم نفسها. وبهذا يتضح أن مريم هي شابة تعرضت لاغتصاب شبه إرادي، من قبل زوج مشغلتها. وأنها تفكر في الفرار من تبعات فعلتها الاجتماعية إلى إسبانيا. كما يتبين أن كل الفقرات وإن تباعدت فإنها مترابطة بفضل العلاقات الأيقونية التي يبدو أنه مفكر فيها بعمق وجزم أيضا.


2-1-2الحكايات المختلقة من قبل الشخصية (مريم) عن تاريخها الخاص:
لا ريب أن الحكايات المتعددة التي ترويها مريم، للمسرود لهم الداخليين، عن حياتها الخاصة، تتعالق بشكل عميق مع الحكايات السابقة. ومن ثم تقيم معها ترابطات تحقق الانسجام الضمني الذي تبنيه الصورة الايقونية الناتجة عن التعالق الكلي لجميع الحكايات الفرعية:
تتصل أول حكاية تختلقها مريم عن ماضيها، بتاريخ القرية التي تنتمي إليها وقد حكتها لعائلة مبارك التي استضافتها في بداية ظهورها متسكعة بالشمال: lt;lt; قالت لهم إنها جاءت من الكارة (...) إنها كانت مملكة مزدهرة بجامعاتها ومتاحفها وحماماتها الأربع مائة وحدائقها الشاسعة ونافوراتها التي تظل تغني، إلا أن ملكها غضب على شعبه ذات يوم فباع المملكة وهرب إلى الصحراء. ومن يومها تدهورت أمور المدينة وتقلصت شرايينها حتى لم تعد سوى قرية صغيرة منسية على قارعة الطريق والشابات والشبان أمثالها يفرون منها الآن قاصدين الشمال حتى لا يغطيهم غبار مجدها المنكسر.gt;gt; (ص.15). وفي جلسة أخرى، حكت لهم حكاية خاصة بأسرتها، وتتلخص في كونها تنتمي لعائلة مكونة من أخويين وأختين، غادروا البيت جميعهم، ولم يعد منهم أحد. وقد يكونون ( تقول لآل مبارك) lt;lt; من هنا مروا، وقد يكون أحدهم رآهم دون أن يهتم بأمرهم. حلموا بالثروة شهورا وبنوا في خيالهم مشاريع لهم ولذويهم وبعد شهرين جاء خبر غرقهم..gt;gt; (ص.18)
ثم تحكي حكاية أخرى تجعل من نفسها ضحية زوج ساد يواضب على ضربها، ثم في الأخير هجرها انتقل إلى إسبانيا وتزوج هناك من إسبانية لكي تعيله. ثم تحكي حكاية أخرى، تجعل فيها من نفسها يتيمة نشأت في خيرية ب(آيت ورير). ثم أخرى تبدو من خلالها ابنة عسكري نكل بأسرته غداة محاولة الانقلاب الثاني.
من الواضح أن هذه الحكايات التي تحكيها مريم عن تاريخها الخاص، هي تلفيقات وأكاذيب، ولكنها تشكل أيقونة على الصور المتعددة التي تعطيها الساقطات – بفعل قدر لا راد له أو بفعل خضوع طوعي لنزوات النفس - وفق العادة عن أنفسهن من أجل تبرير الحياد تجاه وضعهن المزامن لزمن البوح. أما بالنسبة للسياق الروائي فإن هذه الأيقونة، من جهة، تآزر التحليلات السابقة للحكايات التي ترتبط ببوح الذات (مريم) لنفسها في شكل تناجي باطني. ومن جهة ثانية، تساعد بفضل صمت السارد وتخليه عن وظيفة التعليق، تشكل أيقونة كبرى تحيل على صورة الذات المهمشة الباحثة عن أفق مستحيل بأساليب غير مشروعة قانونيا وأخلاقيا، وهي صورة تحاول لملمت أجلى صور التدمير والتعسف الذي يلحق الفرد في ظل واقع غير سوى، حيث يتحالف الكل ضد الضحية: المجتمع والسلطة وذووالنفوذ.. إنها صورة تترجم النبذ والتهميش والاغتصاب والتنكيل بالفرد المجرد من القدرة على الصراع، في عالم لا يعترف إلا بالصراع المتوسل بكل الوسائل. وهكذا يمكن القول إن الدلالة الأيقونية هي التي تربط هذه الرواية بالعالم الفعلي الذي صدرت عنه وحاولت كشفه. وهي بذلك تنوب عن الدلالة المؤشرية الظاهرة التي تغالط القارئ العادي عن طريق إظهارها لعالم من الأحلام المعمورة بأفراد لا يتقنون سوى لغة هديان. وإذن فإن واقعية هذه الرواية كامنة في صورها الأيقونية الخفية التي حاولت هذه الدراسة إبراز بعضها.

الهوامش والمراجع:
*- إن المعنى الذي نسنده "للأيقونية"، هو تركيب لدلالاتها الاصطلاحية في المرجعية البورسية، إننا نمنحها هنا معنى الدلالة الخفية المستنتجة انطلاقا من مؤشر نوعي ما (مادية مظهرية أو فضائية أو قيمية..) وجدير بالذكر أنها دائما تستنتج بناء على افتراض استنباطي . أنظر تحديدات بورس لها ضمن:
ِC.S.Peirce. Ecrits sur le signe. Rassemblés,traduits..par G.Deledalle.ed : Seuil.1978
1 – أنظر المرجع السابق: ص: 188.
2 – نفسه. ص139 و140.
3 – انظر جورج لوكاش، نظرية الرواية. ترجمة الحسين سحبان. منشورات التل 1988. ص: 85.
4- أنظر (عناصر النحو السردي)، ضمن:
A.J.Greimas.Du sens.ed : Seuil 1970.
5- أنظر :
T.A.V. Dijk « le texte ,structures et fonctions » ? in Théorie de la littérature.Picard,Paris.
6 -أنظر :
U. Eco, Lector in fabula, traduit par M. Bouzaher.1985 ed : bernard grasset. Paris.p-p (96-97).
7- أنظر: نصوص الشكلانيين الروس (نظرية المنهج الشكلي) ترجمة ابراهيم الخطيب (ش.م.ن.م) 1982. ص228.
8 – فرق ج. جونيت في كتابه (وجوه 3)، بين المتلقي الداخلي لخطاب الشخصيات، وهو نفسه شخصية من شخصيات العالم المتخيل لحكاية الرواية؛ كما هو حال شهريار بالنسبة لخطاب شهرزاد. وقد سمى هذا النمط من المتلقين بالمسرود له الداخلي. أما المتلقي الذي يخاطبه السارد مباشرة فيسميه: المسرود له الخارجي.. أنظر:
G. Genette, Nouveau discours du récit, Seuil.1983.
9 - أنظر (الفقرات المتعلقة بالعوالم الممكنة) ضمن كتاب إيكو المذكور سابقا" القارئ في الحكاية".
10 – أنظر : محمد الخطابي، لسانيات النص (مدخل إلى انسجام الخطاب)ص-ص (56-57).


عبد اللطيف محفوظ أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك- الدار البيضاء.
[email protected]