من ابرز الاحداث الثقافية التي عرفتها سنة 2005 هو موافقة منظمة اليونسكو على اتفاقية حماية وتعزيز التنوع الثقافي، وهذه الاتفاقية تستكمل عمل اليونسكو في مجال تعزيز التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات بعد اعتمادها الاعلان العالمي بشان التنوع الثقافي في الدورة 31للمؤتمر العام سنة2001، واعتماد الاعلان من قبل الجمعية العامة للامم المتحدة عام2002 والتي اعلنت يوم21مايو اليوم العالمي للتنوع الثقافي من اجل الحوار والتمنية.
تأتي أهمية هذه الاتفاقية من خلال سياق الاستنساخ الذي اصبحت تنخرط فيه الثقافات، والانقراض الذي تشهده اللغات المحلية في ظل العولمة والهيمنة الامريكية، فهناك دراسات تحدد أن 90% من لغات العالم سوف تختفي في القرن القادم،وليس غريبا ان امريكا عارضت الاتفاقية بدعوى انها تُقيد اتفاقية التجارة الحرة وتدفق الأفكار وبها عيوب كثيرة لاتتوافق وواجب اليونيسكو الدستوري لتشجيع التدفق الحر للأفكار عن طريق الكلمة والصورة،فحين تحمست فرنسا لها ورات فيها سلاحا لمكافحة ما يعتبره كثير من الفرنسيين خطر الهيمنة الثقافية الأمريكية وهيمنة سينما هوليوود. و قد قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك انها تطور مهم في عالم يجب أن يحمي التنوع الثقافي وينظم حوارا بين الثقافات يحترم الجميع وان على جميع الدول ان تصادق علىالاتفاقية على وجه السرعة وأن تطبقها. وتؤكد الاتفاقية حق الدول في صياغة سياساتها بهدف حماية وتعزيز التنوع الثقافي. وبوسع الدول أن تستخدم هذا كذريعة لتحديد عدد معين من الأفلام الأجنبية لعرضها بهدف حماية صناعة السينما المحلية والهوية القومية لهذه الدول.

وتنص الاتفاقية أيضا على كفالة حق التعبير الثقافي للنساء والاقليات والشعوب الأصلية ووافقت على الاتفاقية 148 دولة ولم ترفضها إلا دولتان هما الولايات المتحدة واسرائيل،وفي 22 ديسمبر ndash;2005- اصبحت كند أول دولة تصادق عليها وأعرب مدير عام اليونسكو، كويشيرو ماتسورا، عن سعادته بهذه المصادقة الأولى. وأشار إلى أن quot;الدفاع عن التنوع الثقافي يأتي في صميم رسالة المنظمةquot;، وذكر بأن اليونسكو قامت ببلورة سلسلة من الأدوات المعيارية تهدف إلى حماية التنوع الثقافي، الذي يجد أدواته التعبيرية ليس فقط في التراث المادي وغير المادي فحسب، ولكن في أشكال الإبداع المعاصرة أيضا و ستدخل الاتفاقية حيز التنفيذ بعد ثلاثة أشهر من مصادقة ثلاثين دولة عليها.
تؤكد الاتقافية على الخطر الحقيقي الذي يهدد التنوع الثقافي،وتعكس تنامي الشعور بضرورة التمايز الثقافي والمحافظة على الجذور الحضارية للشعوب، وهذا الحنين يجتاح كل الحضارات فالبايان ترغب بشكل ما في العودة الى اصولها الاسيوية، والهند تنادي من اجل احياء ثقافتها الهندوسية، والعالم الاسلامي تنامت داخله حركات اسلامية تعمل على اسلمة المجتمعات، ومن هنا ايضا تعلو اصوات الاقليات ويتكرس الحديث عن اقصاء ثقافات كثيرة كالامازيغية والكردية، ومنذ ان ارتفع خطاب العولمة برز هذا القلق اكثر، وقد شهدت الالفية الجديدة عدة ندوات ونقاشات حول ضرورة حماية الثقافات المحلية من الاستنساخ وفق النموذج الامريكي الواحد، وذهب البعض الى ان الاختلافات الثقافية هي امور حقيقية يجب الانتباه والتعامل معها بحذر لانها اكثر حدة من التمايزات الايدلوجية ويمكن ان تولد نزاعات وتصادمات عنيفة وتؤدي الى تنامي ظاهرة التفجيرات الانتحارية وتطرف الافكار والمذاهب.

ومع ان اتفاقية التنوع الثقافي تشكل اطارا و آلية قانونية يمكن ان تشتغل في ضوءه وفي سياق أهدافه الدول والمنظمات غير الحكومية التي تعمل من اجل الحفاظ على الثقافات المحلية، ويمكن للمجتمع المدني ان يلعب الدور البارز في هذا الاتجاه، فمثلا القضية الامازيغية لم تعرف دينامية في النقاش والطرح الا بفضل الجمعيات التي انتبهت خاصة منذ الثمانينات لما طالها من الاقصاء ولما بثته المناهج الدراسية من الاحساس بدونيتها حتى عند الامازيغ انفسهم، وقد ناضلت هذه الجمعيات باشكال مختلفة حتى تعيد الاعتبار للغة الامازيغية وثقافتها ولماخلفته سياسات التعريب المتعسفة من اثار على تدوال الامازيغية وتطورها، من هنا نفهم اصرار غرامشي في كتابه الامير الحديث على دور ووعي المجتمع المدني، الا ان ثمة عوامل اخرى لاينبغي اغفالهاتتعلق بضرورة دراسة بسيكولوجية الانسان المعاصر واسباب ميله الى تقليد النموذج الاكثر روجا وانتشارا، خاصة وان الثورة الرقمية والشبكة العنكبوتية اعطت الثقل للثقافة الامريكية وايديولوجيتها، كما ان النظرة التراتبية والاستعلائية لثقافة مركزية تجاه ثقافات محلية،متجذر في الوعي الانساني الذي يحمل احيانا نزعة النفي والإقصاء لثقافات اخرى. كتمهيد من أجل غلبة ثقافة مركزية هي غالبا ثقافة الدولة الاكثر تقدما اقتصاديا وثقلا سياسيا باعتبارها الاقدر على الاقناع والادهاش،وبما ان الثقافة تكون مرتبطة بالدولة فانها تتعرض غالبا لتكيفات ايديولوجية معينة لاتنتمي بالضرورة لروح الثقافة، وفي كل عصر تكرست هيمنة ثقافة معينة كالاغريقية والاروبية وتبدو الان امريكية التوجه والاتجاه من هنا نفهم معارضتها للاتفاقية.واذا كانت اروبا في فترة التنوير دعت الى التسامح ونبذ العنصرية مع فولتير ودعوته لبناء الروح وتدبير العقل او جون لوك في الفكر الانجلوسكسوني، لكن مع ذلك ثمة اطروحات كانت على نقيض ذلك وقد كتب البعض كتباً تبرز نظرتهم الاستعلائية التي تنم عن مركزية شديدة تقصي أي تنوع ثقافي من أجل هيمنة ثقافية غربية واحدة في العالم. فكتب كوفييه (مملكة الحيوان) وغوستاف لوبون (القوانين النفسية لتطور الشعوب) وقد رسمت تلك الكتابات نظرة دونية للشرق على اعتبار انه بيولوجياًينتمي إلى عرق ادنى من هنا وجب استعماره ووضع ثقافته على سكة التمدين والتحضر.

ويصعب الآن الفصل بين حدود التعلم وجدلية التاثير والتاثر بين الثقافات وعملية النسخ والاستنساخ الثقافي ولم يعد بوسعنا التفرقة بين التعلم والنسخ واليوم تتعدد الاطروحات التي تفسر مركزية ثقافة الغرب وتحديدا الثقافة الامريكية فاطروحة استعمار الكوكا والماكدونالدز يعتقدو منظريها ان الثقافة الامريكية سوف تهيمن على العالم وان الرموز الثقافية الامريكية الجينز والكوكا والشعر الاشقر ووجبات الهمبوركر ستلقى اقبالا حماسيا من كل شعوب العالم ويذهبون الىالاستدلال بالتحولات التي طالت حتى الشعوب المحافظة والعريقة وذات التوجه الاشتراكي كالحضارة الصينية بقومياتها الكثيرة التي عرفت ثقافتها تصدعات وتداعت تجاه الثقافة الامريكية، فالشباب الصيني اصبح يتحمس للغة الانجليزية والوجبات الخفيفة والشعر الأشقر رغم انه لون لايناسب البشرة الصفراء وفق مفاييس الجمال الحقيقية، ولكن معارضوا هذه الاطروحة يؤكدون مع ذلك ان هذه الهيمنة هي شكلية فقط لاتتجاوز مجال الثقافة الاستهلاكية، وان اقبال الصيني مثلا على الكوكا والجينز لايعني انه يتخلى عن التفكير الشرقي وروح الكونفونشو خاصة وان مجالات الثقافة عميقة وغير محصورة فهي تشمل الدين والقيم والاخلاق والعادات.

اما الاطروحة الثانية فانها ترى ان الثقافات مفتوحةعلى التحديث وان الغرب فقط يقودها الى الحداثة ومن هنا فهذه الثقافات والحضارات الاخرى العربية والهندية والصينية والاسلامية انما نتخرط في الحداثة كما تفتضي صيرورة التحديث وتهجر قيمها التقليدية وان هذا ميل طبيعي الى العصرنة، ولهذا فالنخب المتعلمة هي التي تقبل عليه اكثر لانها تمتلك الوسائل التقنية البارزةوالمعرفية التي تجعلها لا تستطيع إخفاء إخفاق الثقافات المحلية وتعتبر ان الثقافة الغربية تمتلك الكمال الذى أدخله العلم على تقنياتهابحيث يمكننا الوصول إلى نتائج متشابهة فيما يتعلق بعمق ثقافتنا ومطابقتها وانسجامها كلياً مع حياتناحتى من خلال هذه الثقافة الغربية.
وفي كلا الاطروحتين نلاحظ نزوع الى ثقافة كونية مهيمنة ليس بالمفهوم القرآني القائم على التثاقف والتعارف وتحاور الافكار بحيث تسود الافكار الصالحة وتدحض غير السليمة والمجدية اعتبار لما يقنضيه الصالح العام والتصور الشمولي للا نسان في علاقته بالانسان وبالكون وبالله quot;إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكمquot;

ان دخول النزعات الذاتية والعنصرية والمصالح المادية في ترتيب الثقافات هو ما يهدد التنوع الثقافي في عمقه، ويقوض دعائم استمرارة كسنة ضرورية تنسجم واختلاف طبائع البشر، ومناطق وجودهم جغرافيا وتطور تاريخهم، واذا كان هذا هو الواقع في المحيط العبر دولي فانه هو ذاته داخل المجتمع الواحد بحيث تصبح الثقافة تابعة للدولة وتكيفها وفق ايديولوجيتها فتمنح الاعتراف الرسمي للغة وتقصي لغة اخرى، وتعتبر لغة وطنية، واخرى ترف فولكلوري، من هنا تخضع الثقافات داخل المجمتع الواحد للنزعة الاستعلائية، والاقصاء وداخل المدينة الواحدة وداخل الحي الواحد، وهذه النزعة العنصرية التي تتحكم في النظرة الى اللغات والثقافات ومن ثم تصنيفها وفق تراتبية الاهم والاقل شأنا هو ما يهدد التنوع الثقافي في اتجاه استنساخ ثقافي كوني منسجم ظاهريا ومتصارع ومنفتح على الصراعات داخليا.