عواد علي كتب:يعد بيتر أكرويد (مواليد لندن 1949) أشهر كاتب سيرة انجليزي معاصر، فضلاً عن كونه شاعراً وروائياً وناقداً، فقد ارتبطت باسمه سير أبرز الأدباء الإنجليز (ديكنز، وليم بليك، ت. س. إليوت (ترجمها الى العربية باقر جاسم محمد)، توماس مور، وأخيراً شكسبير). وهو يسهم منذ سنوات بشكل نشيط في صحيفة (التايمز)، ومجلة (سبكتيتير)، بوصفه ناقداً أدبياً ومحرراً في الشؤون الثقافية والاجتماعية. ومن أشهر رواياته: (أوراق افلاطون: النبوءة، شاترتون، الضوء الاول، منزل الدكتور دي، أضواء لندن، والخرّاط). ويجمع اكرويد في أسلوبه الروائي بين تقنيات متعددة أكثرها أهميةً النوع الذي يلغي الحدود بين كتابة الرواية وكتابة السيرة، ففي كتابه (لندن: السيرة)، الصادر عام 2001، يقدم انطباعاً تاريخياً عن العاصمة البريطانية يعتمد فيه على صورة تقريبية كرونولوجية في تعيين التواريخ الدقيقة للأحداث، وفي رسم الصورة والجوهر اللذين تتميز بهما هذه المدينة العالمية بوجهها العصري الحديث والقديم المقتبس، في أغلبه، من الكتب والروايات المعاصرة، وفيه يبدو واضحاً للقارئ اعتماد المؤلف على مصادر كالصحافة، والحكايات الشعبية، وسجلات المحاكم، وكتب السيرة، والتواريخ الكنسية، والأعمدة، والمقالات الصحفية.
وعلى الرغم من كثرة السير التي وضعت لشكسبير، فقد غامر أكرويد في كتابة سيرة هذا العبقري في كتابه الضخم الأخير (560 صفحة) الذي يحمل عنوان (شكسبير: السيرة) الصادر عن دار النشر اللندنية (Chatto and Windus ( في سبتمبر الماضي. ومن البديهي أن يخوض أكرويد، في هذه السيرة الضخمة، في تفاصيل شتى عن حياة شكسبير الاجتماعية، ورؤيته الفكرية والسياسية والدينية، ووضعه الاقتصادي، ونتاجاته الدرامية والشعرية، ومكانته الإبداعية بين معاصريه. ففي ما يخص الاحتمال الذي بحث فيه ستيفن جرينبلات، وبارك هونان، وآخرون، وهو أن شكسبير ربما كان مسيحياً كاثوليكياً، أسوةً بأهل مدينته ستراتفورد، يتوصل أكرويد في تأملاته إلى أنه، من المرجح جداً، لم يكن مؤمناً ألبتة، وبقي متجرداً، على نحو متعمد، حتى في المسائل الخاصة به، أو السرية. ويبدو أن اهتمامه الأساسي، خارج الأبداع، كان منصباً على إدامة موارده المالية. ويستنتج أكرويد من ذلك أن شكسبير ربما كان بخيلاً إلى حد بعيد إلى درجة أن جيرانه في ستراتفورد كانوا يتذمرون منه، ويعيبون عليه إدخاره الشعير! ومن علامات بخله أنه أورث في وصيته 10 باونات فقط لأحد فقراء المدينة، على الرغم من كونه ثرياً!
ويرى أكرويد أن شكسبير كائن جنسي على نحو مفرط، فمسرحياته فيها من البذاءة أكثر مما في مسرحيات معاصريه. ويقارن بين هذا الإفراط الجنسي في التأليف، والشحة، أو البخل في حياته الاجتماعية، مؤكداً على أن مثل هذه التناقضات تزخر بها شخصيته في صورة شاعر غامض. ولكن أكرويد يتجنب اتخاذ سونيتات شكسبير مرجعاً غالباً ما عبروا عن حالات، أوSonneteersيحيل الى حياته الشخصية، منبهاً القارئ إلى أن مؤلفي السونيتات قدموا صوراً ذات علاقة ضعيفة بتجاربهم الحياتية.
وعلى الرغم من أن شكسبير، حسب مؤلف السيرة، ربما لم يكن يرى أسرته الخاصة أكثر من مرة في السنة، خلال حياته العملية، فإن نصوصه المسرحية تدور حول الأسرة أكثر من نصوص معاصريه، بيد أن ذلك، في رأيي، لا يمنح شكسبير امتيازاً في تاريخ الدراما، فالتراث المسرحي الأغريقي يدور في معظمه حول الأسرة (أسرة أوديب، أسرة أجاممنون).
يصف أكرويد شكسبير بأنه كان ذا نزعة محافظة في معتقداته السياسية، وبأنه الكاتب المسرحي الوحيد في عصره الذي نجا من مشكلة التفويضات، فشريعته تكشف عن أنه استمد الرؤية المعتمة للدهماء المتعددي الرؤوس، كما أنه كان، بوصفه فناناً، مبدعاً مجدداً: quot;الكاتب المسرحي الانجليزي الأول الذي جعل من الغناء جزءاً لا يتجزأ من المسرحية.. وهكذا فإنه يعد خالق المسرح الموسيقيquot;.
وطبقاً لأكرويد فإن شكسبير، الذي كان حكيماً، وبارعاً في تجسيد الاتجاه الشعبي، لم يكن يقتبس مما يقرأه إلاّ ما يحتاج إليه فقط. إن مخياله كان استيعابياً واسع الأفق مما جعل فنه يفيد، على نحو مؤكد، من تجربته ممثلاً، وعضواً في فرقة مسرحية أمدته بنماذج الممثل لشخصياته الدرامية، والتغذية الاسترجاعية الدائرة في حواره. لقد منحه العمل المغلق مع محترفي المسرحدةً ومضاءً أكثر من الكتاب المسرحيين الذين لم يكونوا ممثلين مثله، ويفتقرون إلى براعته المشهدية.
ويرى أكرويد أن شكسبير، في طريقة تأليفه لأعماله، كان يكتب بـ quot;ضراوةquot; وquot;سرعةquot; وquot;كثافةquot;، مثل من هو منقاد إلى منافسة في سباق يتعذر قياسه، رغبةً منه في أن يكون الأفضل في كل أشكال الكتابة التي جربها ونجح فيها. ويستنتج أكرويد من ذلك، ضمناً، أن المشاهد الشكسبيرية الحاسمة (النهائية) تُظهر علامات التعب في الكتابة،على الضد من المشاهد الافتتاحية الملهمة.
وتعلق الباحثة الكندية فيليبا شيبارد، مؤلفة كتاب (شكسبير والفيلم)، على الصورة التي يرسمها أكرويد لشكسبير، بأنها تفتقر إلى عاطفة تلك الصور التي رسمها له جرينبلات، أو جوناثان باتيس، اللذين كرسا شبابهما لدراسة الرجل، ولكنها تبدو صورةً عقلانيةً يمكن الوثوق بها.
التعليقات