-1-
القصة هي أكذوبة يختلقها الراوي، ويصدقها، ومن خلال عملية الصدق هاته، يقدمها للمتلقي داعيا إياه للولوج في/إلى عوالمها، باعتبارها عوالم حقيقية، أساسها التخييل الذاتي تارة والموضوعي تارة أخرى. القصة هي حكاية أولا وأخيرا، وفي غياب هذه الحكاية تتحول القصة إلى حكاية لهذه اللاحكاية نفسها، هكذا إذن تتشكل القصة معبرة عن وجودها الإبداعي، من خلال تصويرها لشخصيات معينة وخلقها للأحداث مرتبطة بها، إن على مستوى الفضاء المكاني أو الزماني، أو هما معا. القصة هي جنس أدبي مستقل بذاته، لا هي وسيلة للتمرن على كتابة الرواية، ولا هي قصيدة نثر فقدت بوصلتها التجنيسية، فتدثرت بفن القصة، خوفا من مطارق المتلقي.القصة هي قصة لا أقل ولا أكثر، تتشكل في عوالم محددة، تنطلق من حدث لتصل إلى حدث موال له. القصة وهي تجرب أدوات كتاباتها المختلفة والمتعددة تمنح لذاتها حق التواجد المتعدد الرؤى والأبعاد، ومن هنا صعوبة تعريفها تعريفا بسيطا، يحشرها في الانتظام الحكائي، وفق تسلسل سردي محكم، ولا يتركها مرة تتحدى كيانها من خلال تفكيك بنيانها القديم وإعادة صوغه من جديد. القصة، حتى وإن كان صوت أحادي هو الذي يعلن عن تواجدها، فهي تتجاوزه نحو التعدد الأصواتي، وهي في هذا، قد تقترب من الرواية، لكنها لا تندمج في كيانها، هو اقتراب أجناسي تلاقحي ليس إلا، القصة في تعددية أصواتها تحتكم في/إلى خيط سردي رفيع، يلمها في قالب حكائي متقن الصنع، يقدم في مقام واحد، ولا يتجاوزه إلى مقامات أخرى.
-2-
تنبني القصة في هيكلها العام على حدث ضروري، الحدث ضروري للقصة، وإلا فإنها مجرد خواطر سردية، تظل مقتربة من فن السرد في عموميته وفي كليته، وليس في أجناسيته القصصية المحددة، القصة هي التفاتة سردية تدور في حلبة مملوءة بالمعاني، أكانت هذه المعاني قابلة للفهم أم غير قابلة له، وهو ما يبعد عنها السقوط في التوهم القصصي، الذي مهما كان جميلا، فهو يظل أبعد ما يكون عنها، القصة جنس أدبي تعبيري، أساسها الحكاية، لكنها تتجاوزها في بعض تجلياتها إلى ضدها أيضا، مكسرة بنياتها، ومعيدة تشكيلها من جديد، وفق رؤية قصصية تتجاوز العتيق إلى ما هو قيد التشكل الحداثي، الذي لا ينبني في كليته إلا انطلاقا من رغبة المتلقي في إعادة كتابته من جديد. هذا المتلقي الذي يتحول إلى مؤلف ثان للنص، وليس إلى مبهور به، ذلك أن النص القصصي لا يمنح ذاته أبدا، سواء تعالق الأمر بالقراءة الأولى أو حتى بالقراءة الألف، النص القصصي هو نص مفتوح، وفي انفتاحيته، تكمن صعوبة السيطرة على دلالاته، وحده المتلقي الفطن من يمنحه الدلالة التي لا يتحمله إلا هو، في حين أن متلقيا غيره، قد يمنحه دلالة أخرى مغايرة. إن كتابة النص القصصي هنا تأخذ صبغة التجريب الكتابي، لكنه ذلك التجريب الذي قد تهيأ على نار هادئة، أساسها القراءة المتعمقة والدربة المستمرة، والانفتاح على مختلف الأجناس الإبداعية الأخرى.
-3-
الكتابة القصصية لا لون لها، لكنها تحمل الماء في طياتها، وتتنفس الهواء الأدبي في مختلف تجلياته، من هنا تأتي صعوبة كتابتها، فلا هي نص روائي، ولا هي تمهيد له، لا يمكن أن نعتبر فصلا روائيا، مهما كان محكما الصنع، نصا قصصيا إلا تجاوزا، ذلك أن النص القصصي هو بنية مكتملة العناصر، لا تقبل الحذف، كما لا تقبل الإضافة أيضا، النص القصصي ليس قصيدة نثر، حتى وإن تشبه بها في بعض حالات تجلياته، توظيف المفارقة في النص القصصي تختلف اختلافا كليا عن توظيفها في قصيدة النثر، ومهما كان النص القصصي قصيرا، ومهما كانت القصة القصيرة جدا، المعبر بها عنه، فهي ليست قصيدة نثر، وما ينبغي لها أن تكون، إذا هي أرادت الحفاظ على هويتها القصصية المتميزة. القصة القصيرة هي تجريبية بالضرورة، لكن ليس معنى ذلك، هو الانفلات العشوائي المدمر لكل بنياتها، إذ في هذه الحالة لا تعدو أن تكون مجرد هلوسات أدبية، قد تنتمي إلى كل الأجناس، إلا إلى جنس القصة. القصة قد تكون دائرية أو امتدادية، لكنها يجب أن تعرف الخط السردي الذي تمضي فيه، مهما تعددت اتجاهاته ومهما تشعبت الرؤى المعبر عنها داخله، القصة هي بنيان محكم الصنع إذا انهارت منه آجورة واحدة انهار كله، لأنه بنيان نسقي. قد يعتمد على العفوية حينا، لكنها تكون عفوية نابعة من العمق الإبداعي الذي لا يتحقق إلا بعد الدربة الطويلة والدراسة العميقة.القصة قد تكون تدميرية لأدوات اشتغالها على مستوى تكوين بنياتها، لكنها وهي تدمر البنية القديمة تؤسس في نفس اللحظة بنية قصصية جديدة على أنقاضها..
-4-
القصة، تحقق شاعريتها اعتمادا على مجموعة من الانزياحات التركيبية والدلالية التي تتحقق ضمن بنيتها الكلية، وهي في عملية التحقيق هاته، يُصاحبها الطبع الإبداعي، والبصمة الخاصة بكاتبها. القصة لا تكتب إلا مرة واحدة، مثلها في ذلك مثل النهر، لا يمكن السباحة فيه مرتين. وحين تعاد كتابتها من جديد فتلك قصة أخرى، قد تكون أختها الشقيقة لكنها ليس هي بالتأكيد، القصة لا تتحقق انطلاقا من الأفكار التي تعبر عنها، الأفكار موجودة في كل الأجناس الأدبية الأخرى، ومعروفة ومتداولة بين الناس. القصة تكتب من خلال الكلمات التي تشكل بنياتها، القصة تكتب بواسطة التوليف الكلامي الذي يخلق لها عالما خاصا بها. من هنا من السهل أن تنثر الأفكار في خواطر سردية، لكن من الصعب أن تشكلها مجتمعة في قصة محكمة الصنع. القصة تبقى دائما بعيدة. وهي لا تأتى إلا في آخر الليل، مثلها في ذلك مثل الفلسفة. الذين اعتقدوا أن كتابة القصة القصيرة وسيلة للتمرين على كتابة الرواية، سقطوا في الامتحان، لم يكتبوا أبدا القصة القصيرة، ولم يكونوا لها أبدا كاتبين، لقد كتبوا فصولا روائية ليس إلا، لكن القصة القصيرة ظلت مستعصية عليهم. جميع القصص القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ تنتمي إلى هذا النوع، لهذا فقد حولها إلى نصوص روائية ناجحة، في حين ظلت هي كقصص مثل كل النصوص الروائية ليس إلا، والعكس أيضا صحيح، فتحويل نصوص قصصية قصيرة إلى رواية عن طريق عملية التجميع، يضر بالرواية، في حين تحتفظ هذه النصوص المحولة بقوة حضور الفن القصصي القصير فيها، و معنى هذا كله أن القصة القصيرة لا تشبه إلا ذاتها.
-5-
القصة هي تقصي، القصة بحث مستمر في الحياة، في الأحداث الواقعة فيها وإعادة تشكيلها وفق اللحظة الفضائية المحددة لها، وإعطائها بعدا تكوينيا جديدا، يسمح لها بالانفلات مما هو آني إلى ما هو تجاوزي للكينونة المكانية والزمانية، القصة هي بحث في الإنسان، بشتى انفعالاته النفسية والذهنية والاجتماعية والفكرية، لكنها بحث إبداعي غير تعسفي، هي بحث في هذه الرؤى لكن في إطارها التخييلي، القصة من هذا الجانب هي إعادة المتخيل الشعبي إلى الوجود، وتقديمه وفق بنيان حكائي، منسجم أو منكسر، لا يهم، لكن في إطار كياني قصصي، بحيث يتحول هذا المتخيل إلى مادة حكائية ليس إلا، في حين أن القصة هي التي تجعل منه سردا قصصيا ينتمي إلى حظيرتها الأجناسية المحكمة. القصة تتميز بالتنوع والغنى، ولا تقتصر على جيل دون آخر ولا على شكل دون آخر، القصة موجودة منذ بدأ الإنسان يعرف فن الحكي إلى المرحلة الحالية، وستبقى إلى آخر لحظة زمانية ومكانية، يتواجد فيها الإنسان. القصة مرتبطة بفن الحكي، والحكي هو طبيعة إنسانية بامتياز، القصة من هنا هي جموع القصص المكتوبة كلها، وليست واحدة إلا مجازا. قد تحتوي القصة على قصص صغرى، لكن هذه القصة تظل في بنائها خاضعة للقصة الإطارية، ولا تعد قصصا مستقلة بذاتها، إذ في غياب القصة الإطارية تتحول هذه القصص الصغرى إلى مجرد حكايات، مثلها مثل الحكايات الأخرى المتداولة، ومن ثمة، فهي تفقد شرط انتمائها القصصي إلى هذا الجنس الصعب. القصة هي مستقبل السرد في اختلافاته المتعددة، لأنها تحتوي على المتعة السردية، وعلى السرعة في الانتشار وعلى القدرة في التواجد في كل المنديات، وهي بذلك قد تفوق الرواية في هذه المجالات المذكورة، القصة امتداد سردي نحو المستقبل.
-6-
القصة تتعالق مع الأجناس الأدبية الأخرى، بل تتعالق مع الفنون السمعية والبصرية أيضا، القصة يمكن أن تحكى في لوحة تشكيلية، وتحافظ على جمالية السرد المتواجد فيها، القصة قد تحكى في البرامج الإذاعية، وتجد آذانا صاغية لها، القصة قد تتحول إلى فيلم سينمائي قصير أو طويل، وتحقق حضورا فنيا مضاعفا، القصة هي وليدة هذه التفاعلات وفاعلة فيها أيضا. القصة تساير بقصرها أيضا مختلف التحولات التكنولوجية الحالية، فهي حاضرة بقوة في مختلف المواقع الإلكترونية الثقافية، بل هناك مواقع مخصصة لها تحديدا، وهو ما يمنحها امتدادا عالميا، يتفوق على باقي الأجناس الأدبية الأخرى، خصوصا الإبداعية منها. فالقصيدة تظل قصيدة مهما بلغت جماليتها، فهي تحتاج إلى ديوان شعري يضمها إلى القصائد الأخرى، والرواية حتى ولو نشرت إلكترونيا، فهي لا يمكن أن تقرأ إلا وهي مجمعة في أوراق، لكأنها تعاد إلى صيغتها الورقية الأولى، في حين أن القصة تظل مكتفية بذاتها، تقرأ وتفهم وتحلل وتترجم، في استقلالية عما قبلها من قصص وعما بعدها من قصص. القصة هي أدب المستقبل بامتياز.
كتب هذا البيان القصصي يوم 01/01/2006
Noureddine Mhakkak
التعليقات