يتيح الشكل القصصي للقاص بالتنوع وعرض التجارب من خلال قصصه غير أن ذلك يبقى محدوداً حين يقارن بالرواية التي تمتلك مدبات أوسع، ولهذا يمكن لكاتب القصة القصيرة ان يركز على تخطيط الشخصيات فيرسم خطوطها ويحدد ملامحها ويعرض شريحة من حياتها. كما أن القاص يحاول قدر الإمكان ان يختار بعناية اللغة التي تناسب قصته ويتعامل معها بمهارة ومرونة ليقربنا من الجو العام للقصة.
إن القاص يحاول تجميع صور متنوعة متناثرة ليقدمها لنا محبوكة على شكل قصة، فالشكل الجديد هو صتاعة المؤلف في خليط متناسب من الخيال والواقع واللغة المنتقاة، ويحاول تقديمها بشكل بعيد عن القص التقليدي المستهلك. إن القاص المعاصر ينبغي أن يطلع على الأشكال التقليدية للقصة ليحاول بعدها خلق أشكال جديدة مبتكرة.
لقد أتاح لنا الأنترنت الفرصة للاطلاع على تجارب لم نكن قادرين على الوصول إليها لولا الانترنت. أطلعت على قصة مؤازرة للمغربية ربيعة ريحان وهي تتحدث عن البطلة التي ذهبت مع زوجة أخيها الى السوق، فتستعرض القاصة هذه الرحلة التي مرت بها على الحمالين الذين تضج بهم الأسواق الشعبيةهناك، ومن خلال هذه القصة تعرض لنا القاصة جانباً من حياة هذه الفئة التي شاء حظها العاثر أن تتسرب الى الأسواق تتخبط في البحث عن المعيشة فقط وليس الحياة، وما تلاقيه من معاناة كل يوم.
تستخدم القاصة ربيعة ريحان ضمير المتكلم في قصصها في محاولة منها لتبني موقف ما، وهي تنقل الواقع نقلاً جميلاً بلغة أقرب الى الكاميرا فتجعل القارئ قريباً من هذه الأجواء (العفنة) كما تصفها حيث ترى quot;أحذية مهروسة بلا كعوبquot; دون أن تنسى نقل إحساس شخصياتها بالانسحاق ومحاولة التمرد عليه، وإحساسها الذاتي تجاه تلك الشخصيات، معلنة انحيازها لكل ما هو إنساني، متعاطفة مع حيوات هؤلاء الذين شاءت ظروفهم أن يكونوا ضمن الطبقة المسحوقة في quot;بؤس يدمي العينquot;.
في قصص ربيعة ريحان نعثر بسهولة على المفردات المحلية، التي لا يصعب فك معانيها ولو من خلال السياق، quot;ايه آ مدام.. واش ندير ؟؟..quot; وquot;(لوستها)؟.quot; وهي محاولة لجعل الشخصية تعبر عن نفسها بصدق حيث اللغة المؤشر الأول على طبيعة الشخصية، دون أن يخل ذلك بلغة القصة بل يمنحها صدقاً وواقعية أكثر.
القصة القصيرة هي لحظات تكثيف ينقلها القاص الى القارئ، شرط أن يكون فيها ما يستحق الوقوف عنده ونقله الى القارئ. تلجأ القاصة الى الربط بين موقفين لتبين وجهة نظرها في موضوع ما، كذلك الذي ذكرته في القصة عن مناداة الباعة للزبونات بمفردات مثل quot;الحاجةquot; وquot;الوالدةquot; وهو تعبير عن احترام غير أن ذلك يزعج بعض النسوة حين يذكرهن باعمارهن، وما تذكره عن زو جة أخيها في مثل هذا الموقف واخفائها لضحكاتها منها، وتنقل عنها كيف أنها تداري هذا الأمر وهي لفتة ذكية ولا شك.
حفلت القصة بمواقف ذات أهمية منها الفوارق الطبقية التي طالما دافع عنها الفنان والمبدع، تصرح به ربيعة في قصتها quot;مؤازرةquot; رافضة على لسان إحدى شخصياتها اقتحام الأغنياء لأسواق الفقراء ومزاحمتهم لهم في لقمة العيش quot; السوق مليء بهم وبسياراتهم ومن حولهم تجري هذه المخلوقات التي تتداعى تحت الطلب شعور بالمهانة والمرارة معاً. يتعاملون معهم أحيانا بصلف، ويطلبون منهم أن يتريثوا قليلا كي يتحينوا سخاء الفرص لانتزاع مشترياتهم بأقل الأثمان..quot; تمارس انحيازها أكثر حين تعبر عن اشمئزاز زوجة أخيها من الحمال quot;فيه رائحة الحمير..quot;
لا تتعامل القاصة ربيعة ريحان مع القصة على انها سرد حسب، وإنما توظف له كل أسباب المعرفة المتاحة لديها، فطالما ذكرتنا بعض الروائح بأشياء قريبة الى نفوسنا، فهي ترتبط غالبا في الذاكرة بشئ عزيز علينا، وهي حين تتسرب الى انفها رائحة معينة فهي تعود بها الى دار الطفولة والحي القديم الذي فارقته الى المدينة حيث الركض هو سمتها العامة quot;أحب هذه الرائحة الزكية التي تقفز بذاكرتي إلى دروب حينا الآهلة، هناك حيث يركد متداعيا كل شيء، الرائحة والألوان والأمانيquot;
ترى القاصة في هؤلاء الحمالين أناساً فقدوا القدرة على احتمال تنكر الآخرين لهم إنهم quot;يضيقون ذرعا فينفلت عيارهمquot; فيعبروا عن سخطهم بأشكال شتى، هؤلاء الحمالون افرازات المدن الكبيرة وفضيحتها، يمارسون غواياتهم لمن مثلهم لكي يتحولوا الى جيش من المتمردين يقدمون عروضهم المجانية للمارة، وإذا لم يجدوا من يحتكون به أصطدموا فيما بينهمquot; ويظلون وهم يقتتلون لفترة كالثيران فرجة للمارة والعمال المتصايحين..quot;. ترسم القاصة مشهداً بانورامياً لأحوالهم وقد ملأوا الدنيا ضجيجاً وصفيراً كلما مرت امرأة من أمامهم تستثير رجولتهم الكامنة quot;والذين في الأعلى على شفا الأسطح أو في الشرفات، يزعقون بمكر أو يطلقون صفيرهم المرح، وهم يؤرجحون حبالهم القوية مؤججين روح الفتنة التي أوقد نارها عبور امرأة هيج مرآها شهوتهم الخاملة، رغم أنها غابت في عرض الطريق.quot;
للقاصة انتقالاتها الجميلة من مشهد مليء بالفوضى العارمة الى هدوء وسكينة، وكل ذلك يتم بلغة مختصرة منتقاة بعناية quot;هكذا يمزحون ويفرحون لينسوا ضيقهم، قبل أن يلتفوا ساعة الغذاء حول شايهم المغلى ممتثلين في صمت إلى وهن أجسادهم ونشوة السجائر الفظة التي يتساقط رمادها من بين أصابعهم الثخينة المشققة.quot;
حفلت القصة أيضاً بطقوس الأعراس، حيث الديك المذبوح وسط العرس لتهدئة العاصفة التي داهمتهم، ثم تنقل إلينا واقعاً مؤلماً حين يضطر المرء الى أن يؤجر بناته كخادمات في البيوت ، ويزداد الأمر سوءً حين تكون هؤلاء البنات مطلقات. لا تحاول القاصة رسم صورة وردية لبنات بلدها، وإنما تصرخ محاولة انتشالهن مما هن فيه. إن قيمة العمل الأدبي تتعاظم كلما كان هدفه نبيلاً.
أما (المؤازرة) التي تحمل عنوان القصة فهي عن مؤازرة البطلة الشامتة بزوجة أخيها اول الأمر (وهي هنا القاصة) فتتحول حين يأتيها حمال آخر يزعجها مرة أخرى بمناداتها يا حاجة، لتصطف معها ربما بشعور أنثوي طاغ تندفع بهذا الاتجاه. كنت أتمنى أن تحمل القصة إسماً آخر دلالة عن الحمالين فهم مركز العمل، لا المؤازرة عن موقف صغير.تبقى قصة quot;مؤازرةquot; قصة متميزة عالجت بذكاء وبفنية عالية ملامح مهمة في الحياة المغربية نجحت القاصة في رصدها والتعبير عنها وأيصال رسالتها من خلالها.
التعليقات